من أجل تدبير مندمج للمياه والمحافظة على الخدمات البيئية حلت بعثة علمية مغربية مؤخرا بحوض تانسيفت في سياق إجراء مسح وجرد ميدانيين لخصائص المنطقة التي تستعد لتكون موضوعا غنيا لمشروع دراسة في مجال التكيف مع التغير المناخي. وهو المشروع الذي تنسقه الجمعية المغربية للعلوم الجهوية (AMSR) بشراكة مع جامعة القاضي عياض والمدرسة الوطنية الغابوية للمهندسين والمديرية الوطنية للأرصاد الجوية والمرصد الجهوي للبيئة والتنمية المستدامة بجهة مراكش تانسيفت، والمعهد الوطني للتهيئة والتعميير، ثم جامعة مونكتون بكندا. ومن المنتظر أن يمتد على ثلاث سنوات. كانت البداية ب "لا لا تكركوست"، قرية جبلية عند قدم جبال أطلس تانسيفت. نخبة من العلماء من مختلف التخصصات، والباحثين والطلبة يتقدمهم عالم النبات البروفسور أحمد أوهمو، وقفوا عند السفح أمام بحيرة هادئة، حيث كان البروفيسور أوهمو يشرح الخصوصيات المناخية والطبيعية والبيئة للمنطقة، متأبطا لوحته وقلمه، ومدونا معطيات عن مختلف النباتات والموارد الطبيعية بالمنطقة . "لا لا تربط البهائم هنا. فالمنطقة غير آمنة" ذاك هو معنى "لا لا تكركوست" ف"تكركوست" هو الوتد الذي تربط به البهائم. إذن فهو تحذير، من الناحية المناخية، بعدم ربط البهائم. جالت المجموعة العلمية المنطقة طولا وعرضا تستكشف وتدرس حوض تانسيفت وتاحناوت وواد النفيس وواد غغاية وأسني وإمليل وتزنتاست ثم تنمل مهد الدولة الموحدية. وديان وجداول تتغذى من مياه الثلوج الذائبة في قمم الجبال. توجد حقول صغيرة على ضفافها، تسمى "أكدال" تزود مدينة مراكش بالخضروات والفواكه من قبيل التفاح والجوز. يسهب البروفسور أوهمو، دون كلل، بتقديم الشروحات لرفقائه حول أنواع نباتات المنطقة واسمائها العلمية بالفرنسية والانجليزية والعربية ثم باللّغة المحلية، الأمازيغية . يداعب ورقات الأشجار والنبات برقة كأنه يراها أول مرة. يحفظ فضاءات وأركان المنطقة عن ظهر قلب. ينزعج لوجود نباتات دخيلة "غير مستوطنة" كما يقول، لأنها من شأنها التأثير سلبا على المحيط الإيكولوجي. غزير المعرفة، تتسابق وتتزاحم المعلومات على شفتيه لتخرج تباعا شيقة وممتعة. هو إذن مسح علمي وجرد دراسي لخصوصيات منطقة الأطلس الكبير، منطقة جبلية تضم جبل توبقال أعلى المرتفعات بالمغرب الذي تعد سقف شمال إفريقيا لاحتوائه على أعلى قمة بارتفاع 4167 متر . مجال طبيعي وجيولوجي يتطلب صياغة توجهات تعنى بالحفاظ على التوازنات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، و تستجيب للحاجة إلى التكيف مع تغير المناخ. إذ يشهد الحوض المائي تانسيفت تدهورا كبيرا لنظمه الإيكولوجية الغابوية، وتعرية كثيفة وارتيادا مهما للسياح المحليين والعالميين خاصة خلال فصل الصيف، وتطويرا للبنى التحتية السياحية الصغيرة على طول مجرى النهر وادي أوريكا. وهذا ما يجعله عرضة للفيضانات. وتاريخ المنطقة شاهد على الحدث المروع لفياضانات يوم 17 غشت 1995 المميتة. أصبحت هذه الفيضانات أكثر كثافة، رغم تهيئة ضبط تدفقات الوديان نحو الحوض، ليس فقط بسبب تغير المناخ، ولكن أيضا بسبب الأنشطة البشرية التي تؤدي إلى تدهور التربة والغطاء النباتي بالأراضي الغابوية كالحقول الزراعية، وبالتالي تسارع مظاهر التعرية وتدفق المياه السريعة. كما أن إشكالية الماء، العصب النابض للحياة وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تستدعي تدارس إكراهات تنمية وتدبير الموارد المائية بحوض تانسيفت الذي يواجه تحديات تغير المناخ. ومند أكثر من عقد، تنحو سياسة تدبير المياه في المغرب نحو الإدارة المتكاملة للموارد المائية (GIRE). وترنو هذه المقاربة تحقيق التوازن بين الطلب المتزايد والعرض المنخفض على المياه، وإيضاح هذا التفاوت بشكل جلي في المستقبل نتيجة لتغير المناخ. إذن بات الوعي بالحاجة لمثل هذه سياسة لا يكفي، في ظل غياب الأدوات والمعلومات