الإرهاب الفكري.. ظاهرة موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم عزيز جاسم.. مفكر شيوعي بعقلية قومية الحلقة8 ظاهرة الإرهاب الفكري موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم. وإذا كانت العديد من الشعوب قد قطعت مع هذه الظاهرة المتوحشة لإيمانها بضرورة التعايش بين أطياف المجتمع الواحد، مهما اختلفوا فكريا وإيديولوجيا وسياسيا، بترسيخها لقيم الديمقراطية التي وحدها تتيح إمكانية التعايش هذه، فإن مجتمعاتنا العربية ما زالت ترزح تحت نير هذه الظاهرة التي باتت تستفحل ويتصاعد منسوب ضحاياها، إذ مازال هناك دعاة امتلاك الحقيقة في الفكر وفي السياسة وفي الدين، وهؤلاء بالضبط هم من ينظرون إلى خصومهم المختلفين على أنهم أعداء، ويوجبون، بالتالي، مضايقتهم أو تصفيتهم الجسدية. وفي تاريخنا الحديث والمعاصر ما ينم عن أن هذه الظاهرة ما تزال في استفحال، وأن دعاة امتلاك الحقيقة ومحتكريها في تصاعد حتى بات الاختلاف عن أو مع هؤلاء الدعاة أمرا محرما وتبعاته خطيرة تصل إلى حدود التكفير الذي تستتبعه إقامة حد القتل. إن قوائم الذين قضوا اغتيالا بسبب أفكارهم كثيرة، وقوائم المحكوم عليهم بالقتل مع وقف التنفيذ كثيرة هي الأخرى. وحسب وقائع الاغتيال التي كنا شهودا عليها في وقتنا الحاضر، أو تلك التي أرخت لها كتب التاريخ، تظل الفئة المستهدفة من عمليات التصفية الجسدية هي تلك التي آثرت أن تجدد في طرق التفكير وأعملت العقل من أجل فهم جديد لعناصر هويتنا بما في ذلك عنصر الدين الذي حرروه من إسقاطات المقاربات المتحجرة، وفتحوا بذلك بابا جديدا للاجتهاد، يتيح لنا استيعاب ماضينا وحاضرنا بشكل أفضل، كما يتيح لنا استشراف مستقبلنا... نأتي في هذه السلسة الرمضانية على استذكار بعض من هؤلاء ممن أصابهم سلاح الجهل في مقتل. نستذكرهم اليوم، رفقة قرائنا الكرام، اعترافا لهم بانتصارهم لقيمة العقل كضرورة لا محيد عنها لبناء المجتمعات الحديثة. عزيز جاسم.. الموت أهون من خيانة المبادئ عزيز جاسم كاتب ومفكر قومي عربي من الناصرية في العراق. له الكثير من الأعمال في السياسة والفكر والرواية. ولد الموسوي في الناصرية، محافظة ذي قار، العراق. اختفت أخباره حيث لم تنفع توسطات بعض الأدباء العراقيين والعرب من أجل إطلاق سراحه، ويعتقد أنه بقي مغيباً في سجن أبي غريب قسم الأحكام الخاصة، ولم يعثر عليه أو على جثمانه حتى اليوم. وفي مقابلة متلفزة مع أخيه الدكتور محسن لبرنامج "إضاءات" أعلن عن احتمالية تصفيته من قبل نظام صدام حسين في نفس العام الذي اعتقلوه فيه 1991. عزيز جاسم سبق وأن تعرض في عهد حكم صدام حسين للاعتقال مرتين، في الأولى طلب منه النظام وبأمر من صدام حسين نفسه تأليف بعض الكتب التي لا تتماشى مع أفكاره ومبادئه مثل كتاب بعنوان "صدام حسين وصلاح الدين الأيوبي"، فتم اعتقاله مع شقيقه محسن الموسوي في إحدى الدور التابعة للمخابرات العراقية في منطقة الكرادة في جانب الرصافة من بغداد، وقد سمح له ولشقيقه خلال هذه الفترة بالتمشي خارج البيت بصحبة شقيقه وتحت أنظار الحراس لساعة أو ساعتين كل ليلة. وخلال فترة اعتقاله هذه خضع جاسم لإرادة النظام وقام بتأليف الكتب المطلوبة فأطلق سراحه بعد فترة وليعتقل مرة ثانية بعد أحداث انتفاضة ماي 1991. وفي ما يشبه السيرة الذاتية للكاتب والمفكر عزيز جاسم، أورد موقع الموسوعة الحرة و"يكيبيديا"، نصا مطولا للتعريف بهذه الشخصية الفكرية والروائية، يتضمن حديثا للراحل عن نفسه. وقد أثرنا أن نقدم موجزا من هذا النص تعميما للفائدة: تفكير حر ورفض للقوالب والأجوبة الجاهزة "في قرية الغازية الوديعة ناحية النصر فتحت عيني على الدنيا وكانت صورة علي بن أبي طالب رضي الله عنه معلقة على الحائط ! تلك هي الصورة التقليدية الشائعة بألوانها الساخنة وبالمهابة المميزة لوجهه الكريم تحيط برأسه هالة نور!!، وكانت صورة الإمام حاضرة في البيت مثل الأب والأم والأخ والأخت!