لا يُبْدي كثيرٌ من المتتبِّعين الخُبراء بجغرافيا الثقافة المغربية المعاصرة ودروبها وتفاصيلها ارتياحاً على واقعها ومستقبلها القريب على الأقلّ؛ لاعتبارات ومسبِّبات تُفضي، في أحايينَ، إلى ملْء سماء هذه الثقافة بضباب كثيف يحجب عنا رؤيتها. فهم يسجّلون ملاحظات عدة على السياسة الثقافية ببلدنا، تخطيطاً وتدبيراً وتقويماً، وعلى حجم الدّعم المقدَّم لها وكيفية توزيعه، وعلى الجوائز المُعتبَرة المخصّصة لتقدير الإبداع والبحث والتطوير العلمي. ولذلك، تعالت أصواتُ الاستنكار والاحتجاج مراراً، مطالِبةً بالتغيير وتبنّي مقاربات وسياسات بديلة، أنجع وأكثر تأثيراً وفاعلية، في المجال الثقافي العامّ؛ أمَلاً في النهوضِ به حقيقةً، وتبْويئِه مكاناً أسْنى يُشرّف المثقف والثقافة المغربية إقليميا ودَوْليا، وإعادةِ الثقة فيه، لاسيما بعد أن بلغ ذلك الاحتجاج أو الرفض مَدَيات بعيدة، رافقه بُزوغُ قاموس تداولي في كتابات كثير من الرافضين، من أبرز مُفرَداته: الريع الثقافي، والمحسوبية والزبونية، والمَنطق الحزبي، والرداءة، والمثقف المأجور... وإقبالٌ متزايد على النشر في أقطار عربية أخرى، في مصر والشام والخليج العربي أساساً، واستمرارٌ في المشاركة في جوائزها، الأدبية والفنية والعلمية، التي طالما ابتسمت لهم، وحازوها عن جَدارة واستحقاق. ومن باب النَّصَفة، لا بد من الإقرار – في نظري – بما تحقَّق لمشهدنا الثقافي المغربي من مكاسب ومُنجَزات، في الآونة الأخيرة، وإنْ كانت دون الانتظارات والآمال العِراض المعقودة عليه بكثير. فهذا المشهدُ ما زالت تسوده بعض السلوكات والظواهر الممتدّة إليه من الماضي، والتي تحكمها "العلاقات"، وتستمرّ في تكريس الأسماء نفسها، علماً بأنّ عدداً منها يصرّ على أن يظلّ وفيا لأسلوب كتابة قد لا يوافق تطور الثقافة والأدب المغربييْن... وما زال النشر والتتويج والاحتفاء – في كثير من الحالات – يسير في الاتجاه نفسِه. طبعاً، فالأسماءُ الرائدة، التي تُصنّف عادة في خانة "جيل الرواد"، يلزم الاعتناء بها ألواناً شتى من الاعتناء، وتقديرها والاعتراف لها بكل ما أسْدَته للثقافة المغربية على امتداد عقود، والاستنارة بتوجيهاتها، واستشارتها لدى الإقدام على رسم السياسات، ووضع البرامج، في المجال الثقافي. ولكنْ دون إغفال الانتباه إلى الأصوات الجديدة الشّابّة المُبْدِعة في كثير من الميادين، بل ينبغي الإنصات إليها هي الأخرى، وإشراكها فعليا، وتشجيعها، وتثمين عطاءاتها التي تستحق التقدير... وبذلك، وَحْدَه، يتحقق التكامل والامتداد، وتُخلق جسور بين الخلف والسلف، ويغتني الأدب والثقافة وغيرهما من مجالات الإبداع والمعرفة ببلادنا، ويزول ما سُمي "صراع الأجيال" في هذا الشأن... * * * ما زالت، إذن، الساحة الثقافية لدينا تعيش اختلالات على أكثر من صعيد. فما زال المبدع المغربي، ولاسيما الشابّ الذي لم يستطع بَعْدُ فرضَ اسمه داخل هذه الساحة، يجد صعوباتٍ في نشْر إبداعاته ورقيا؛ الأمرُ الذي يدفعه إلى تحمُّل نفقة هذا النشر، وإنْ كان ذلك وحده لا يحل الإشكال؛ لأنه يواجه صعوبة أخرى، تتعلق بتوزيعه، في ظلّ تراجع مقروئية الكتاب الإبداعي عموماً في بلدنا، وضعفِ القدرة الشرائية لكثير من القراء. ويولي بعض مُبْدِعِينا وجوههم شطر أقطار المشرق العربي لنشر إبداعهم. وإذا لم يسْعِفهم الحظّ في ذلك، يعْمِدون إلى نشره إلكترونيا – كُلاّ أو بعْضاً –، أو إلى الاحتفاظ به إلى حين. ولم يَخْتفِ الريع الثقافي والمحسوبية ومنطق "العلاقات" بعْدُ من مشهدنا الثقافي. وبخلاف جملةٍ من المنابر الصِّحافيّة المغربية، المتخصّصة وغير المتخصصة، التي صارت أكثر انفتاحاً على الأسماء الشابّة والجديدة؛ فتنشر لها ما هو جديرٌ بأن يُنشَر طبعاً، نجد أخرى وكأنها قلاع تستعصي على مثل ذلك الانفتاح، أو تحتضن كُتابا جُدُداً على نحو محدود جدّا! وترى، في مشهدنا كذلك، أن الاحتفاء بالأعمال الجديدة تُميّزه انتقائيّة