والمعرفة التي تفسح المجال للمعنيين بالقطاع المائي لتحديد الممارسات الجيدة لإدارة الموارد المائية المتكاملة في البعد الديناميكي وروابطه الوثيقة مع الظواهر الطبيعية والإيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية. لذلك تم اختيار الحوض المائي لتانسيفت لهذا المشروع البحثي، ابما أنه يقع في منطقة شبه قاحلة في وسط غرب المغرب، وخاصة الحوض المائي أوريكا الذي يعد واحدا من الأحواض الفرعية التي سيتناول مشروع البحث إشكالاتها. تعزيز استراتيجية إدارة الموارد المائية والاستدامة يتغيا مشروع التكيف مع تغير المناخ في منطقة الحوض المائي لتانسيفت، تقييم الوضع وصياغة توصيات وتوجيهات استراتيجية الإدارة المندمجة للموارد المائية بالمغرب والنابعة من فهم معمق لتأثير التغيرات المناخية واستدامة الخدمات البيئية المرتبطة بالموارد عموما. وستتمحور أنشطة المشروع، الذي يمتد على ثلاث سنوات، حول الكشف عن العوامل التي تؤثر على المياه وإدارتها والعمل على صياغة توصيات استراتيجية لإدارة مندمجة للموارد المائية تأخذ بعين الاعتبار الأداء عن الخدمات البيئية والتغيرات المناخية وكذا تقوية كفاءات الجهات المعنية. وأفاد منسق المشروع البروفسور عبد اللطيف الخطابي أن البحث العلمي المزمع إنجازه بالمنطقة ينشد اقتراح توصيات للإدارة المتكاملة للموارد المائية(GIRE) تتضمن الجوانب المتعلقة بالخدمات البيئية والبعد الاجتماعي والاقتصادي والتأقلم مع تغير المناخ. وسوف يتحقق هذا الهدف في إطار مقاربة تشاركية وتشاورية لنظام الأولويات والخيارات الاستراتيجية من أجل إدارة موارد مائية متكاملة ومتأقلمة بالحوض المائي تانسيفت. و موازاة مع ذلك، سيتم العمل على تعزيز قدرات المعنيين بالقطاع المائي والمؤسسات من خلال التكوين والتوعية. كما سيراعى مقاربة النوع من خلال المشاركة الفعالة للمرأة في رؤية وتنفيذ المشروع . والتزم المغرب منذ أكثر من أربعة عقود بسياسة تدبيرية لقطاع الماء مكنته اليوم من التوفر على سعة كبيرة لتخزين المياه والبنية التحتية للتحويل، حيث تساهم البنية التحتية لمجال المياه في الإنتاج الطاقي والزراعي وتوفير مياه الشرب والحماية من الفيضانات. ومع ذلك، فالموارد المعبأة تظل تحت الضغط نتيجة النمو السكاني وتحسن مستويات المعيشة والتنمية الصناعية والسياحية والتوسع في الزراعة المسقية. والمياه أصلا شحيحة، وستعرف ندرة أكثر في المستقبل نظرا لتأثيرات تغير المناخ. ويرافق هذا الخصاص تدهورا متزايدا في جودة المياه وظهور صراعات الاستخدام وتوترات بين مستخدميه، خصوصا في المناطق التي تعرف إجهادا مائيا. كما تتأثر النساء، بشكل خاص، بتدهور المياه بسبب مسؤوليتهن في جمع المياه بالعالم القروي الذي لا يرتبط تماما بشبكة توزيع الماء الصالح للشرب. أولوية وطنية فمنذ عام 1995، أصبحت قضية شح المياه أولوية وطنية. حيث أحدث قانون المياه 10-95، الذي أنشأ إطارا قانونيا للإصلاح المؤسساتي. ودشن هذا القانون الإدارة المتكاملة للموارد المائية، على أساس وضع مخطط مديري للتهيئة المندمجة للموارد المائية لكل حوض أو مجموعة من الأحواض المائية، مع الإلحاح على استدامة هذا المورد وإلزام المسؤولية على جميع الفاعلين على مستوى الاجتماعي والاقتصادي. وتتغيا هذه المقاربة تحقيق التوازن بين الطلب المتزايد والعرض المنخفض على المياه، وإيضاح هذا التفاوت بشكل جلي في المستقبل نتيجة تغير المناخ. وتجدر الاشارة أن اعتبارات الإدارة المتكاملة للموارد المائية ذات بعد حقيقي تدمج الحفاظ على الخدمات البيئية والتكيف مع تغير المناخ لم يتم أبدا تناولها في السياق المغربي، أي لم يؤخذ بعين الاعتبار تغير المناخ والحاجة إلى التأقلم فضلا عن دور الخدمات البيئية بشكل صريح من قبل السياسة المائية سواء على الصعيد الوطني (الاستراتيجية الوطنية للمياه (SNE ) ) والجهوية (PDAIRE) ، واللتين