إذا صح القول أن الناس غير متساوين من حيث كفاءاتهم و مقدوراتهم على إبداع الجمال والسمو بالحياة إلى الأعالي ، فلأنهم يتفاوتون من حيث امتلاكهم لفن صيانة الذات ، و مقاومة كل الأنماط الاستسلامية الارتكاسية في الوجود ، و الانتفاضة على كل تجليات الظلم و المهانة و الذل... من هذا الجانب إذن ، كان بوسع سميرة – لا المحامية فحسب ، بل الإنسانة و المبدعة كذالك ، أن تكون مثالا يقتدى به ، فهي من تسعى عبر الكلمة ، إلى خلق أسلوب للتعبير يغدو معه الموت حياة . وباعتبارها السمكة التي يستحيل أن تحيا دونما ماء الحياة ، اختارت ان تغني للحب و الكرامة و الوجود ، قررت أن تسمو عن دونية الحريم و خسة "الولايا" لتعانق رفعة المرأة و كبرياء البدوية. يأتي ديوان الشاعرة سميرة فرجي الذي تجمع بين دفتيه عشرين قصيدة ، والذي تجمعنا الفرحة بولادته في زمن القحط و العقم ، و الذي تبشرنا قصائده بعودة "السبع السمان" منتصرة على "السبع العجاف " ، لتملا أرضنا خصبا ، و بيادرنا حَََََبا و حُبا. يأتي ديوان "صرخة حارك" ليؤكد لنا أن وجدة مدينة معطاء ، وتأتي سميرة لتكسر الصمت و تحطم المألوف ، لتخرج عن المعتاد و تدمر سلطان العادة الطاغي ، لترفض التواطؤ وتعلن التعاطف. و سميرة شاعرة وحدها، تنميها بجدتها، و ينميها لسانها و الكلمات، إلى قافلة الشعراء، فتنتمي مطاوعة ولكنها لا تغيب... وتنسجم بيد أنها لا تذوب... لأنها وان كانت من أفراد تلك القافلة، أو من أحفاد تلك الكوكبة، فهي ليست إلا بالانتساب إلى شجرة العائلة. أما في دوحة الشعر فهي ذات فرادة و اختلاف ، لأنه كما يبديها ديوانها ، ليست منهم ؛ لأنها شاعرة لا "يتبعها الغاوون" و ليست منهم لأنها تحوم سماوات الفن الرحاب و لا تهيم ، و تعود مثقلة بالجراح و المآسي و لكنها تبشر بغد جميل لمغرب جميل.. شاعرتنا لا يمكن إن تحشر في زمرة أولئك الذين "في كل واد يهيمون" فشاعرتنا ليست منهم ، لأنها حالمة ، ولكن تعرف أن الأحلام ، أحلام و كوابيس ، وقائع و إنفجارات ، خمائل ناعمة و صواعق متفجرة ، لهذا تفضح الكوابيس و تنبه إلى صخبها و تحذر من عنفها ، لتدلف إلى مقام الأحلام الواعدة ... و ليست منهم لأنها صاحبة إشكالية ملحاحة ، و ملحة في اجتراح الحلول لها. و ليحذر الجميع صرخة امرأة عنيدة، امرأة بدوية رضعت الأنافة في معبد الشجعان. ولتسمح لي الشاعرة، ولتقبل مني هذا "التحرش" البريء، فأعلن أن الصرخة صرخة سميرة، لا صرخة "حارڱ"... وليسمح لي محتكرو القضايا، فأعلنها صاحبة قضية... داخلت منها الأعصاب و العروق... تساكنها... تؤاكلها... وتشاربها وتؤرق عليها صفو أيامها و هدأة لياليها... و يساورها اليأس فيلفيها متلفعة بقضيتها... و تحاصرها أسراب البوم كليالي النفاق طالعة من حجور القبيلة فتلقاها معتصمة بقضيتها.... عز عليها أن تسقط فتستجيب لطيور الظلام، عز عليها أن تخفي وجهها الصبوح بأقنعة