في حوار مع الباحث المغربي جميل حمداوي هو قنديل من قناديل مدينة الناظور، أسدى لمدينته، عبر سعيه الثقافي المتميز، خدمات جُلى، حرص على أن يكون ضمن من ساهم في أن ينتشلها من "وحل" اللامبالاة.. لا شيء خارج دائرة اهتماماته، لا يؤمن بالتخصص في مجال واحد، بل يسعى لامتلاك سعة في المعرفة عبر الإبحار في معالم كثيرة؛ لذلك فهو مثقف موسوعة، له أكثر من تسعين كتابا، تتوزع بين التربية، والنقد، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والأمازيغية، والشعر، والفلسفة، وغيرها من حقول المعرفة المتنوعة. له نصيب من اسمه الشخصي، وأقصد هنا الجانب الروحي الجميل لدى الرجل، يسدي خدمات جلى لأصدقائه، يناصر الثقافة، ويشجع المثقفين، الشباب منهم خاصة. هو رئيس "جمعية جسور للبحث في الثقافة والفنون" بالناظور، وعضو نشيط في جمعيات عدة، اسمه له حظوته، لا يذكر إلا وترفع معه القبعة احتراماً وتقديراً لكفاءاته.. إنه بعبارة جميل حمداوي المثقف العضوي، وابن الناظور البار. أنت مثقف، وكاتب موسوعة، لذا دعني أولاً أستأذنك في أن نحصر حوارنا في مجال نقد القصة القصيرة جداً.. ما قصة انتشار هذا الجنس الأدبي بهذا الشكل المهول؟ بعد أن تربع الشعر على أدبنا العربي لقرون طويلة، إلا أن هذه البضاعة، في العقود الأخيرة، قد أصابها الركود والبوار والكساد، فحلت الرواية محله، وكان الإقبال عليها شديدا؛ والسبب في ذلك هو انتشار التعليم، واهتمام الدرس الجامعي بالسرديات بصفة عامة، وفن الرواية بصفة خاصة. بيد أن القصة القصيرة جدا أعلنت انقلابها الفني على الرواية بشكل مفاجئ، فأسقطت الرواية عن عرشها، واستطاعت أن تفرض نفسها في ثلاثة عقود متتابعة، من سنوات السبعين من القرن الماضي إلى يومنا هذا. ويعود انتشارها السريع إلى ما قدمه الانترنيت من خدمات جلى لهذا الجنس الأدبي الجديد تعريفاً وتنظيراً وتطبيقاً. وهذا ما جعل بعض الباحثين يسميها بالقصة التويترية. علاوة على تعقد الحياة اليومية على جميع المستويات والأصعدة؛ مما يستلزم ذلك الميل نحو السرعة في كل شيء. واليوم، أصبحنا نتحدث عن القراءة السريعة المركزة أو الماسحة أو الذكية. علاوة على ذلك، لا يستطيع القارئ أن يقرأ النصوص المسترسلة أو الروايات الكبيرة الحجم؛ لأن هذا يتطلب وقتاً طويلا، نفتقده اليوم بسبب تعقد حياتنا المعاصرة، وتشابكها بشكل كبير بين حين وآخر. أضف إلى ذلك الرغبة في التجريب والتجديد والانزياح وتكسير الطابو السردي، بالبحث عن الأشكال السردية الجديدة، فكان العثور على هذا الجنس الجديد. دون أن ننسى كذلك مدى التأثر بتراثنا السردي العربي القديم من جهة، والانفتاح على تجارب كتاب أمريكا اللاتينية الذين أظهروا مقدرة إبداعية هائلة في مجال القصة القصيرة جداً من جهة أخرى. وأكثر من هذا ما قدمه النقد العربي المعاصر من اهتمام بالقصة القصيرة جداً على مستوى التأريخ، والتنظير، والتطبيق، والتشجيع؛ فضلا عن انتشار الندوات والملتقيات والمهرجانات التي تخصصت في القصة القصيرة جدا. وغالباً، ما كانت هذه المهرجانات تعلن عن جوائز مادية ومعنوية في مجال كتابة القصة القصيرة جداً. وبعد أن كان انتشارها في العراق وسورية لافتاً للانتباه ما بين سنوات السبعين والتسعين، سرعان ما انتقلت إلى المغرب، في سنوات الألفية الثالثة، ليحضنها بشكل جيد، ويرعاها إبداعاً ونقداً وتشجيعاً. وبذلك، صار المغرب الحاضن الأول للقصة القصيرة جداً بدون منازع إلى يومنا هذا. في الناظور خاصة تأخذ القصة القصيرة جداً منحى مختلفاً مقارنة بمدن أخرى، من حيث كثرة الكتب المطبوعة، وكذا بروز كتاب لهذا الجنس بشكل لافت. كيف تفسر هذه الظاهرة؟ تعد مدينة الناظور عاصمة القصة القصيرة جداً في عالمنا العربي، بفضل مهرجانها السنوي الذي تسهر عليه جمعية جسور للبحث في الثقافة والفنون، ويخدمه أيضاً طاقم من المبدعين والمثقفين والنقاد المتميزين وطنياً وعربياً. وأكثر من هذا فمدينة الناظور هي التي حضنت هذا الجنس الأدبي الجديد بحرارة ورعاية وعطف كبير. واستطاع مبدعوها ونقادها أن ينتجوا أعمالا إبداعية ونقدية متميزة في هذا المجال، إلى أن تربعت هذه المدينة على أكبر إنتاج على الصعيد الوطني في مجال القصة القصيرة جداً. ولا ننسى كذلك ما قدمه أبناء هذه المدينة من إبداعات متميزة في هذا الميدان. ونعترف كلنا بقيمة ميمون حرش، وجمال الدين الخضيري، والخضر الورياشي، وعبد الواحد عرجوني، وعبد الله زروال، وسمية البوغافرية، وأمنة برواضي، وحسن المساوي، ونجاة قيشو في مجال الإبداع على الصعيد المحلي والوطني والعربي، وما قدمه فريد أمعضشو، ومحمد أمحور، ونورالدين الفيلالي، وعبدكم الضعيف هذا، من دراسات نقدية لمقاربة هذا الجنس الأدبي الجديد بنية ودلالة ووظيفة. بعضهم يكتب القصة القصيرة جداً كمن ينشر تقريراً أو خبراً بدعوى الحفاظ على صغر حجم النص . ما هي مقاييس النص القصصي القصير جداً الناجح برأيك كناقد؟ ثمة مقاييس ضابطة لجنس القصة القصيرة جدا نحصرها في الحجم القصير جدا ما بين نصف الصفحة والصفحة، وألا يتعدى ذلك إطلاقاً، وإلا أصبحت القصة أقصوصة كتلك الأقاصيص التي يكتبها المبدع المغربي إبراهيم بوعلو. ثم ضرورة الحفاظ على الحبكة القصصية من بداية، وعقدة، وصراع، وحل، وتوازن. وهنا، يمكن للمبدع أن يتصرف في هذه المكونات بالزيادة أو النقصان أو الاستبدال أو تغيير الترتيب أو استعمال تقنية الحذف، وتنويع البدايات والخواتم لمفاجأة المتلقي الضمني، وتخييب أفق انتظاره أو تأسيسه من جديد. ثم انتقاء الأوصاف الدقيقة، وعدم الإسهاب فيها إلى درجة اقتراب القصيصة من النفس السردي الروائي. علاوة على ذلك، يمكن للمبدع أن يوظف الجمل الفعلية، ويستخدم الإيقاع السريع في تحريك نغمة القصة وعروضها السردي، واستعمال ظاهرة التراكب الجملي، والمفارقة، والإدهاش، والإضمار، والتنكير، والسخرية، والصورة الومضة، وتحويل القصيصة إلى أسئلة محيرة على الرغم من الحجم القصير جدا. ويمكن كذلك توظيف الأجناس الأدبية الأخرى من حكاية، وشعر، وأحجية، ولغز، وكاريكاتور، وكذب، وكدية، ومقامة، وخبر، ووعظ... بشرط أن تحتفظ القصة القصيرة جداً على مقوماتها الأساسية، وهي: الحجم القصير جداً، والصورة الومضة، والحبكة القصصية، والإضمار، والمفارقة، وغيرها من الأركان الضرورية. أما الشروط، فيمكن التصرف فيها حسب مقدرة المبدع. لكم رأي في حجم النص القصصي القصير جداً، ولغيرك من النقاد آراء أخرى. في خضم هذه الاختلافات، لمن يحتكم كاتب القصة القصيرة جداً؟ يستهين كثير من المبدعين بحجم القصة القصيرة جداً، فتصبح هذه القصيصة رواية أو قصة قصيرة أو أقصوصة بسبب الإسهاب والإطناب الاستطراد، والإكثار من الوصف الاستقصائي. بيد أن القصة القصيرة جداً لها حجم محدد ومعين، يتراوح بين نصف صفحة وصفحة واحدة، بشرط أن تستوفي تلك القصيصة أركان القصة القصيرة جداً، بكلمكوناتها الدلالية والسردية والفنية والجمالية، وإلا أصبحت أقصوصة ليس إلا. تبنيتم مقاربة جديدة في القصة القصيرة جداً، وألفتم فيها كتاباً قيماً، سميتموها المقاربة الميكرو سردية. رجاءً، بعض التوضيح حول هذه المقاربة لمن لم يطلع على كتابكم؟ من المعروف أن لكل جنس أدبي مقاربة منهجية خاصة به، فللشعر منهجيته التي تقوم على دراسة المكونات الصوتية والإيقاعية والصرفية والتركيبية والدلالية والتداولية. وكذلك للمسرح والسينما والرواية والقصة القصيرة منهجية خاصة بكل واحد على حدة. أما القصة القصيرة جداً، فقد كان النقاد يقاربونها انطلاقاً من مقاربات سردية أو مضمونية أو اجتماعية أو سيكولوجية. وهذا نوع من الإسقاط المنهجي الذي يتنافى مع خصوصيات جنس القصة القصيرة جداً. وإلا كيف سنميز بين جنس سردي و آخر، إذا كانت المنهجية واحدة في التحليل والتقويم والقراءة؟ لذا، طرحنا منهجية عربية جديدة هي المقاربة الميكروسردية تحلل القصة القصيرة جداً من داخل هذا الجنس، برصد مكوناته البنيوية وسماته الفنية والجمالية. أي: تعنى هذه المقاربة الجديدة باستكشاف البنى الثابتة التي سميناها أركاناً (الحجم القصير جداً، وفعلية الجملة، والتراكب، والإضمار، والمفارقة، والصورة الومضة، والتنكير، والإدهاش، والمفاجأة، والحذف، والسخرية ، والتسريع...)؛ واستجلاء البنى المتغيرة في حضورها وغيابها، وقد سميناها شروطاً أو سمات(ما تشترك فيه القصة القصيرة جداً مع باقي الفنون والأجناس الأدبية الأخرى ). " الناظور عاصمة القصة القصيرة جداً" هل هو لقب جدي لهذه المدينة، حدثنا عن حيثياته، وكل ما له صلة بهذا الموضوع؟ فعلا، تعد مدينة الناظور عاصمة للقصة القصيرة جداً بفضل مهرجانها السنوي الذي بلغ الدورة الخامسة؛ والسبب في نجاح هذا المهرجان يعود إلى زمرة من الفاعلين المثقفين الذين ينتمون إلى جمعية جسور للبحث في الثقافة والفنون، أو يتعاطفون معها من قريب أو من بعيد. وقد اخترنا هذا التوصيف على أساس أن هذه المدينة هي التي تسهر على هذا الجنس الأدبي الجديد بشكل أو بآخر، بتنظيم ندوات وملتقيات لمدارسة هذا الجنس وتقويمه؛ وتشجيع المبدعين والمثقفين على الاهتمام به وكتابته؛ والمساهمة في التنظير والنقد خدمة لهذا الجنس الوافد علينا؛ والمشاركة في كثير من الملتقيات والمهرجانات المحلية والجهوية والوطنية والعربية التي تعنى بالقصة القصيرة جداً. ويعني هذا أن مدينة الناظور حاضرة في جميع الأحداث الثقافية المتعلقة بالقصة القصيرة جداً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فلايمكن تجاوز مجهودات أعضاء جمعية جسور في هذا المجال إبداعاً، وتنظيراً، ونقداً، وتوجيهاً، وتقديماً. كما أن الناظور هي الحاضنة لجميع المبدعين والنقاد والمثقفين العرب الذين يهتمون بالقصة القصيرة جداً، وهي التي تشرف كذلك على الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا. مهرجان الناظور للقصة القصيرة جداً في نسخته الخامسة كما أعلنت جمعيتُكم جسور للبحث في الثقافة والفنون في مارس المقبل 2016، ما جديد هذه النسخة؟ وما هي أهم المآخذ على النسخ السابقة؟ سينعقد مهرجان القصة القصيرة جداً في نسخته الخامسة-إن شاء الله- في مارس 2016. والجديد في هذه النسخة هو إعداد ورشات تكوينية للكبار والصغار في مجال القصة القصيرة جداً؛ ومناقشة قضية المنهج النقدي في القصة القصيرة جداً؛ والاحتفاء بالناقد المغربي المتميز مسلك ميمون وتكريمه مادياً ومعنوياً؛ ودراسة اتجاهات القصة القصيرة جداً تجنيساً وتجريباً وتأصيلا. ويبقى مشكل التدوين والإعلام والدعم والتوثيق أهم ما يؤرق مضجعنا إلى يومنا هذا. ما رأيكم في نصوص القصة القصيرة جداً في الجهة الشرقية، وكيف تفسر هذا التراكم السريع لها؟ نلاحظ تراكماً متميزاً في الجهة الشرقية، إذ استطاع هذا الجنس الأدبي الجديد أن ينتشر بسرعة انتشار النار في الهشيم، إلى أن أصبحت المنطقة الشرقية أكثر إنتاجاً وتراكماً على الصعيد الوطني. بيد أن هناك تفاوتاً فنياً وإبداعياً من مبدع إلى آخر، ومن ناقد إلى آخر. فهناك مبدعون مازالوا في مرحلة المحاكاة والتقليد. وهناك من لم يبرح مرحلة التجنيس والتأسيس. وهناك من تجاوز ذلك إلى التجريب. وهناك من وصل إلى مرحلة التأصيل والتميز والجودة والإتقان كميمون حرش، وجمال الدين الخضيري، وعبد الواحد عرجوني، وعبد الله زروال، وسمية البوغافرية على سبيل التمثيل ليس إلا. أنت ناقد كبير، وتجربتكم في النقد لها حظوتها، بماذا تنصح كتاب القصة القصيرة جداً، الشباب منهم خاصة؟ أنصح شباب القصة القصيرة جداً بالقراءة الواعية للنصوص السردية المتميزة في مختلف المجالات؛ والاطلاع على الكتابات النقدية التي نظرت للقصة القصيرة جداً؛ والبحث عن أسلوب سردي يميزهم؛ والابتعاد عن الكتابة المباشرة القاتلة للإبداع؛ ثم قراءة التراث العربي قراءة واعية لاستثماره بشكل فني وجمالي، في إطار رؤية تناصية حوارية؛ ثم الاغتراف من جميع الفنون بغية توظيف تقنياتها في الكتابة؛ واحترام الحجم القصصي القصير جداً؛ والتركيز على الحبكة القصصية؛ والابتعاد قدر الإمكان عن الوعظ والخطابة والتقريرية؛ وعن تحويل القصة القصيرة جداً إلى شذرة فلسفية تأملية أو خاطرة إبداعية إنشائية؛ مع الإنصات المستمر إلى النقاد بشكل جيد. الدكتور جميل، لم تسلم أنت أيضاً من "عدوى" القصة القصيرة جداً. ألفت فيها كتاباً سميته " كتابات ساخرة"،هو الكتاب الأول لكم في الإبداع بعد تجربتكم في نظم الشعر، ما الذي استمالكم في كتابة القصة القصيرة جداً؟ كتبت هذه الأضمومة من باب الاطلاع على ممارسة المبدعين ليس إلا، وتطفلا على عوالمهم الإبداعية. ولا أدعي أنني قاص أو كاتب سرد. إنها تجربة أولى وأخيرة، كان الغرض منها هو الدخول في متاهات هذا الجنس الأدبي الجديد لمعرفة صعوباته وعوالمه التخييلية على مستوى الكتابة والسرد والرؤية. ومن حق الناقد أن يجرب بنفسه الكتابة الإبداعية رغبة في معرفة أسرارها الفنية والجمالية، وفهم آلياتها التخييلية والإبداعية. فالناقد المجرب أفضل من الناقد المجرد. ودائماً، يبقى الناقد مبدعاً فاشلا. أمر آخر، لماذا حرصتم على التأكيد في مقدمة مجموعتكم القصصية " كتابات ساخرة" بأنها نصوص مباشرة جداً. كيف تكون مباشرة جداً، بالنظر إلى حجمها القصير جداً؟ قلت لكم كان هدفي هو التجريب وممارسة هذا الفن الجديد، وتعمدت المباشرة التي أحاربها في نقدي. وتحمل المباشرة، في كثير من الأحيان، وظيفة جمالية وإيحائية . فأشعار نزار قباني وأحمد مطر، على الرغم من مباشرتها، فهي نابضة بالشاعرية والإيحاء الصاخب. ومن هنا، فمجموعتي كتبت بأسلوب مباشر بسيط، ولكنها تطفح بالسخرية والكاريكوتورية والنقد اللاذع. لقد كتبتها بأسلوب طبيعي على غرار إميل زولا. أقصد أليس هناك تناقض بين شروط القصة القصيرة جداً، وهذا الشرط الدخيل"المباشرة"؟ صحيح أن هناك تناقضاً واضحاً وجلياً. ولكنني أستدرك قائلا: إن المباشرة نوعان: مباشرة فجة قاتلة، ومباشرة موحية نابضة بالدفء الشاعري المتميز. فالذي يكتب القصة القصيرة جداً بأسلوب تقريري مباشر، فهو قاتل لما يبدعه من البداية، وساخر من المتلقي. أما الذي يكتب قصيصته بمباشرة إبداعية نابضة بالشاعرية والإيحاء والجمالية، فهي مقبولة بشكل أو بآخر. والأمثلة على ذلك كثيرة في مجال الشعر: أمل دنقل، ونزار قباني، وأحمد مطر، وأحمد عبد المعطي حجازي.. ماذا سنقرأ لكم في المستقبل كجديد؟ هناك كتاب أعده في نقد القصة القصيرة جدا، مع إصدار ببيليوغرافيا مغربية منقحة ومزيدة في هذا المجال.