غيرت وسائل الإعلام والصحافة بالخصوص وجه عالم اليوم بامتياز. ولقد لاحظنا الدور الخطير الذي لعبته الصحافة الغربية سواء إبان عقود الاستعمار القديم أو في الظروف الراهنة لانتعاش امبريالية جديدة، تحاول السيطرة على العالم بحد الصورة والكلمة. لهذا فإن المهمة التي على عاتق الصحفي العربي من أجل المساهمة في تربية أمته وأبناء قومه لجد جسيمة. ومن بين المهام المستعجلة فضح الاستبداد بكل أنواعه، وخاصة الصغير منه. ويتجسد هذا الأخير في ممارسات بعض المسؤولين أثناء القيام بهامهم. ما ينخر جسد هذه الأمة هو كون الكثير من الموظفين – صغارا وكبارا - يتجاوزون حدود تخصصاتهم ومسؤولياتهم، بل أكثر من هذا يستخدمون السلطة التي تخولها لهم مهامهم لأغراض بعيدة كل البعد عن صلاحياتهم. ما يشجع الصحفي على القيام بمهمته التربوية هذه هو كون نسبة مهمة من الأجيال الحالية التي تتكون منها الشعوب العربية تحسن القراءة والكتابة. ومعنى هذا أن كلمته إن كانت حرة نزيهة لابد لها أن تجد الأذن والعقل اللذين يصغيان لها. فكل صحفي هو إلى حد بعيد محامي قومه وشعبه. ومهمته هذه تحتم عليه أن يسهر على الدفاع عن مصالحها. وبما أنه محام، فإن دفاعه يجب أن يتركز أساسا على الضعيف ووضع حد لتلاعبات واستبداد القوي به. إننا نعي العقبات التي تعترض مهنة الصحافة، ونعي المآزق الكثيرة التي يمكن أن يسقط فيها ممارس هذا النشاط المهني. فالطريق الذي يمشي عليه الصحفي العربي الشريف جد شائك، يقود في كثير من الأحيان إلى مصير غير مرغوب فيه. وبدون هذا السبيل فإن الأمور لن تتغير، وحال هذه الأمة لن يتحسن. إننا مقتنعون أن القضاء على الإفراط في إساءة استعمال السلطة، لن يتأتى إلا بالدور الذي يجب أن يلعبه الصحفي. فنبرة الكتاب والصحفيين تمكن من قياس تقدم أو تأخر الأمة في شتى المجالات. وحرية الصحافة هذه تفرض على الأفراد الذين يكونون الأمة، وليس فقط الأمراء والرؤساء ومن يحيط بهم، السلوك الحسن والسيرة المثالية لما يجب أن تكون عليه شعوبنا. فالظلم في حد ذاته ما هو في آخر المطاف إلا عماء أحمق، خطأ ضد العقل والحس السليم. إنه بكلمة مختصرة فقدان ملكة الصواب. وهنا بالضبط يتمثل الدور الذي يجب على الصحفي القيام به، ألا وهو التنديد بهذا الاستعمال السيئ للعقل والنداء إلى إصلاح العطب بإنارة الجمهور، أي العقل الجماعي أو العقل العمومي، أو العقل العام إلخ. ويعتبر هذا العقل الشعبي بحق لجام الاستبداد، إذا كان مربى بما فيه الكفاية. ولا نخفي رغبتنا في اعتبار هذا العقل الجماعي بمثابة المحكمة الأخلاقية العليا التي تحكم الأفعال والقرارات. بمعنى أن الحاكم والمسؤول محكومان أساسا بالشهرة العمومية المعروفان بها، سواء أكانت حسنة أو خبيثة. هناك قانون أخلاقي تمليه الشهرة، أي الرأي العام، وهو القانون الذي تخضع له السلوكات العمومية. وهذا القانون يؤثر أو يعمل بطريقة غير مباشرة، لكن بنفس القوة كالقانون الوضعي. فالجماهير العربية لم تعد تهاب السلطة، لأنها وعت بأنه لم يبق لها أي شيء يمكن أن تخاف على فقدانه، بعدما فقدت الأمل في حياة أفضل ماديا ومعنويا. وفقدان هذا الأمل هو الذي يحرك الجماهير العربية من الخليج إلى المحيط للمضي قدما من أجل هدم كل السلطات الموروثة، ومحاولة بناء جديد أفضل. فقد أكدت الأحداث المختلفة لنهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي في كل الأقطار العربية أن أسلوب الإرهاب والترهيب في ممارسة الحكم لم يعد ناجعا لإدارة أمور هذه الأمة. ولقد حدث نفس الشيء في تاريخ الإنسانية ابتداء من اليونان القدماء حيث أن الخوف Phobos، الذي حكم به الملوك، ترك المكان ل L'Eutunia، التي تعني الشرح والتبرير، والذي يفسح الطريق بدوره إلى L'Isonomia، أي حق الجميع في ممارسة السلطة. لابد من الإشارة إلى أن الدور التربوي الذي على الصحفي العربي أن يلعبه لن يقتصر فقط على تنوير الشعوب من أجل وعي مصالحها، بل يجب عليه أن يمارس كذلك نوعا من الديالكتيك التربوي الاجتماعي. يجب عليه أن ينور الرأي العام بتوجيهه إلى تصحيح أفكاره، وخاصة إقصاء الأحكام المسبقة في طريقة تفكيره. يجب تقويم ملكة الحكم عند الرأي العام، التي أصيبت على امتداد السنين بما يمكن أن نسميه هنا بانحراف الكتاب، أو الكثير منهم، عن مهمتهم السامية بالانضمام إلى ذيول السلطات، أو فقط إلى أنواع أخرى من التطرفات الفكرية والسياسية، والتي لا تقل ديماغوجية عن السلطات القائمة. إن محاربة الديماغوجية، كيفما كان نوعها، لن تتأتى إلا إذا عرف الصحفي بحق دوره المجتمعي. فإذا كان العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه مستبدا به سياسيا، فإنه يعاني كذلك من الديماغوجية التي تمارسها أغلبية القوى المعارضة ووسائل إعلامها. ومن بين الديماغوجيات القاتلة، التي تدفع جماهير شعبنا إلى اختيار التطرفات الفكرية والسياسية، إن عن وعي أو دون وعي، هي كون قوى ما يسمى بالمعارضة، توهم شعوبنا المغلوبة على أمرها بأن كل المشاكل ستحل عن طريق القضاء على السلطة القائمة. إن ما يطرح بإلحاح على الصحفي العربي اليوم هو مدى قدرته وانفتاح بصيرته في اختيار الخندق الذي يجب أن "يحارب" فيه. ليس من الصعب على الكاتب والمثقف عموما الالتحاق بذيول السلطة، لكن ما هو أصعب هو التنبؤ بالرأي الذي سينضم إليه، عن طواعية واختيار، جمهور الشعوب العربية في العشرين سنة القادمة. من هذا المنطلق فإن المهمة التربوية الملقاة على عاتق الصحفي هي تربية وتسلية الشعب. وهي في آخر المطاف مهمة مزدوجة على اعتبار أن التربية تفرض التنوير. وكل مهمة صحفية لا تأخذ بعين الاعتبار نصيب الترفيه في عملها مقادة لا محالة إلى الفشل. ونعتقد أن الحالة الراهنة لمجتمعاتنا العربية، المصابة بالملل في انتظار الغد الأفضل، تتطلب أكثر من الدعاء إلى أخذ الطريق السليم نحو مستقبل أفضل، بل لا بد من تحبيب هذا السبيل والعمل على تشجيع الشعوب على خطو الخطوات الأولى فيه. وكل صحفي نبيه وذكي يعرف جيدا بأنه لابد له من أن يجمع في كتابته بين الترفيه وحسن النكتة والجد والأمانة المهنية للحرف. فنجاح الكاتب الصحفي، أو أي كاتب، لا يقاس بكمية إنتاجاته الغزيرة، بل بعدد القراء الذين يهمهم ما يكتبه. ولابد لنا أن نحيي جبروت الرواة الشعبيين في أسواق مدننا، الذين تعلموا بالممارسة فك السر السحري للكلمة، وجلب انتباه المتفرج وتركيز انتباهه على مضمون ما يريد إيصاله له. وهنا لابد أن نوحي للصحفي والكاتب الذهاب إلى "المكتبة الشعبية" لإتمام تكوينه، لأن الظروف الراهنة والتحديات التي يواجهها بها المستقبل تحتم علينا جميعا الخوض في واقعنا وتفتيت ذواتنا وتحليل عميق لأنفسنا من أجل بناء أفضل ومتين.