يشكل المقهى، الفضاء الأثير لدى أدبائنا - كتاب القصة بالأخص- بمختلف أجيالهم.حيث لا تكاد تخلو مجموعة من مجاميعهم القصصية،من تناول هذا الفضاء وما يحبل به من وقائع ونزوات. هناك من يعتبر المقهى عالمه الأدبي، بحيث أنه لا يستطيع الكتابة عن شيء آخر، خارج هذا العالم بالذات. نلتقي هنا إذن، مع المقهى في مختلف تلاوينها ومسمياتها: الحانة، المقشدة، الكافتريا، المثلجات، المطعم، البوفيت، النادي الليلي..من هذه الفضاءات، ما هو وضيع، ومنها ما هو باذخ، أو حسب تعبير أحد الأدباء:»مكان نظيف وجيد الإضاءة». من هذه الفضاءات كذلك، ما هو محترم، ومنها ما يشكل بؤرة فساد. *** كل ذلك يجسد غنى وثراء لذخيرة السرد المغربي. عندما طلبت قهوتي في ذلك الصباح، حوالي العاشرة تماماً، كان المقهى شبه فارغ من الزبائن. كان هناك بعض الطلبة متفرقين على موائد متباعدة، يراجعون دروسهم أو يتناقشون في أشياء قد تهمني أو لا تهمني أو قد تهمهم وحدهم. كنت بانتظار» س» ،فموعدنا دائما يكون في نفس الساعة كل يوم سبت أو أحد، بطبيعة الحال تتكرر مواعيدنا في أيام أخرى وفي أوقات أخرى. كانت» س» قد تأخرت قليلا اليوم. وهذا غير مهم، فقد تحصل أشياء قد تقدمك أو تؤخرك. عندما كنت أرشف قهوتي، بعد أن تصفحت جريدة المقهى وأنا أدخن بغير نهم، كانت أفواج الطلبة تنتشر على الموائد، وأيضاً بعيدا قليلا على عشب الحديقة العمومية، فلعله المكان الفسيح الوحيد الذي يستطيع أن يستوعبهم. جاءت فتاة يبدو أنها لم تنم جيدا منذ أيام . جلست قبالتي، وبالقرب منها كان هناك شاب وشابة يتحدثان بصوت منخفض، ويبدو أن فيه نوعاً من العتاب أو الحب. وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يعرفها سواهما. كما لا يستطيع أحد أن يعرف أن تلك الفتاة نامت أم لم تنم. إنها أشياء بعيدة عن إدراكنا، طلبت تلك الفتاة عصيرا، نظرت إليّ، لكني أخذت أتصفح الجريدة من جديد، ثم رفعت رأسي فرأيتها تنظر إلى الشاب والشابة، وخطرت لي هواجس غريبة استمرت وقتاً قصيراً، لأن «س» قالت صباح الخير، فلم تستمر هواجسي. - صباح الخير يا حبيبتي. لقد تأخرت اليوم. -لا تسال . قد يحدث هذا . إنها مسائل بسيطة . ما أخبار والدتك ؟ - لا تزال تعاني إنها مسائل بسيطة. تحدثنا في أشياء اعتيادية، وكان الطلبة مشغولين في عالم خاص بهم. لكن الفتاة كانت لا تزال تنظر إلي وإلى «س». فتحت حقيبتها وأخرجت علبة سجائر، وبعد تردد قليل، وقفت واتجهت نحونا. و طلبت من» س» أن تشعل لها سيجارتها لكن «س» لم تكن تدخن، أشعلت لها السيجارة، ظلت واقفة أمامنا في ذهول وكأنها في عالم آخر. التفتت ونظرت إلى الحديقة، حيث كان الطلبة ممددين على العشب، قالت بعد أن جذبت نفسا من سيجارتها: - هل يمكن أن أجلس معكما ؟ إني أشعر بوحشة في هذا المكان. أحسست بالذهول والدهشة على وجه «س»، نظرت إلي، قلت في نفسي «هذه أمور عادية»، و»س» تعرفني جيدا « قلت للفتاة. - تفضلي. عادت إلى المائدة، وجلبت فنجان قهوتها، وكيساً أسود لم أتبينه أول الأمر. استمرت «س» تتحدث عن مرض والدتها، ولم نعر اهتماما للفتاة التي جلست إلى جانبنا. كانت شاردة. حلق عصفور فوق رءوسنا وكاد أن يحط فوق المائدة. كانت «س» تنظر إليه وهو يزقزق وينط فوق العشب. قلت للفتاة الشاردة : - لقد قرب وقت الامتحان. ما هو تخصصك؟ نفتت دخان سيجارتها وقالت دون أن تنظر إلي: - لست طالبة. يبدو أن»س» لم تتقبل حضورها بيننا لكنها قالت بهدوء: - هذا المكان لا يرتاده إلا الطلبة. قالت الفتاة : - كنت أتمنى أن أكون كذلك. ثم وقفت ببطء، وأخذت تتمشى، عندما ابتعدت قليلا قلت ل»س» : - يبدو أنها مخدرة. - العلم عند الله. عادت الفتاة إلينا. رشفت من فنجانها جرعة وهي واقفة ثم قالت: - لست طالبة، ولكني جئت لكي أبحث عنه. كنت أعتقد أنه يوجد في هذا المكان. لقد قالت لي إحدى صديقاتي إنه يأتي إلى هنا. قلت لها: - من يكون ؟ - إنه هو. - من يكون؟ - إنكما لا تعرفانه. و كنت أعتقد أنكما تعرفانه، فهو يتحدث بالطريقة التي تتحدثان بها، كان طيبا وكان يتحدث بهدوء مثلما تتحدث أنت إلى هذه الآنسة أو السيدة لا أدري. لكنه ذهب. - من يكون ؟ - إنه الذي أبحث عنه، وهو يشبهك. نظرت إلى « س « فلاحظت أن ملامح وجهها قد تغيرت. كانت الفتاة تتمشى ببطء، وتنظر إلى الأعشاب وتدور حول نفسها وهي شاردة تماماً. ثم قالت: - لا يهم أن يشبهك أولا يشبهك، سوف أبحث عنه في كل مكان. كان في صوتها حشرجة بكاء، ثم مشت بعيدا عنا بخطوات بطيئة. لم نفهم أي شيء كانت «س» تنظر إلي في صمت. ثم قالت: - الله يستر. - الله يستر، لا نعرف شيئا يمكن أن الناس قد أصابهم جنون. - لا يهم لقد ذهبت لتبحث عنه. - قد تعثر عليه في أي مكان. - الأمكنة تتشابه و الرجال لا يتشابهون. - ذاك شأنها، ما يهمنا هو البحث عن أنفسنا، أما هي فقد ذهبت لتبحث عنه. رجع العصفور ليزقزق فوق رأسينا، وحط بالفعل على طرف المائدة، لكنه سرعان ما طار، ربما ليبحث عن شيء كان قد افتقده أو هو في حاجة إليه.