الإرهاب الفكري.. ظاهرة موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم الحلقة 1 ظاهرة الإرهاب الفكري موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم. وإذا كانت العديد من الشعوب قد قطعت مع هذه الظاهرة المتوحشة لإيمانها بضرورة التعايش بين أطياف المجتمع الواحد، مهما اختلفوا فكريا وإيديولوجيا وسياسيا، بترسيخها لقيم الديمقراطية التي وحدها تتيح إمكانية التعايش هذه، فإن مجتمعاتنا العربية ما زالت ترزح تحت نير هذه الظاهرة التي باتت تستفحل ويتصاعد منسوب ضحاياها، إذ مازال هناك دعاة امتلاك الحقيقة في الفكر وفي السياسة وفي الدين، وهؤلاء بالضبط هم من ينظرون إلى خصومهم المختلفين على أنهم أعداء، ويوجبون، بالتالي، مضايقتهم أو تصفيتهم الجسدية. وفي تاريخنا الحديث والمعاصر ما ينم عن أن هذه الظاهرة ما تزال في استفحال، وأن دعاة امتلاك الحقيقة ومحتكريها في تصاعد حتى بات الاختلاف عن أو مع هؤلاء الدعاة أمرا محرما وتبعاته خطيرة تصل إلى حدود التكفير الذي تستتبعه إقامة حد القتل. إن قوائم الذين قضوا اغتيالا بسبب أفكارهم كثيرة، وقوائم المحكوم عليهم بالقتل مع وقف التنفيذ كثيرة هي الأخرى. وحسب وقائع الاغتيال التي كنا شهودا عليها في وقتنا الحاضر، أو تلك التي أرخت لها كتب التاريخ، تظل الفئة المستهدفة من عمليات التصفية الجسدية هي تلك التي آثرت أن تجدد في طرق التفكير وأعملت العقل من أجل فهم جديد لعناصر هويتنا بما في ذلك عنصر الدين الذي حرروه من إسقاطات المقاربات المتحجرة، وفتحوا بذلك بابا جديدا للاجتهاد، يتيح لنا استيعاب ماضينا وحاضرنا بشكل أفضل، كما يتيح لنا استشراف مستقبلنا... نأتي في هذه السلسة الرمضانية على استذكار بعض من هؤلاء ممن أصابهم سلاح الجهل في مقتل. نستذكرهم اليوم، رفقة قرائنا الكرام، اعترافا لهم بانتصارهم لقيمة العقل كضرورة لا محيد عنها لبناء المجتمعات الحديثة. موت حسين مروة.. الذكرى الكئيبة موت حسين مروة، أو بالأحرى اغتياله، كان خطبا كبيرا ترك جرحا عميقا في جسد الثقافة العربية. وسنة 1987 سنة اغتياله، كانت سنة الخسارة الكبرى في تاريخ الفكر العربي في شقه المتنور، لأن حسين مروة الذي اغتالته رصاصات الغدر والظلام بتعبير موقع "ينابيع العراق" في كلمة أحيى بها ذكرى الشهيد السابعة والعشرين، يعتبر، بحق، إحدى الدعامات الأساسية التي يقوم عليها المشهد الثقافي والفكري العربي الحديث. ليس هذا وحسب، بل إنه إلى جانب كونه مفكرا كان رجل سياسة (قيادي في الحزب الشيوعي اللبناني) ومناضلا أمميا. وقد جاء في كلمة موقع "ينابيع العراق" الإحيائية التي استحضرت ذكرى الشهيد حسين مروة أن الأخير كان مفكرا "خارج السرب الطائفي والمذهبي وينتمي إلى قوى خارج الاصطفافات الطائفية المتقاتلة في لبنان". ************************** ولد حسين مروة عام 1910 في قرية "حداثا" في جنوبلبنان بحسب السجلات الرسمية، ولكن مروة روى أن تاريخ ميلاده الحقيقي كان سنة 1908. أرسله والده إلى العراق عام 1924 لدراسة العلوم الإسلامية في جامعة النجف، وأنهى دراسته فيها عام 1938. بدأ اهتماماته بالكتابة الأدبيّة منذ سنوات دراسته الأولى في العشرينات، فكتب المقالة والقصة والنقد والبحث، كما كتب بعض الشعر. بداية اطلاعه على الفكر الماركسي كانت عام 1948 عبر قراءة "البيان الشيوعي". شارك أدبياً وإعلامياً وعملياً في إحداث الوثبة الوطنية العراقية عام 1948، التي أسقطت معاهدة بور ستموت البريطانية مع حكومة العهد الملكي. وإثر عودة نوري السعيد إلى الحكم في العراق عام 1949، اتخذ قرارا بإبعاده عن العراق فوراً مع عائلته. عاد