قذرة... لا تطيق لها سقوطا لهذا تقتحم "قطار الليل" مهما "غضب القطار" فهي مصرة على أن تبقى الراية مرفوعة حتى و إن كان الزمن زمن "خيانة"، إذن فلا خوف علينا إذا ادلهمت بنا الآفاق من أن لا نجد شاعرا ينبهنا و يهدينا، و يرود بنا المخارج، فإن شاعرتنا الأستاذة سميرة فرجي التي أطلقت في زمن الصمت صرخة، و فجرت في بحر الفجيعة ألقا، واعتصرت من قبح جراح "الحراگة" بلسما، والتي عرفت كيف تنتفض في وجه الإحباطات المنهالة علينا من هنا و هناك، مناضلة، متحدية، صارخة، و معلمة أصحاب القضايا كيف تحتضن الرايات وتصان، لتبقى للأجيال قضية... فإن شاعرتنا سميرة بصرختها البدوية أمل واعد بألاق جديدة يحل فيها الفجر محل الليل، ما دامت لم تتعب من وطنها بعد، ولن تتعب، كما شكا سواها و تعب، فلهفها على وطنها: "فيا وطني كفانا من عذاب ومن نسف المطالب شر نسف احبك رغم اقصاء و ظلم ومحو الناس يا وطني بصرف احبك رغم ما قالوا و قلنا وفي كل المكان و كل ظرف احبك رغم قهر رغم فقر ورغم الخوف من صرف و وقف احبك رغم أوجاع و قمع ولو لاقيت بين يديك حتفي " إن الرحلة في ديوان "صرخة حارڱ"، هنية لينة، لذيذة و مطربة، فالسير في طرقات سميرة مريح و ممتع حتى بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أنهم يعدمون ملكة تذوق الشعر، فاستكانوا الى الكلام المباشر و هجروا النغمة الجميلة... إن سميرة تمسك بيدك الطريق فيشدك المسير... فتنصاع مهرولا.. حتى النهاية.. و حتى هنا تجد نفسك مجبرا على السير من جديد، لأن النهاية في قصيدة الشاعرة ليست نهاية كما يبدو، بل إن قصيدة سميرة لا نهاية لها. بهذا أبرر عندها ظاهرة قلما تجدها عند غيرها، و هي أن عشرين قصيدة /الديوان، توحدت و كأنها قصيدة واحدة، أنت معها المسافر الذي لا يتعب، فالشاعرة حضرت شروط السفر جيدا... من "عدالة القلب" و هي العتبة، إلى "خيانة" و هي آخر القصائد و ليست النهاية، أنت في رحلة متصلة لا محطات فيها... لن يدركك التعب فتسقط على قارعة الديوان لأنك ستجد سميرة مشفقة تقيلك من سقطتك، أو تردفك، لأنها مشغولة بك لهذا تجبرك على التماهي معها... تجعلك تقرأ القصيدة فتخلص إلى انك المؤلف... إنها تقول ما نود قوله لكن عجزنا... نطقت فقالت "لا" حين تعبنا نحن من قول "نعم" "ولكن حين يخدش كبر نفسي أنا رجل أنا حتى النخاع !!" ينصح/ابن طبا طبا/ في كتابه "عيار الشعر" ينصح الشاعر بقوله: "وأحسن الشعر ما ينتظم فيه القول انتظاما ينسق به أوله مع آخره على ما ينسق قائله" "ويجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها نسجا، وحسنا، وفصاحة، و جزالة ألفاظ، ودقة معان، و صواب تأليف" و شاعرتنا، و الحق يقال، حققت الكثير مما ينصح به /ابن طبا طبا/ و الذي يتلاقى فيه مع العديد من النقاد القائلين بوحدة القصيدة العضوية. فالقصيدة تأخذ شكل الجملة الواحدة عند سميرة بل هي جملة واحدة. و لعل