كيف تقرأ هذا الحضور الثقافي المغربي المتزايد في المشرق؟ ●● بنظرة عامة؛ منذ مقولة بن عباد الشهيرة حين استلم كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه: «بضاعتنا ردت إلينا» منذ هذه القولة والشرق العربي ينتصب مركزا ثقافيا وإشعاعيا تعم أنواره وتطول ثماره سائر البلدان العربية. وكان المغرب على غرار جيرانه هامشا قصيا (طبعا المغرب الأقصى) تابعا للمشرق ودائرا في فلكه وقابسا من مشكاته، وكان المشرق حاضرا بقوة على المستوى الثقافي من خلال كتبه ومجلاته وصحفه وإعلامه المسموع طبعا بالدرجة الأولى، كما كان قبلة للأنظار ومحجا ثقافيا ومعرفيا للمغاربة من سائر المشارب والتخصصات. ومازالت هذه المعادلة الثقافية اللامتكافئة قائمة إلى ما بعد منتصف القرن الماضي، لكن بعد هبوب رياح الحداثة الفكرية والأدبية من الضفة الغربية الأوربية في سبعينيات القرن الماضي؛ بدأت المعادلة تميل جهة المغرب، إذ أصبح المغرب معبرا استراتيجيا للحداثة الغربية ومجالا حيويا لها، وأصبح منذئذ ورشا أدبيا وفكريا يتحرك بدينامية طموحة شابة ومتسارعة، منذئذ بدأ البساط ينسحب بالتدريج من تحت المنارة المشرقية لصالح المنارة الثقافية المغربية على الصعيد النقدي والفكري بخاصة، وثم على الصعيد الإبداعي بعامة.وكان النبوغ المغربي حاضرا ومتجليا بقوة على صعيد الخطاب النقدي والسرد الأدبي بشهادة المشارقة أنفسهم، ويماثل المغاربة في هذا الصدد قلة قليلة من الأسماء الخليجية الحداثية الرائدة في المشهد الأدبي والنقدي العربي . هكذا أصبحت الكتب والمؤلفات المغربية تطبع وتنشر في المشرق خلافا لتلك القولة الشهيرة السائدة من قبل: «القاهرة تكتب وبيروت تطبع والعالم العربي يقرأ» كما أصبحت كبريات المجلات المشرقية والخليجية مزدانة بالأسماء والمساهمات المغربية الجادة وبخاصة لأجيال شابة وجديدة من الكتاب والباحثين المغاربة، ولربما كان النتاج المغربي المنشور في المشرق مساويا أو مضاهيا للنتاج المنشور في الداخل . هذا إضافة إلى الجوائز الأدبية والفكرية والإبداعية التي يحصدها كثير من المغاربة تباعا في الخليج والمشرق. هي إذن جدلية المركز والمحيط تنحو منحى آخر، وهو المغرب الثقافي يخرج من عباءة المشرق الثقافي بعد أن استوعب دروس المثاقفة المزدوجة، وأقول المزدوجة لأنها من الشرق من جهة ومن الغرب من جهة أخرى.. وتلك الأيام نداولها بين الناس. ألا يمكن إرجاع الحضور المغربي في المنابر المشرقية إلى البنية الثقافية المغربية المهترئة إن صح التعبير..فالمبدع والكاتب المغربي لا يجد الأوعية الثقافية المطلوبة، وهو ما يضطر القلم المغربي إلى الهجرة نحو المشرق؟ ●● هذا وارد بنحو ما؛ لكنه لا يشكل بالضبط هذا الاقبال المغربي على المشرق، سيما وأن قنوات النشر والتوزيع في المغرب قد شهدت تطورا ملموسا خاصة في العقدين الأخيرين، بمعنى أن قنوات التواصل الاعلامي والنشري والطباعي بالنسبة للمثقفين المغاربة لم تعد أفقا شبه مسدود كما كان عليه الأمر من قبل.. أصبحت هناك منابر ثقافية متعددة ومتنوعة، كما أن دور النشر والطبع أصبحت متكاثرة وتدار بأحدث الدواليب والأجهزة والأنظمة بما يجعل الأفق مفتوحا ومشروعا أمام الكاتب المغربي ليدلي بدلو ثمرته وإنتاجه، لكن تبقى مقولة أن مطرب الحي لا يطرب واردة طبعا في هذا السياق، وبما أننا نعيش الآن في سياق جارف بالعولمة والانفتاح؛ فإن الكاتب والمبدع المغربي لم يعد يقنع بالرقعة الوطنية فحسب؛ بل أصبح يشرئب إلى عوالم أخرى لإيصال صوته وإنتاجه، من هنا هذا الامتداد لقنوات التفاعل والتواصل بين المشرق والمغرب هو في سياق حضاري وثقافي ايجابي وجيد، فلم تعد هناك مركزيات منغلقة على بعضها أو محيطات تبقى عالة على تلك المراكز؛ بل أصبح هناك نوع من التكافؤ والندية في الإرسال الثقافي وفي التلقي أيضا. بغض النظر عما قلت.. يرى البعض أن المبدع والكاتب في المغرب يحتاج أن يكتشف في الخارج حتى يفرض وجوده في داخل بلده! كيف ترى الأمر؟ ●● هذا مشكل ينبع بالدرجة الأولى من تهميش الثقافي في المنظومة المدنية والاجتماعية والسياسية المغربية، فالمثقف بشكل عام والمبدع بشكل خاص لا يحظى اجتماعيا وسياسيا ووطنيا بالمكانة الملائمة المستحقة وبالاهتمام الذي ينبغي أن يوجه إليه، وهذا غني عن البيان. الشأن الثقافي يأتي في آخر اللائحة وفي آخر الاهتمامات سواء تعلق الأمر بمؤسسة الدولة أو حتى بالمجتمع ذاته الذي لا يمكن أن نبرئ ذمته في تهميش الثقافي والنظر إليه بما يشبه الاستخفاف، هذا في الوقت الذي تنال وتحظى فيه أنشطة أخرى بحصة الأسد سواء تعلق الأمر بالمجتمع أم بالدولة.. كرة القدم على سبيل المثال أصبحت اليوم منافسا لكل الأنشطة والقيم الأدبية و الثقافية الأصيلة والجميلة والحقيقية. من هنا فإن المبدع المغربي وهذا بالنسبة لمختلف الأجيال؛ يجد أحيانا ضالته أو متنفسه خارج الحمى هنالك في المشرق أو في الخليج، ولا يمكن أن نغفل هنا البعد الاقتصادي بما أن الثقافة والإبداع مهمشان في عقر الدار ولا ينالان الاهتمام المعنوي ولا المادي؛ فإن الكاتب أو المبدع المغربي يجد ضالته وغايته في منابر وعوالم إنتاجية خارج الوطن سيما وأن النشر خارج الوطن تكون له مكآفات وتعويضات مثلا في المجلات أو الصحف أو حتى بالنسبة لدور النشر .. فكل إنتاج إلا ويستحق مكافأته وتشجيعه المادي والمعنوي، هذا مما يدفع ويحفز الكتاب والمبدعين المغاربة خاصة الشباب منهم الذين تضيق بهم السبل داخل وطنهم فيشرئبون إلى المشرق والخليج أيضا. أولا للتنفيس عن مكبوتهم الثقافي والإبداعي فيطلقون سراحه بسلاسة ويسر هنالك في المشرق العربي، ثم يحظون بقليل من الاعتراف المادي والمعنوي لما يبذلونه من جهد، وهذه الفرص والحيثيات لا تتحقق كفاية في المغرب؛ لأن المسألة تعود أولا وأخيرا إلى أن الشأن الثقافي لا يزال مغيبا ومهمشا من دائرة اهتمام المواطن من جهة ومن دائرة اهتمام الدولة من جهة أخرى التي تولي عناية فائقة لبعض المهرجانات الفنية الأخرى كالغناء والتمثيل والمسرح في حين أن ما يتعلق بالتشجيع الثقافي والأدبي يأتي دائما في آخر اللائحة.