يوجد نوعان من المدن، الحديثة التي تعود لقرون محدودة، وبعضها يعود إلى القرن العشرين وأخرى ضاربة في عمق التاريخ حيث يمتزج الواقع بالأسطورة في البحث عن أصولها الأولى وتنطبق عليها مقولة «كان يا مكان في قديم الزمان». وطنجة من صنف المدن الأسطورية على شاكلة بابل والإسكندرية ودمشق، مدينة فاصلة بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وارتبطت بها أسماء الرحالة والمغامرين والفاتحين عبر أزمنة تاريخية مختلفة من طارق بن زياد إلى الرحالة بن بطوطة إلى المغامر الإسباني علي باي وصولا إلى حلم الهجرة للأفارقة الراغبين في الوصول إلى «الفردوس الأوروبي». على ضفاف بحر الظلمات تقع طنجة في أقصى نقطة من العالم المعروف قديما، وصل إليها الفنيقيون والإغريق والقرطاجيون والعرب المسلمون واندهشوا من امتداد البحر، المحيط، الذي صيغت حوله الخرافات لقرون طويلة، واقتنعوا بنهاية العالم المعروف قديما عند شواطئها، وشكلت بداية بحر الظلمات كما اعتقد الأولون. إحساس يستمر إلى يومنا هذا، فقد كتب خورخي لويس بورخيس أحد كبار الأدباء في القرن العشرين في قصة «الأبدي» ضمن كتابه «ألف» سنة 157 «هوميرو وأنا نفترق في أبواب طنجة، لا أعتقد أننا نتوادع». أمير طنجة: طارق بن زياد المدينة تفتخر بين أقرانها في العالم بتضمنها في الكتب التراثية الأولى للبحر المتوسط، الكتب الإغريقية، وإنها أكثر مدن العالم ذكرا في كتب التاريخ والجغرافيا. توجد في الأوديسا إشارات إليها عبر ما يسمى أعمدة هرقل في المضيق الذي سيحمل لاحقا اسم طارق بن زياد. وأول كتاب في وصف العالم الذي يعود إلى هيكاتيو ميليتو من القرن السابع قبل الميلاد تحدث عنها باسم طنجيس. تحدث عنها أيضا هيرودوت أبو التاريخ في القرن الرابع الميلادي ووصفها بدقة استرابون أبو الجغرافيا في بداية القرن الأول الميلادي وذاع صيتها عندما منحت اسمها لمنطقة المغرب في التقسيم الروماني لشمال إفريقيا «موريتانيا الطنجية». وتوالى ذكرها في مئات الكتب عبر كل الأزمنة، ويعادل هذا الذكر في الكتب الطبقات الأركيولوجية المكونة للمدينة، أينما يتم الحفر تطفو شواهد أثرية حول حقبة زمنية معينة عاشتها أراضيها. وقدم المدينة يلاحظ في تقاسيم سكانها بين مغاربة وكأنهم إسكندنافيون وآخرين يحملون قسمات البحر المتوسط وغيرهم وسط القارة السمراء، وهذا بفعل الهجرات والاختلاط والحروب. شخصيات تاريخية شهيرة ترتبط بالمدينة، ولكن سكان طنجة يفتخرون بأمير حكم مدينتهم، يعتبر من أبرز الشخصيات التاريخية هو طارق بن زياد. يقول المؤرخ الكبير ابن كثير «كان طارق بن زياد أمير طنجة وهي أقصى بلاد المغرب». من هذه المدينة، سيخطط طارق بن زياد لفتح الأندلس. عاصمة الدبلوماسية ومدينة ابن بطوطة موقعها الجغرافي يجعل من سكانها مغامرين في السفر في الماضي والحاضر، البعض وصل للتو والآخر مقبل على المغادرة نحو مغامرة. فميناؤها كان نقطة رسو مختلف السفن الآتية من شتى بقاع العالم، وكان البحارة يغرون شباب المدينة بحكاياتهم، وهذا ما يفسر أن المدينة أنجبت أحد أكبر الرحالة