مروة في شتاء عام 1949 إلى بيروت حيث واصل الكتابة الأدبية في زاويته اليومية "مع القافلة" في جريدة الحياة لمدة سبع سنوات. تعرّف عام 1950 على فرج الله الحلو وأنطون ثابت ومحمد دكروب، ونتج عن هذا التعارف تأسيس مجلّة الثقافة الوطنية التي أصبح الشيخ حسين مديراً لتحريرها إلى جانب دكروب. انتظم رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني عام1951. انتخب عام 1965 عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني وبعدها عضواً في المكتب السياسي. ترأس تحرير مجلّة "الطريق" الثقافيّة من العام 1966 حتى فبراير1987 تاريخ استشهاده. درّس مادة فلسفة الفكر العربي في الجامعة اللبنانية في بيروت. وحاز على شهادة دكتوراه فخرية من موسكو. تزوّج من ابنة بنت عمّه فاطمة بزّي وأنجب تسعة أولاد. ********************************** وفي ما يشبه التكريم أصدرت دار "الفارابي"، بعيد اغتيال حسين مروة، كتاباً بعنوان "حوار مع فكر حسين مروة" جاء في 350 صفحة من الحجم الكبير، وهو عبارة عن مقالات ودراسات وأبحاث شاملة لمفكرين سلطوا الأضواء على مسيرة مروة النقدية والفكرية، وضمنهم مهدي عامل، رفيق مروة في الكفاح والشهادة، والذي اغتيل هو أيضا بالرصاص الطائفي المجرم. ومما قاله مهدي عامل بحق حسين مروة إنه "كان راسخاً في فكره منذ أن ولج إلى الوعي الذي سيكون وعيه، وخاض معركة الواقعية في حقل النقد الأدبي وسيخوض معركة المادية في حقل الدراسات التراثية. وكان في كل مرة يخوض معركة الحرية والديمقراطية من أجل التقدم والاشتراكية". وتناول محمد دكروب في الكتاب المذكور ملامح من المسيرة الفكرية لحسين مروة مؤكدا على حقيقة أنه منذ ظهوره كاتباً ارتبطت صفته هذه بصفة المناضل، فلم تنفصل الكتابة عنده ولا في أية مرحلة من مراحل حياته عن نشاطه العملي كمناضل، حتى كتابه الموسوعي الأكاديمي "النزعات المادية" إنما كتبه في الأساس كإسهام في معركة إيديولوجية وكسلاح معرفي في معركة فكرية سياسية طبقية راهنة. وكان يرى في التزامه كتابة المقالة اليومية والأنواع الكتابية الأخرى شكلاً هاما جدا من أشكال الممارسة الكفاحية باعتبار هذا الشكل علامة من علامات الحضور النضالي اليومي وإسهاماً مباشراً في إنارة الوعي بالقضايا المطروحة وطنياً وسياسياً وثقافياً ومعاشياً. وبدوره، سرد القاص السوري حنا مينه شيئاً من الذكرى مؤكداً أن حسين مروة المفكر والمناضل والشهيد لم يكن معلماً فحسب، بل كان أخاً كبيراً وكانت معلميته في قدرته على جعل الكل يتقبل أفكاره دون لغط. كان يسوق الكلام (يقول حنا مينه) كأنما يطرح أسئلة ينتظر جوابها، في حين يتولى هو نفسه الإجابة عبر حوار هادئ. على أن عطاء هذا "المعلم" لم يكن قولاً أو إبداعا فحسب، بل كان فصلاً نضالياً وصموداً إبداعياً هما الذخيرة والأمثولة اللتان نتعلمهما من سيرة حياته الحافلة، الجليلة، الماجدة والباسلة، وقد أعطى برهانه النضالي لا من خلال الموقف معه، فقد كان مفكراً مناضلاً قاتل بالكلمة وقاتل بالموقف وقاتل بالجسد، وثبت في بيروت حين كان الاجتياح الإسرائلي يسودها ويقتحمها ويشعل أبنيتها وشوارعها بالنار. كما تحدث عن حسين مروة في أقسام الكتاب الأخرى كل من الطيب تيزني وهادي العلوي ويمنى العيد وآخرون، مستحضرين إسهاماته الفكرية العديدة التي كرسها لإضاءة العقل العربي وتنوير عقل الإنسان العربي بتوطيده للفكر العقلاني والحر؛ وهذا، بكل تأكيد، ما ألب عليه ذوي العقول المستسلمة لتخلفها الذين داهموه في بيته وقتلوه على مرأى من زوجته وأبنائه، ليكون علامة بارزة على اغتيال العقل العربي المستنير في القرن العشرين.