لم تراعيا الحدود البيئية ووضع تغير المناخ في المستقبل. ومع ذلك، فإن عودة الخبرات لتنفيذ الإدارة المتكاملة للموارد المائية تبرهن على عدة إخفاقات، مع الاعتبار غير الكافي للمخاطر المرتبطة بتغير المناخ، وإهمال الوظائف الإيكولوجية التي تحدد إنتاج العديد من الخدمات الهيدرولوجية. كما أن الاندماج المنشود الذي يجب بلورة تأثيره المشترك للأداء البشري وإمكانات الوسط الطبيعي واجه تحديات من قبيل صعوبة المشاركة الفعالة لجميع المعنيين بالقطاع، ولا سيما النساء، وتنسيق الرؤى القطاعية وضعف التشجيع والدعم و الوعي وتعزيز القدرات. فضلا عن عدم وجود اندماج عملي للعنصرالبيئي وتغير المناخ اللذين قد يؤثران سلبا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي وعلى التسوية بين الأطراف وعلى أهداف التنمية. وبذلك فإن التحدي اليوم هو إيجاد سبل لإعادة النظر في الإدارة المتكاملة للمياه في سياق تغير المناخ، مع مراعاة استمرار الانتاج والخدمات البيئية. ويمكن تحقيق هذا التحدي من خلال تمويل استراتيجيات للتدبير تمكن من تحسين القدرة على تأقلم الساكنة وصحة النظام الإيكولوجي. وسيتم ذلك من خلال اتخاذ إجراءات لدمج وضع المناخ والأدوات القائمة على السوق، واليوم لا مناص منه في السياسات البيئية والتنموية وفي استراتيجيات تطوير خطط العمل. وعليه فهذه الفكرة هي الإطار الرئيسي لهذا المشروع البحثي الذي يهدف إلى تسليط الضوء على أفضل الممارسات في الإدارة المتكاملة للمياه من تقييم المكاني والزماني للمحددات الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك الأداء مقابل الخدمات البيئية والطبيعية والبشرية التي يمكن أن تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر، وإدارة المياه مع أخد بعين الاعتبار مختلف نقاط الضعف والتأقلم مع تغير المناخ. كما أن الهدف العام ليس هو تحسين الإدارة المتكاملة للمياه فقط ولكن أيضا المساهمة في تعزيز سبل معيشة السكان وتقوية هشاشة النظم الإيكولوجية، عبر تمويل المحافظة من خلال أداء الخدمات البيئية. كما يسعى المشروع بالتعاون بين مختلف الجهات المعنية للاتفاق على رؤية مشتركة لإدارة موارد المياه وتكييفها مع الظروف المحلية والحصول على الأدوات والمهارات اللازمة للعمل من أجل تحقيقها. وبذلك سيتم عقد لقاءات تحاورية حول الحوض الفرعي لأوريكا لتطوير إجابات فعالة ومنصفة لتقليل مخاطر المناخ ولتحسين النظام المائي البيئي وتقييم الممتلكات والخدمات البيئية. يشار إلى أنه تشكلت حول هذا المشروع البحثي نخبة من الباحثين من ذوي الخبرة في مجموعة متنوعة من التخصصات التكميلية من عدة مؤسسات. كما أنه يهدف إلى تعزيز قدرات صانعي السياسات والمجتمعات المحلية في التأقلم مع تغير المناخ و تقييم الخدمات البيئية في مجال إدارة الموارد المائية المتكاملة وأساليب التعبئة المجتمعية، وذلك عبر بناء القدرات من خلال المشاركة في أوراش تكوينية وتحسيسية والتنسيق مع الباحثين والعلماء عبر مقاربة "البحث والعمل" والمشاركة الفعالة في تنفيذ أنشطة المشروع. وقد أطر الجولة العلمية كل من الدكاترة مدود إبراهيم وصابر محمد واليعقوبي محمد والعمراني مصطفى ومسولي محمد ولحسيني سعيد. يقع الحوض المائي لتانسيفت في الوسط الغربي للمغرب حيث يغطي مساحة تقدر ب 24.800 كلم2، ويمكن تقسيمه إلى أربعة مناطق جغرافية مختلفة : الأطلس الكبير بالجنوب: منطقة جبلية تحتوي على أعلى مرتفعات بالمملكة، مع أعلى قمة 4167 متر بجبل توبقال. سهل الحوز وحوض مجاط بالوسط: منخفض يمتد على مساحة تقدر ب 6000 كلم2 تعبره أهم روافد الضفة اليسرى لواد تانسيفت التي تصرف مياه الأطلس. سلسلة الجبيلات بالشمال: تتكون من جبال متوسطة الارتفاع تبرز شمال سهل الحوز. حوض الصويرة-شيشاوة بالغرب: عبارة عن هضاب شاسعة بتضاريس متشعبة تكون حلقة وصل بين السهول الداخلية ومرتفعات الأطلس.