نفس الكلام أمطار شديدة تنزل هذا الصباح تتمرغ فوق التراب بشكل مهيب، كان الجو يبدو كما لو أنه حدث مناخي غير مسبوق، أحسست أن لدي رغبة قوية في الكتابة، كما لو أن هذا الفيض المائي الذي يجري خارجا عليه أن يجد ما يماثله، فيض آخر له شكل لغوي تعبيري ومجازي . غير أنني حينما دخلت أعماقي وحاولت كتابة شيء ما ، لم أعثر على أي أفكار تستحق التعبير عنها. بدا لي أنني لا أقول إلا الشيء نفسه، مع اختلاف طفيف، نفس الكلام يتكرر إلى ما لا نهاية. سواء عشت اليوم أو بعد ألف سنة أخرى، أو حتى إلى نهاية الزمان ، فإن نفس المقيل سيقال بما فيه هذا الكلام ذاته الذي أكتبه الآن. كمن يجعل الغمام دليله فوق البحار، رغم أن الفكرة جلية وواضحة، بدت لي في غاية الغموض والغرابة، ما الجديد إذن الأمر يشبه لعبة فيديو، رغم أننا نخسرها ونموت فيها باستمرار يمكننا إعادتها إلى ما لا نهاية. هكذا ظهر لي الوجود برمته، نتكلم حتى نخفي أننا نقول الشيء ذاته، لكن الشيء ذاته يعود لكي ينتصب من جديد في كلامنا. ما هو الإختلاف إذن؟ هذا المطر الذي يسقط لقد سبق له أن سقط مرارا وتكرارا. هذه الشمس التي ستشرق غدا أو بعد غد ربما، لقد أشرقت على ذلك الجد الذي لا أعرفه في غابر الزمان الأومو إيريكتوس OMO Erectus ، أو على تلك الجدة التائهة في السهول الواسعة للخفر الإفريقي، لوسي . كما ستشرق غدا أو ستمطر أيضا على ذلك الحفيد البعيد الذي لا يعرفني في المستقبل البعيد. أي صفاء ذهني أكثر من هذا، حياتي برمتها مثل طبعة جديدة لكتاب قديم، كل ما أتمناه هو أن يكون في حلة جديدة مزيدة قليلا أو منقحة ربما. هذا هو كل هامش الحرية الذي يمكن أن أحلم به، مشروع حياتي الخاصة إذا جاز لي استعمال الكلمات العزيزة على سارتر. العثور فقط على هذا التنقيح، هذه الإضافة. هكذا أنا نسخة جديدة لعبارة قديمة، أفكاري ليست لي، لغتي تتحدثني، حياتي في مجملها تمتد في المساحة الفاصلة بين الصمت واللانهاية. أنا مثل رياح الأشواق فوق بحر الأحزان. الصراخ أستغرب دائما من هذا الكائن العجيب الذي اسمه اللغة، هذا الكون اللانهائي في الكون اللانهائي، كيف وجدت هذه اللغة وكيف تطورت حتى أصبحت ما هي عليه الآن؟ يسبح بي خيالي بعيدا وراء السحب الكثيفة لما وراء التاريخ، إلى هؤلاء الأسلاف الذين انحدرنا منهم، كيف كانوا يتواصلون ويتكلمون مع بعضهم البعض. بدون شك أنهم كانوا يصرخون ويضربون صدورهم كما تفعل القردة، يا للمأساة لو كان علينا أن نفعل مثلهم اليوم، يا للألم والحسرة إذا كان علي أن ألطم رأسي مرارا وتكرارا، كما يفعل الطفل الصغير الذي لم يتعلم الكلام بعد حتى أعبر عن رغبة ما أو عن فكرة باطنية. كيف يمكننني مثلا أن أعبر عن الحب أو الإعجاب، هل سأعلق نفسي في شجرة، وأظل هناك متدليا منها كغصن منكسر الليل كله! أم أسبح في اليم بعيدا إلى أن أختفي وأعانق الأفق. والقرف والملل كيف يمكنني أن أقوله هو أيضا بدون لغة، هل أشق الشريان السباتي، أم أقف عاريا كما ولدتني أمي وسط عيد غفير بالناس. ما السبيل للتفكير في الحرية والتعبير عنها في غياب اللغة، قد لا تكون لي طريقة أخرى سوى أن أصنع لنفسي كوخا في البرية وأكتفي بمطاردة الوحيش حاملا هراوة غليظة أو حجارة مسنونة. يبدو كما لو أن اللغة نعمة أو نور نزل من السماء، ولماذا الاستغراب كل الأنوار تنزل من السماء. ليس للغة بداية أو نهاية وكذلك السماء. يجب على الإنسان أن يتكلم ويتكلم باستمرار حتى لا ينطفئ هذا النور داخله، كمثل ذلك الذي يريد أن يحافظ على جذوة نار مشتعلة عليه أن يذكيها دائما بالمزيد من الحطب. هذه هي اللغة، لهب يشتعل في صدورنا. هكذا هي المسألة في مجملها، خلقت اللغة من النور، والأفكار من الهواء رؤوسنا دائما معلقة هناك في السحب أما المشاعر والعواطف فهي الماء الذي يجري بينهما. نحن نتكلم حتى لا نصرخ ولا نلطم صدورنا