، فلم يكن ممكنا أن يكون البيت بدون صورة.. بعد أكثر من ثلاثين سنة هي رحلة طويلة في الكدح والمعاناة الذهنية، أهديت لي صورة لعلي بن أبي طالب مصورة عن متحف اللوفر بباريس وهي صورة أقرب إلى حقيقة علي من سواها، وربما هي من رسم أحد الرهبان، ففي الصورة شموخ عجيب وقوة هائلة واستقرار تاريخي، كان عليٌّ راكبا حصانه حيث ظهر علي من حجعة السرج، ولكنه بدا متبوءا مقعدا تاريخيا شديد العلو...". ويتابع نفس الموقع الحديث عن حياة هذا الرجل حيث يقول: "أكمل عزيز السيد جاسم دراسته الابتدائية في قرية الغازية، ومن ثم انتقل إلى الناصرية ليكمل فيها دراسة الإعدادية، ولكنه كان يرجع في أثناء العطلة الصيفية إلى الغازية، ليعمل في طاحونة ومعمل للثلج وفي أثناء ذلك انتظم إلى تنظيمات الحزب الشيوعي، وهو في الخامسة عشرة من عمره، واستطاع أن ينظم أصدقاءه الشباب في مدينة النصر لهذا التنظيم، كان عزيز السيد جاسم كثير المطالعة في هذه الفترة إذ استطاع الاطلاع على الفكر الماركسي، فضلا عن مؤلفات مشاهير الكتاب الغربيين أمثال فولتير وجان جاك روسو وغيرهم، وفي الوقت نفسه لم يمنعه الانشغال بالفكر الماركسي من قراءة كتب التاريخ والأدب العربي والإسلامي، الأمر الذي جعله يكتنز علما وثقافة واسعين، مما سهل عليه استقطاب الشباب أمثاله وقد مكنه هذا الأمر من لعب دور المحرض والقائد للشباب، فأودع السجن مرات عدة في الناصرية إثر قيادته عدد من المظاهرات للمطالبة بمستقبل أفضل، وقد بلغ هذا الدور أوجه بعد قيام ثورة 14يوليوز، عندما أظهر عزيز السيد جاسم مقدرة على الكتابة في أمور تحريض الجماهير، فضلا عن مقدرته على قيادة تلك الجماهير وتنظيمها، ولاسيما صفوف الشباب". وعلى نفس المنوال يستطرد الموقع ذاته الحديث عن سيرة هذه الشخصية المخلصة لمبادئها: »كانت كتابات عزيز السيد جاسم في تلك الفترة تركز على الهوية العربية والإسلامية للحركات التحررية العربية، مما جعله يصطدم بموقف الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه، وعلى إثر ذلك قرر ترك الحزب الشيوعي عام 1960، وعبثا حاول رفاقه ثنيه عن قراره هذا، فقد أصر على حرية الفكر ورفض القوالب الفكرية والأجوبة الجاهزة، مؤكدا خصوصية الوضع العربي وأصالة الفكر الإسلامي بعيدا عن المصالح الضيقة والتعصب الفئوي، ومن بين ما أثر عنه في تلك الفترة أقوال منها: كل ما يدعو إلى الخير يتصل بعضه ببعض، وإن كل ما يخدم الناس يخدم الرب، وأن الجانبين الاقتصادي والسياسي للماركسية لا يتناقضان مع الإسلام، وأن الاستعمار والظلم والدكتاتورية والقتل سواء.. هذه هي الحقيقة التي لا مراجعة فيها، وأن الجماعات توحدها المصلحة. أما الحرية فلا توحد إلا الأحرار وكرماء النفس، وأن الفكر الحر لا يعرف التأطير، وأن الذهن الحر يتفتح على الدوام على الأفكار والمستجدات ويكرس طموحات وتطلعات الناس، وأن المثقف الحقيقي مثقف حر، وبحكم ذلك فهو أكثرمن سواه قدرة على معاينة ظواهر الاستعباد، وكذلك يكون أكثر من سواه إدراكاً لقيمة التوجهات السياسية التي تخدم الحرية وأكثر استبشارا بها". وبنفس الأسلوب يتابع الموقع المذكور حكايته عن محطات من حياة عزيز جاسم حيث يقول: "في بداية 1969 انتقل من الناصرية إلى بغداد ليلتحق بجريدة الثورة، جريدة حزب البعث الحاكم وقتها، في العراق. كان أخوه محسن الموسوي، مترجما في الجريدة. بعد سنة أو أقل أصبح عزيز السيد جاسم، رئيس تحرير مجلة الغد التي تصدر عن جريدة الثورة وأصبح متنفذا ومنظرا لحزب البعث قبل أن يصبح رئيس تحرير مجلة وعي العمال الناطقة باسم اتحاد نقابات العمال، الذراع القمعية لحزب البعث ضد عمال العراق. في العام الواحد كانت تصدر له أربعة أو خمسة كتب. وفي ذلك الوقت كان الموسوي على علاقة جيدة بصدام حسين، وكان يجمعهما لقاء كل أسبوع تقريباً، وأحيانا يطلب منه صدام المجئ أكثر من مرة في الأسبوع ليكتب له وينظر له فيخرج في الأسبوع التالي كتاب جديد لعزيز السيد جاسم متضمنا وجهات نظر صدام في الحزب الشيوعي وفي الجبهة الوطنية وفي المسألة الكردية وفي الدين وفي الماركسية وفي القومية وفي موقع حزب البعث وفي قدرة الفكر البعثي على حل مشاكل العصر المعقدة".