قراءتك قصيدة من ديوانها تنتهي بك إلى الإقرار معي بتطبيق سميرة النصيحة تطبيقا كاملا. و ما يجب التنبيه إليه هو هذا الانسجام في ألفاظ قصائد الديوان، وفي موسيقاها، وفي دقة معانيها و صواب تأليفها، جمالية الصور مع التحكم في المعنى. و على المثال لا الحصر أشير إلى بعض الأبيات من قصيدة "زير النساء" التي عرت بنكهة شعرية عن سلوكاتنا نحن الرجال، ولا شك أن الكثير منا سيقف مليا ليتأمل ذاته في هذه القصيدة... قد يتسلل إلينا القلق و الارتباك، الخجل من أنفسنا... لكن براعة الشاعرة تخفف عنا الألم لأنها استطاعت أن تحول واقعا قبيحا إلى لوحة جميلة.. هنا لا بد من الاعتراف لسميرة بميزة في اللغة الشعرية، فقد سلكت في قصائدها مسلكا بدت فيه اللغة خصبة ولودا... " وقالوا إن قلبك مثل بحر به النسوان أشتاتا كرمل لإحداها تقول سلبت قلبي وللأخرى تقول أخذت عقلي ومنها من تلاطفها بلمس و آلاف تلملمها بقول وتشعل بالغرام نساء كون وتجمع بينهن بدون عدل وتسقط بعضها في نهر حب وتترك غيرها في بحر ويل و تمضي في الحقول بدون خوف وتقطف وردة من كل حقل فهند أو بتينة أو سعاد فكم يا سيدي أحببت قبلي؟! وهل قلب يصدرك أم بحار بها وفد النساء جرى كسيل كأنك سيدي تأوي نساء بقلب يستضفن به كمنزل " مبدعة تتحرك في عمق المجتمع و تفكر في المتروك والمنسي، وتشتغل على حال المغاربة اليوم، كيف يعيشون و بماذا يحلمون، ولماذا "يحركون". و بعبارة جامعة، إنها تتحدث عن الآفاق المنغلقة للشباب و النزوعات المتهورة للشيب. من هنا، خاصية أساسية يتميز بها ديوان"صرخة حارڱ" وهي الهبوط إلى الفئات الاجتماعية التعيسة، قصد التعبير عن آلامها، معاناتها، و تطلعاتها. وكل ذلك يمر عبر تأزمات الشاعرة التي تحمل هموم فئات المجتمع المسحوقة.. إن الأصالة الشعرية هي أولا فهم عميق جدا، نابع عن إحساس أكثر عمقا، و أرهف، بتراجيديا المتناقضات التي تحكم الكائن الإنسان، و بمواجع السقوط التي يعانيها الإنسان... إن الشاعر الحقيقي هو ذلك الإنسان المملوء حبا لكل ما هو أصيل و حقيقي، و المتقطر نظافة حين يرى بعين العمق مشاكل أخيه الإنسان... إنه حين يكون الإنسان النظيف ظلا لإخوان موطنه المظلم، فإنه لا يمكن أن يكون إلا شاعرا أصيلا، و حين يبقى المرء "ضوء" في حاجة إلى الضوء، يستنير و لا ينير، يكتب و لا يحيى جوهره، لابد أن حكما عليه في ذمة الهوامش أمرا لا مندوحة عنه. وهذه الخاصية التي تطبع ديوان " صرخة حارڱ" أهلته ليتميز بميزة الكشف الشعري، و الكشف عملية تحتاج إلى مراس شعري، مراس يلتزم الصدق مركبا، والتعاطف اللآمحدود مع الفكرة التي تنشأ عن الموضوع الذي تعالجه القصيدة الشعرية، التعاطف باعتباره عنصرا صادرا عن معاناة خالصة مخلصة للقضية المعتنقة، والمعبر عنها شعريا. تقول سميرة " صرخة حارك" تستحضر في قلبي ذكرى سوداوية الواقع و مرارته و معاناته و تبعث في داخلي وحي التراجيديا