عبر التاريخ، إنه ابن بطوطة الذي انطلق في رحلته حول العالم شرقا ليروي حكايات بعد عودته من زيارة الصين والهند. موقعها الجغرافي جعلها بوابة المغرب نحو أوروبا وبوابة أوروبا نحو المغرب بل بين القارة الإفريقية والأوروبية وإحدى بوابات إفريقيا نحو العالم الجديد بعد اكتشافه، القارة الأمريكية. كل مبعوثي الدول الأوروبية قديما كانوا ينزلون بهذه المدينة، ولهذا تحولت إلى العاصمة الدبلوماسية للمغرب سنة 1786، وهو ما يفسر عشرات الممثليات الدبلوماسية في المدينة. وتفتخر طنجة بأنها احتضنت أول ممثلية دبلوماسية أمريكية في الخارج في تلك الحقبة. وكلما كانت بعثة دبلوماسية تحل في المدينة لتمثيل دولتها كانت تشيد إقامة خاصة بها مستوحاة من هندسة بلادها، ما حول طنجة إلى موزاييك متداخل بين الهندسة العثمانية والأمريكية والبريطانية والإسبانية. لكن هذا بدأ يضمحل الآن بسبب الهجرة والبناء العشوائي في وسطها وضواحيها وتحولها إلى القطب الصناعي الثاني في المغرب بعد الدارالبيضاء. يفاجأ الزائر خلال جولة في شوارعها بين الحي الأوروبي والحي العربي بوجود ساحات مازالت تنتصب المدافع فيها، تلك المدافع كانت لمواجهة الغزاة الأوروبيين من انكليز واسبان وبرتغاليين: لكنها تأخذ دورا رمزيا الآن للدفاع عن الهوية العالمية للمدينة أمام غياب وعي منتخبيها من رؤساء بلديات وولاة بأهمية التراث الحقيقي للمدينة وأمام يأس سكانها غير الراضين عن تراجع المدينة مقارنة مع الماضي. ولعل المفارقة التاريخية أن طنجة تعتبر من أقدم مدن العالم ولكن الدولة المغربية الحديثة لم تشيد فيها جامعة إلا قبل عشرين سنة وقد جعلتها ملحقة بجامعة المدينة المجاورة لها تطوان. عاصمة الجواسيس طابعها الدبلوماسي جعلها تعرف في القرن التاسع عشر والقرن العشرين خاصة إبان الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة ب «مدينة الجواسيس»، وهذا ليس بالغريب بعد أن تحولت إلى مسرح لبعض أفلام جيمس بوند مثل فيلم «اسمه خطر/توتر عال» حيث يقوم جيمس بوند بتخليص المنشق الروسي غريغوريو كوسكوف من جنرال كا جي بي القاسي بوشكين. لكن طنجة تبقى مسرحا لانطلاق إحدى أهم عمليات التجسس عبر التاريخ، مغامرة علي باي وهو الإسباني باديا دومنغيس الذي نزل بها سنة 1803 متقمصا هوية أمير قادم من المشرق، وكان هدفه إنهاء حكم العائلة الملكية العلوية عبر انقلاب توظف فيه قبائل ضد السلطان الذي كان يزعج إسبانيا. انفردت طنجة إبان وقوع المغرب تحت الاستعمار الفرنسي والإسباني بخاصية وهي أنها كانت مدينة دولية يشرف عليها مجلس مكون من دول متعددة من فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا والبرتغال، وشكلت النموذج الذي اعتمدته القوى الكبرى لتسيير برلين بعد سقوط النازية غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية. «كل من يصل إلى طنجة يريد أن يكون شهريار ويحول المدينة إلى شهرزاده» هكذا كتب محمد شكري في كتابه «بول بولز وعزلة طنجة» عبارة صريحة تلخص عشق وهيام العديد من الكتاب والفنانين العالميين بهذه المدينة.