واضحة، تكرّس الأسماء "الكبيرة"، التي تُعقد مهرجانات ولقاءات هنا وهناك، على امتداد جهات المملكة، لتوقيع إصداراتها وتقديم قراءات فيها، على حين لا يُلتفَت، أحياناً كثيرة، إلى إنتاجات أسماء أخرى "غير كبيرة"، حتى وإنْ اجتمعت فيها الأصالة والجِدّة والتميز. وهذه الانتقائية نلحظُها كذلك فيما يخصّ الأسماء التي تُسْتدعى لحضور أنشطة وملتقيات كبرى؛ إذ ما زالت العلاقات تحكمها، وربما "تبادل المصالح" أيضاً، وهذا ممّا يُلمَس، مراراً، حين حُضور مثل هذه اللقاءات!! وما زالت الجوائز، في المجال الثقافي، مثارَ نقاشات وأسئلة كثيرة، بشأن قيمتها المادية، وتشكيلات لِجَانها، وقراراتها النهائية. وغيرُ بعيد عنّا النقاش الذي أعقب حجْب جائزة المغرب في مجال الشعر هذه السنة؛ هذا الحَجْب الذي أثار رَدّات فعل متباينة، تبلورت في بيانات وكتابات عديدة، احتضنتها الصِّحافة الورقية والواقع الافتراضي أيضاً. وينضاف إلى ذلك غيابُ رؤية واضحة، في المشهد الثقافي، تكون محلّ توافق، ونتيجة إشراك حقيقيّ لمختلِف الفاعلين فيه، على المستوى الرسمي والشعبي؛ ولهذا تظهر مقالات منتقِدَةٌ من فور الإعلان عن السياسة الثقافية للقطاع الوصيّ عليها كلَّ سنة، يدعو عددٌ منها إلى رفع الميزانية المرصودة له؛ بالنظر إلى أهمية المَدْخل الثقافي في كل إصلاح أو عملية تنموية، ويدعو بعضها إلى مراجعتها من زوايا أخرى، وإلى أخذ ملاحظات الجسم الثقافي بعين الاعتبار. وما زلْنا نفتقر إلى آليات ترسيخ تقليد "الدخول الثقافي" ببلادنا. وما زالت مؤشرات القراءة والمصالحة مع الكتاب دون المستوى المطلوب. و... و... * * * لا مناص من أن نشير، ها هنا، بكثير من التقدير، إلى المجهود الكبير الذي بذله اتحاد كتاب المغرب، من أجل عقد المناظرة الوطنية للثقافة المغربية، بطنجة.. مجهود رئيسه عبد الرحيم العلاّم وأعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد كافة، بتعاون مع جميع الشركاء والفعاليات الدّاعِمَة الغَيُورة على الشأن الثقافي ببلادنا. وقد استطاعت هذه المناظرة أن تقدّم تشخيصاً لواقع الثقافة المغربية، وتضع الأصبع على جملة من مَواطنها التي تحتاج إلى مجهودات إضافية للرقي بها، وتجاوز ما يكتنفها من اختلالات تعرقل سيْر هذه الثقافة نحو تحقيق غاياتها الكبرى. كما خرجت المناظرة بتوصيات مهمّة نأمُل أن تتحوّل إلى واقع ملموس في أقرب وقت. وعموماً، فثمة واجهاتٌ كثيرة للاشتغال، ويلزم تكثيف الجهود وتنسيقها بُغيةَ إحلال المثقف المغربي الموقع الذي يستحقه، وخلق الجسور بين الأجيال والحساسيات، وإشاعة قيم الاعتراف والتقدير المتبادَل بينها... وبُغيةَ تَبْوِيءِ ثقافتنا مكانة رائدة داخليا وخارجيا؛ لتكونَ عنصراً يرْفد مسلسل التنمية والتحديث والدّمقرَطة، ولتكونَ لَبِنة أساساً في صرْح الثروة اللاّمادية لبلدنا اليومَ وغداً، ولتكونَ عاملَ إشعاع يشرّف المثقف المغربي في المَحافِل العربية والقارّية والعالمية. إنّ مشهدنا الثقافي في حاجة إلى تقوية بنائه الداخلي، وإلى ترسيخ قيم الحَكامة والشفافية والاستحقاق فيه، وإلى تشجيع المُبادَرات والفاعِلين الحقيقيّين فيه ماديا ومعنويا، وإلى الإنصات إليهم، واستشارتهم، والأخذ بمُقترَحاتهم الجادّة لدى صياغة البرامج والإستراتيجيات والسياسات الثقافية. كما يتعيّن – للرُّقيّ بهذا المشهد – زيادة الدّعم المُوجَّه لنشر الكتاب، وتيسير سُبُل توزيعه داخليا وخارجيا، وإتاحة فرَص متساوية في مجالات الاحتفاء والتكريم والظهور الإعلامي. كما تدعو الحاجة إلى وضع أجهزة لمُراقبة طبع الكتُب ونشْرها، لاسيما بعد أن صارت الساحة الثقافية اليومَ تعرف إصدارات يُميّزها الضعف من كل ناحية، ما دام أصحابها يتكلفون بنفقات طبعها، ويتحمّلون عبْء توزيعها. فلتفادي ذلك، أو التقليل منه على الأقلّ، يجب إخضاع الأعمال المُراد نشْرُها للتحكيم والمُراجَعَة ضَماناً لتوفُّر الحدّ الأدنى – على الأقلّ – من شروط النشْر فيها...