و الفوضى والعبث الفكري لتصحيح الزيف و الوقوف على أمل من خلال دائرة الشعر بصورة أرى فيها أبناء آدم على قدم المساواة، ولو في لمح الأحلام.. هي طرد الجور و الظلم و الرقي بالإنسانية إلى أبراج المثل و القيم و انتظار العدل و العدالة و الحب... " الكشف في الشعر، إذن، ليس اختيارا، بقدر ما هو نوع من ممارسة... الكشف الشعري الحقيقي، تجسيد لمدى عميق في تعامل المبدع الشاعر مع العالم الذي يعيش فيه. الكشف الشعري يشبه إلى حد ما تلك الغيمة السوداء الكثيفة، "المليئة بثروة مائية هائلة"، تغطي جزءا من السماء، تغطي أفقا، فإذا عناصرها تتفاعل و تعتمل تحت ضغط شروط طقسية محددة، ثم تنهمر حبات ماء ماطرة، رذاذا، شتاء... هكذا هو حال الكشف الشعري، لا بد له من اعتدال داخلي نفسي فكري، لا بد له من تفاعل عناصر مكوناته (الذاتي + الموضوعي + الفاعلية اللغوية) و لا بد له من "أمطار كشفى" و نعرف جيدا أن كثيرا من "التجارب"، نقرأها و لا نستجيب لها، لأن ما فيها يفتقد هاتيك المعطيات، و تسخر سميرة من هذه "التجارب" قائلة "قبل أن نفهم الشعر، يجب أن نعلم أنه ليس لدينا شعر! فالشعر عندنا شيء... أي شيء... كلام / مجرد كلام يتراوح بين الكتابة و الموسيقى، و الرأي الشخصي الخالص، و التعبير لمجرد التعبير. وليس أدل على ذلك من فوضى النزاريات المتشابهة الخطوط و المباني كلها (صكوك الغفران) على حد تعبير الناقد المصري جلال العشري و نحن اليوم مع سميرة "على عتبة الفهم" فحين يحكم الصدق، و المعاناة الحقة، الأشياء، فإن الذوات لا تملك إلا أن تتفاعل معه. و الصدق في تجربة سميرة هو الدافع البارز، بعد دوافع أولية، في إعطاء قصيدتها الجودة المتميزة بميزة الكشف الشعري. وإذا كنا نعثر عند سميرة على نوع من قدسية الحب، فلأنها مصممة على محاربة الكراهية، من هنا أشعلت فوانيسها المترامية في كل أنحاء الديوان، مبددة حلكة الظلام كاشفة عن أشعة الفرح الثاوية خلف غسق الليل. "إني أحسد كل شخص قادر على مواصلة حياته من غير خضوع لليأس و الكآبة"، إني أحسد سميرة التي منحتنا فرصة التمتع بلذة الإبداع، فجعلتنا نقارب موضوعات كئيبة و إشكاليات مجتمعية معقدة و سلوكيات أخلاقية مقيتة بشعاع مشرق اسمه جمالية الشعر. لقد أصرت شاعرتنا على التعاطي مع هذه القضايا تعاطيا آخر، خوفا منها أن نمضي في اتجاه تنمية هواجس حاقدة و مدمرة تأتي على طموح السلم الاجتماعي المنشود. "متى ستفهم أن البدو إن غضبوا؟ ينتابهم سُعْر لو ما بهم سعر!" ارتبطت سميرة بالدينامية التي يعرفها المجتمع المغربي، و بالتحولات التي تسكن في أطرافه و تهز جذعه و تجعله يطرح أكثر الأسئلة صعوبة و قسوة بما فيها سؤال الكينونة، و ما هي قيمنا الجديدة، و كيف يمكن أن نذهب إلى المستقبل دون أن نفرط في البداوة، دون أن نفرط في الموروث، ة أساسا كيف نجعل من هذا الموروث الاجتماعي و الثقافي شيئا قابلا للحياة