قرأت وصفا للحالة الليبية كتبه أحد أصحاب الصفحات في موقع فيسبوك، يتمثل في صورة مدينة طفحت فيها المجاري، فصار أهلها يخوضون وسط العفونة ويتنفسون النتانة ولا يلتقون إلا بالحشرات، وهي صورة قاتمة وصلت حد المبالغة والتهويل في رسم الحالة الليبية، ولكنني لا ألوم صاحبها ولا غيره ممن يراودهم مثل هذا الإحساس بالاشمئزاز والقرف من الدرك الأسفل الذي وصلت إليه الأمور. لقد تطلع الليبيون بتفاؤل وأمل إلى ما تقوم به بعثة الأممالمتحدة في ليبيا من دور، وما تولت ترتيبه من حوارات، كان آخرها حوار الصخيرات بالمملكة المغربية، وما نقلته تصريحات المندوب الأممي في ليبيا برناردينو ليون من بشرى إلى أهل البلاد، كانت مصدر فرح لهم جميعا، عندما تحدث عن قرب الوصول إلى حل للنزاع وخروج من الأزمة، شارحا كيف أن أطراف الصراع المتواجدة على مائدة المفاوضات تحت إشرافه، قد وصلت إلى توافق يبدأ بتشكيل حكومة وحدة وطنية تدير البلاد، وتملأ الفراغ الذي شكله انهيار الدولة وغياب النظام والقانون، وانتشار الجريمة المنظمة، وتفاقم خطر الجماعات الإرهابية، مع ما صارت تشكله الحدود الليبية المنتهكة من مخاطر الهجرة غير الشرعية، التي تنطلق من شواطئ ليبيا المفتوحة بمساحة ألفي كيلومتر على فضاءات أوروبا وسواحلها، وكانت أطراف كثيرة من مناصري الحراك الشرعي المتمثل في مجلس النواب والحكومة المؤقتة المنبثقة عنه، ينتقدون الحوار من منطلق أنه لم يكن صوابا أن يشمل ما يسمى المؤتمر الوطني العام، الذي انتهت صلاحيته منذ انتخابات مجلس النواب، بل كانت هذه الصلاحية منتهية قبل ذلك بفترة طويلة، عبر انتهاء مدته واستقالة عدد كبير من أعضائه، ورفضهم هيمنة الميليشيات المتطرفة عليه، وسيطرتها على قراراته، وما شاب هذه القرارات والسياسات من عوار، انتهت باستقالة رئيسه السابق محمد المقريف ونائبه، ثم انتهى هذا المؤتمر وبليت عظامه وصارت رميما، بعد أن استقرت الأمور لمجلس النواب الجديد، إلا أن بعض الميليشيات المسلحة التي احتلت العاصمة، رأت إعادة إحياء هذه العظام الرميم لاستخدامها واجهة سياسية، تحقق بها شرعية زائفة كاذبة، ولهذا استنكرت الطلائع المستنيرة من أبناء ليبيا، أن تعتمد البعثة الأممية في البلاد، هذا الكيان المفتعل طرفا في الصراع، وتدعوه ليتبوأ مركز الصدارة في المفاوضات، ويجلس ندا لمجلس النواب على موائد الحوار. وبعد جولات فاشلة شهدتها مدينة جنيف، وقبلها مدينة غدامس، وحواضر عربية مثل القاهرة والجزائر وتونس، وصولا إلى الرباط في المغرب، تحقق ما يمكن أن يشكل بادرة أمل، ورأى الناس انفراجة يأتي منها النور، ويمكن عبرها الخروج من الحالة المتأزمة، حالة طفح المجاري التي وصفها المدون الليبي، إلى حالة تضمن عودة الحياة الطبيعية في البلاد، وتمضي باتجاه استئناف حكم القانون وتعالج الفوضى وتمنع انتشار الجريمة، وتنهي الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان قتلا وخطفا واغتصابا، ولم يكن أحد من المراقبين يتصور أن يأتي الاعتراض على فرص الحل، من هذه الجثة التي بعثت فيها الحياة، المسماة المؤتمر الوطني العام، ليخرج رئيس وفده، ليقول أن مؤتمره لا يوافق على تشكيل حكومة الوحدة ويبادر بقفل الكوة التي تسرب منها شيء من النور على المشهد السياسي الليبي، ليعود المشهد إلى عتمته وظلامه، بل ونرى هذا المؤتمر الميت، يطالب أكثر من ذلك، بإنهاء دور المبعوث الأممي برناردينو ليون ويرفض استمرار مهمته في ليبيا، إمعانا في التحدي ورغبة في استمرار المسار الإجرامي الإرهابي الميليشياي، الذي أدخل البلاد في حالة الفوضى والارتباك بل والإرهاب والإجرام، لكي تبقى ميليشيات التطرف وجماعة القاعدة وداعش تمرح وتسرح في طول البلاد وعرضها، باعتبارها أرضا مستباحة مفتوحة لممارساتهم، واستدعاء أهل التطرف من أنحاء العالم، لاتخاذ ليبيا ملجأ وقاعدة لعملهم. هذا الرفض الذي يأتي من جهة لم تكن تملك أية صفة لتمثيل الشعب الليبي، مكافأة يستحقها المندوب الأممي، لأنه أعطى اعتبارا وقيمة لهذا الكيان الكاذب، أولا، ولأنه ثانيا تأخر في استخدام ما تملكه الأممالمتحدة من أسلحة ضد الخارجين على القانون، وأهل التطرف والإجرام والعمليات الإرهابية ومعرقلي المسار الديمقراطي، فلم نر لائحة تقدم لمحكمة الجنايات الدولية، ولم نر أية مراقبة للمرافئ والموانئ التي تصل منها الأسلحة لهذه الجماعات المسلحة، ولم نر حظرا يشمل الدول التي تقدم الأسلحة للمتطرفين، وقد ضبطت هذه الأطراف وهي في حالة تلبس بالجرم المشهود، وطالبت السلطات الشرعية في ليبيا المجتمع الدولي بأن يصدر حظرا على هذه الدول بمد السلاح إلى ميليشيات ليبيا وجماعات الإرهاب فيها، ولكن المجتمع الدولي بدلا من ذلك، شدد حظر السلاح على الجيش الليبي الذي يحارب الإرهاب، ويقدم التضحيات نيابة على المجتمع الدولي، في محاربة الجماعات التي طالت جرائمها بشرا من كل الأجناس والأديان. حان الوقت لأن تستخدم الهيئة الأممية ما لديها من قوة، وما بين أيديها من أسلحة، لفرض النظام والقانون، ومعاقبة المسؤولين عن الفوضى والمتسببين في عرقلة الحوار، وإنشاء الدولة المدنية، لكي تحدث تأثيرا إيجابيا في الحالة الليبية، بدلا من استمرار هذه اللعبة العبثية التي تتم تحت إشرافها وبإدارة ممثلها في ليبيا برناردينو ليون. *كاتب ليبي