فيلم «محمد عصفور رائد سينما الفقراء»، مدته الزمنية 52 دقيقة، من إنتاج عام 2014، لمخرجه المغربي عز العرب العلوي، يعالج البدايات الزمنية للسينما المغربية في شخص شيخها المخرج المغربي محمد عصفور (توفي سنة 2005). فيلم توثيقي ينبش في كيفية تحول رجل مغربي خلال فترة الاستعمار الفرنسي من مهن شعبية، الغاية منها البحث عن لقمة العيش وهو الفقير الأمي، إلى مخرج وضع البصمات الأولى للسينما المغربية، في زمن كان المغرب يعيش فيه تحت كابوس الاحتلال الفرنسي. «طرزان».. من المواد الفيلمية المبكرة للمخرج المغربي الرائد محمد عصفور وأنت تتابع هذا الفيلم الوثائقي والمعنون ب»محمد عصفور، رائد سينما الفقراء»، تستنتج منذ البدء أنك أمام بنية حكائية صورية تتميز بالتضاد. نعم التضاد على جميع المستويات. تضاد بين من يحكي عن محمد عصفور، في شخص مخرجه، الذي بذل جهدا نوعيا على مستوى الرؤية الإخراجية بتشغيله لثنائية اللون الأبيض والأسود في معظم مراحل الفيلم، ومتعة الموسيقى المصاحبة لاستحضار حياة الرجل والآتية من رنين البيانو، وبين من يحكي عنه. هو حكي مخرج متملك لعدة نظرية مهنية أكاديمية تعي لغة الصورة، عن مخرج شكل نقطة بداية السينما المغربية، وهو الرجل الفقير الذي امتهن العديد من المهن الهامشية بحثا عن لقمة العيش، مثل «موزع الجرائد، ونادل بالمقهى وميكانيكي.. إلخ». تضاد على مستوى حياة هذا المخرج الذي شكل متنا حكائيا تم الحديث عنه من طرف أسماء عديدة، قدمت شهادات متميزة في حق الراحل، بدءا من زوجته الألمانية، وابنته المثقفة، عائشة عصفور والناقد السينمائي المغربي مصطفى المسناوي، ومدير الخزانة السينمائية المغربية السابق عبد الله بايحيى والممثلين المغربيين عبد الرزاق البدوي ومصطفى منير والناقد مؤلف كتاب عن محمد عصفور أحمد فرتات والمخرج المغربي حميد بناني. «هي السينما في بعدها الفقير الشامل. حتى الدعاية لفيلمه وسط الأحياء الشعبية كان محمد عصفور يقوم بها بنفسه من خلال حمله لملصق الفيلم الذي يصممه بشكل يدوي، ويحمله على ظهره متنقلا بين أزقة مدينة الدارالبيضاء الشعبية» هوس الصورة هل من الممكن أن يصنع الفقر رجلا سينمائيا مهووسا بالصورة؟ على مدى 52 دقيقة، حاول المخرج تلمس أجوبة متعددة لهذا السؤال الضمني، الجامع لكل الأسئلة المحورية التي طرحها على من قدم شهاداته في حق هذا المخرج المغربي، الذي قادته المصادفة، في فترة الاستعمار الفرنسي، وهو يوزع الجرائد على بيوت الفرنسيين، كي يشاهد فرنسيا يصور ابنه داخل حديقة البيت. تلصص على الفرنسي ليعرف ماذا يفعل بهذه الآلة، لينتهي به الأمر داخل الحديقة والفرنسي يبين له كيف تشتغل الآلة وماذا يمكن أن نصور بها. إنها المصادفة/الصدمة، التي جعلته يمارس حلمه من أجل اقتناء آلة شبيهة بما لامسه وشاهده. لكن القهر والفقر، سيشكلان عائقا ومنذ البدء في تحقيق حلمه هذا. تحوله للاشتغال في ورشة الميكانيك، وعزمه على جمع مبلغ آلة التصوير، وتمكنه من العديد من الحرف الميكانيكية، كل هذا سيدخل محمد عصفور بوابة تاريخ السينما المغربية. حينما نشاهد «أعمال» محمد عصفور الأولى، من الممكن الجزم بأنها عبارة عن صور صامتة، تحاكي بعض الموضوعات التي شكلت مواد فيلمية في زمانه مثل أفلام شارلي شابلن، وطرزان. صور استطاع أن يكون هو من «صنعها» بنفسه. كان ممثلا فيها ومخرجا وصاحب ديكور ومعلقا عليها، وعارضا إياها في دكان للأطفال، ومحصلا لمبلغ المشاهدة في هذا الدكان-السينما، والأطفال يجلسون على أكياس من التبن وبعض البقايا الميكانيكية. هي السينما في بعدها الفقير الشامل، بل حتى الدعاية لفيلمه وسط الأحياء الشعبية كان يقوم بها بنفسه من خلال حمله لملصق الفيلم الذي يصممه بشكل يدوي، ويحمله على ظهره متنقلا بين أزقة مدينة الدارالبيضاء الشعبية، معلنا عن زمن عرض فيلمه والمبلغ المطلوب. لعل هذا ما جعل أحمد فرتات مؤلف كتاب عن حياة محمد عصفور أن يسميه بالمخرج «المطلق». السؤال المركزي لمخرج الفيلم عز العرب العلوي: هل يمكن أن يصنع الفقر سينمائيا مهووسا بالصورة؟ كل الشهادات التي قدمت في الفيلم كانت تصب في اتجاه واحد وجوهري، هو كون الفقر وعشق الصورة إلى حدود الهوس، هما من صنعا محمد عصفور الذي من الصعب، لمن يريد أن يؤرخ للسينما المغربية، ألا يجد أمامه ظلال هذا الرجل، الذي ينظر إليه ومن خلال فيلمه «الابن العاق»، أنه هو من أدخل السينما المغربية في سنة 1958، لتبدأ رحلة قصة اسمها قصة السينما المغربية. هذا لا ينفي أن الرجل كانت له شذرات سابقة عن هذا، تعود إلى فترة الأربعينيات، لكن في «الابن العاق» استطاع إلى حد ما حكي حدوتة «سينمائية» بسيطة، بل ذهب الناقد السينمائي مصطفى المسناوي، إلى كون فيلمه «الكنز المرصود»، الذي أتى بعد «الابن العاق»، هو البداية الزمنية لمحمد عصفور وللسينما المغربية، مقدما حجة اكتمال مجموعة من العناصر الفنية السينمائية وفي مقدمتها الصوت على وجه الخصوص. كم كانت نهاية شهادات الممثل المغربي عبد الرزاق البدوي قوية، وهو يستحضر تكريم محمد عصفور، في إحدى دورات مهرجان مراكش السينمائي الدولي. قوية جدا، إذ استحضر ذلك التكريم الباهت والبسيط لرائد السينما المغربية. لقد كان ما قدمه يشكل عين الحقيقة، ولا سيما أنه ذكر بالعدد الذي حضر تكريمه وعرض فيلمه «الابن العاق». شخصيا كنت شاهدا على ما قدمه هذا الممثل المغربي، الذي ذكر أن عدد الحاضرين كان لا يتجاوز 12 فردا. استحضرت بدوري ذلك الألم الذي أحسست به، لأنني كنت بدوري من هذا العدد الذي كان شاهدا على سؤال قوي، مفاده، لماذا نحن العرب لا نعطي الحق للمبدع إلا حينما يموت؟ يبقى فيلم» محمد عصفور، رائد سينما الفقراء»، فيلما له قيمته الفنية لكونه استحضر علما آتيا من الفقر والأمية، لكنها الرغبة والهوس في عشق الصورة جعلت منه مخرجا قدم العديد من الخدمات للعديد من المخرجين العالميين، يكفي أن نذكر منهم، هيتشكوك وبازوليني.