و منفتحا على الحب، و سندا في مواجهة عنف القبيلة التي تحرم الحب قربانا لجبروت الملثمين. هذه الأسئلة لم تطرحها سميرة كترف فكري، و لا من موقع العابر، بل كانت من صميم الواقع الذي انخرطت فيه، فهي تؤكد: "سأمضي كل عمري في نضال ولو أدى النضال إلى اعتقالي" و لا شك أن ديوان سميرة سيثير حفيظة البعض من قبيل اهتمامها بموضوعات اعتبرت طابوهات في مجتمعنا... غير أن ما يميز سميرة ليس هو الموضوع ولا القضايا التي أثارتها، بل نظرتها إلى هذه الموضوعات و الأسلوب الخفيف الممتع الذي طرحت به هذه القضايا. و على وجه التحديد الأسلوب الشعري الذي تسوق فيه تصوراتها و مواقفها. بعبارة أدق، إن فضيلة ديوان " صرخة حارك" فجر المكبوتات و كشف عن المستور و أخرج الكلام عن القضايا الاجتماعية من المكاتب المكيفة و الغرف المغلقة، من صالونات الأحزاب و مجالس الحكومة، و أدخلته إلى مساحات كبرى، منها يتنفس، و بها يعبر عما يعتمل في أحشاء المجتمع من تغيرات و صراعات، من مفارقات و تناقضات، و من مناطق سوداء آن الأوان للحديث عنها "بلا حشومة" و بجرأة حاضرة في الديوان، و شفافية تطبع سميرة، بشجاعة حتى و لو حرضت القبيلة على شحذ السكاكين استعدادا لدم يراق. "فحذرت القبائل كل أنثى تعيرها القبائل بالكلام و قد أمرت بأن يجتث قلبي و يقطع إن تمرد بالحسام" محامية ترافع و لا تنسى أنها شاعرة تبدع، شاعرة تبدع و لا تنسى أنها محامية ترافع... ترافع من أجل قضية بدون أتعاب، واعية "أن هذه القضية أثقل من كتب القانون و فصولها، و أعمق و أقوى من حمل قاض على قول كلمة فيها"... لهذا قررت أن تنقل قضيتها من المحاكم إلى فضاء أرحب، أرادت أن تشرك الجميع و تحاكم الجميع. فالكل متهم ما لم تثبت براءته، إنها قضية المواطنة المغتصبة في "عصور توالي الحكومات دون تحقيق مبتغى مطلوب..." في ظل الألم، و ضراوة البأس، يحضر ديوان " صرخة حارك" ليستحضر الأمل، و يخطط للإمساك بالمحلوم به في شباك تنزف ضياء. و أيا كان لون قراءتنا له فإنها ستظل أشبه بساحر يتأنق في تحويل الجحيم إلى سماء مرفوعة على غير عمد، و غرس نخيل الاهتمام فيها. نعتقد أيضا أن الديوان جاء ليطفئ حرائق الحكومة في مطار المجتمع و الإنسان، و بخاصة عندما يتعلق الأمر بشاعرة استثنائية نزلت في هذا المطار بصيغة مفاجئة و لكن مدهشة، ووضعت كينونتها المنفية في الفظاعات، و في عوالم: الكوكلة و المكدنة و البزنسة، في أرض شعرية استثنائية، نتعرف فيها على ذواتنا التي مارس عليها السياسي و الديني و الإيديولوجي أنواعا من الحجب مهينة، و أنواعا من الاغتصاب حقيرة، ونتنفس فيها زمنا جميلا غير الزمن المستبد الذي بتر أحاسيسنا، و شوه رؤانا حتى صرنا نتمادى مع المألوف و المتواطأ عليه، ونشنق زهرة الاختلاف الراقصة في أعماقنا. أرض شعرية تجعلنا نقطع مع سلوكيات تريد منا العيش في غرف لا يتنفس فيها إلا غبار الموتى. فهل هذه القراءة ستقربنا من الأستاذة سميرة فرجي المحلقة في زرقة الأبجدية حاملة على كاهلها كل أحلامنا المنشدة إلى اللانهائي؟ و هل يمكن لهذه القراءة المتواضعة أن تحيط بشاعرة إشكالية إبداعا و حياة... شعرها يحيا مع كل نبض، ينفلت من المهانة إلى الكرامة، منفتح على المستقبل الذي ننشده و لا نمسك به. فمن أين أتتها هذه الطاقة الشعرية التي سحرتنا فجذبتنا إلى مدارها؟ لا يخفى أن سميرة ذات حمولة ثقافية عربية و كونية، تكوين حقوقي، سليلة أسرة مقاومة، متشبثة بالجذور و الأصول تجنبا للتيه و الغرق.. بنت البلد و بامتياز إنساني، مناضلة بوسام المعذبين في البر و البحر... لم تخدعها مساحيق رفاهية أعيان المرحلة، ولم تستسلم لقيم الحداثة المغشوشة وسلوكيات الراهن المخدوع. آمنت بالجوهر الذي تعجز عن طمسه القشور "و ليس على بعض القشور تلومني لئن كنت تعني بالقشور رخائيا أنا مثل مهضوم الحقوق بحرقتي وحق أخي إن ضاع ضاع هنائيا آمنت بالإنسان، استنبطت آلامه فحملت آماله، وعت همومه فأشاعت أحلامه، انخرطت بعمق في المجتمع، مجتمع "البطاليين و المقهورين و العاجزين"، انخراط واعي و التحام صادق، تناغمت مع هذه الفئات المهانة فأنشدت بكل حرقة و إبداع قل نظيره. كتبت قصائدها على النهج الخليلي بنفس حداثي متميز... إنها شاعرة جمعت جماليات الشعرية الأصيلة إيقاعا و لغة و أناقة و حيوية في بلور الشعرية العربية، وذلك بحس المبدعة الخلاقة، و شفوفية المتوغلة في الواقع بفرس اللغة التي تكلمتها هي، لأنها في ذاتها المشتعلة بين قطبي الموت و الحياة... "وأطرق في الأبواب مثل مشرد لأبحث عن شغل يزيل شقائيا و دخل أبي في اليوم بعض دراهم يعيل بها سربا يفوق الثمانيا و يحمل أكواما تقوس ظهره و حزمة أثواب و بعض ثيابيا يبيع أبي فوق الرصيف ثيابنا و يركض خلف الناس يطلب شاريا و حين يراه في الشارع شرطي يلوح بالعصى يغادر حافيا و يترك من خلف الرصيف نعاله و كوم ثياب كان فيه غذائيا يعيش أبي مثل الحمير معنفا و يضرب دوما كالحمير قباليا فإن كان في ضرب الحمير مهانة فما القول في ضرب الرجال أماميا! يهون علي الموت كل دقيقة و لا العيش في القمع يذل رجاليا هذه التحف الشعرية تكشف هوية المثقفة الجادة التي تستطيع أن تبلور المعيش في لوحات فنية تبدو معها خطب السياسة مجرد لعبة صبيان، و تفضح "لغة السياسات التي تحتضر على فراش الشعب..."، هذه الصور الشعرية تعفينا من الخطب الرنانة التي يتلوها زعماء الأحزاب في هذه المناسبة أو تلك، و تريحنا من لغو الشعارات الفضفاضة التي يستظهرها "الديمقراطيون" في كل سوق انتخابي. إن سميرة ترفض التموقع في اليمين، ترفض إغراءات اليسار، و ترفض الاسترخاء في الوسط. لم تتهافت على الارتماء في أحضان الأغلبية المخدومة لتنغم مع الغانمين، ولم تنزلق فتصطف مع الأقلية بأطيافها المتنافرة عقيدة و اعتقادا... مقتنعة بأن هؤلاء وأولئك لم يذوقوا مرارة