ورؤوسنا، ولكن في العمق اللغة هي كذلك صرخة، الصرخة ذاتها التي أطلقها أسلافنا في الليل البهيم للبشرية، نحن ما زلنا بدورنا نصرخ وإن كان بطريقة أخرى، نصرخ بواسطة اللغة، نستغيث وننادي الأعماق بالكلمات. يا إلهي الآن عرفت ما هذا الشيء الذي ندعوه باللغة، الكلمات صرخات والجمل أنين، الكلام جذوة مشتعلة بين الأضلع الإثنى عشرة. اللغة صرخة مديدة عبر الزمان المديد. لغة البدء استرجع بقاياي من الحلم الأخير وأندفع مع الصرخات أفتح الباب الذي سبق أن فتح على الباب الذي لم يفتح هل هو كابوس وسط حلم، أم حلم وسط كابوس. كيف يمكن للإنسان أن يحلم نفس الحلم على مر الزمان. منذ طفولتي وإلى الآن، أرى نفسي وقد انقلب بي السرير كي أغوص في عمق لا قرار له، حيث لا شيء يمكن أن أتشبث به أو أمسكه، مجرد سقوط على شكل تحليق أو تحليق على شكل سقوط. شكل من أشكال السفر خارج الزمان والمكان. كلا، الأمر لا يتعلق بكرامات ولا بمعجزات، لم أسر فوق ماء ولم تكلمني أية حوريات، بل بحقيقة أكثر حقيقة من الواقع ومن المحسوس. نعم هذا هو ما حدث بالفعل، أردت أن أتكلم لكنني وجدت نفسي فقدت تحكمي في اللغة، الكلمات تخرج بشكل حر وكأنها تعلن عن وجودها وميلادها الخاص. أصبت بسيلان لغوي أو بنوع من التأتأة، عندما أريد أن أقول « منطق « أقول « سجن «. وعندما أريد أن أنطق بكلمة « بندقية « تخرج كلمة «خشب». الحب تحول إلى عزلة ، والماء إلى رمل ، والحلم إلى نجم بعيد وهكذا.. كلما أردت النطق بكلمة تخرج كلمة أخرى. ولكن ما حاجتي لهذه اللغة، فأنا على أي حال لن أموت بدونها. الكلمة تحجب حقيقة الشيء، الكلمة هي جدار بيننا وبين حقيقة العالم. الطيور فوق الأشجار موجودة منذ الأزل وهي تنشد دون كلمات، وكذلك غناء الحيتان، ومواء القطط. ولكن هل هذه الحيوانات واعية لذاتها، هل تقول ذاتها من خلال ما تصدره من أصوات. وما أدراني أنا ربما تملك وعيا خاصا بها، وعي غير بشري. ثم بدأت أدرك أنني أتحدث عن أشياء غير موجودة، فحدود اللغة تتجاوز حدود الكون، هذا هو مكر اللغة، ما أقوله أقوله دائما بلساني ولكن في لغة أخرى. كل كلام هو هروب نحو الأمام، نحو لغة مفقودة ومعنى غائب. هكذا يمكن أن نرى ما يفوق الحياة، نرى البهاء اللامعبر عنه. هل يمكن للغة أن تقول كل شيء؟ الجواب على ما أعتقد هو لا، ولكن مع ذلك هذه هي المهمة المستحيلة للشاعر، إنه يصارع طيلة حياته من أجل تطويع الكلمات كي تتمكن من قول كل شيء. البعض يقضي في منتصف الطريق وله شرف المحاولة، البعض الآخر يذهب بعيدا في الأمر ويستمر بعناد ولكن دون جدوى. أما القلة الباقية وهي معدودة على رؤوس الأصابع، فهي تلامس هذا الكل أو على الأقل تقترب وتشير إليه، ولكنها تفعل ذلك بعد أن تكون كل الكلمات قد نفذت منها ولم يبقى لها إلا الصمت. وماذا لو كنت مثل سليمان أعرف لغة الطير وغمغمة الحيتان، قد تكون كل مهمة الفكر هي كشف الحجاب عن هذه اللغة البدئية التي تتحدث بها الطبيعة. اللغة السابقة على اللغة. يقال أن كل الحيوانات ستتمكن من الكلام في الجنة. سنعيش جميعا نفس الإحساس بالحياة، نفس الوعي الكوني للولادة في النور. ترى ما الذي يمكن أن تكونه لغة الجنة هاته ، كلام الماء والهواء. ولكن الآن في هذه القاعة الفسيحة ، قاعة الانتظار التي إسمها الحياة ، هناك صيرورة من الألم تسري على كل الحيوانات، جانب ميت من الحياة التي تعيشها. لكم هي مسكينة هذه الكائنات يظهر كما لو أنها مسخت وحرمت من القدرة على الكلام . لا ينبغي أن نقول أنها لا تتكلم وإنما الصحيح هو أنها تعاني من الحبسة في النطق L'aphasie . سأظل إذن أتكلم إلى أن تنفد الكلمات، وعندها سأتابع بزقزقة الطيور وهي ترحل مع الريح. سأفكر إلى أن يتوقف الفكر تماما، فأواصل بنقيق الضفادع في ليالي الشتاء العميق، أو أكتفي بتأمل العالم كسحلية كبيرة تقف فوق رمال المستحيلات.