انضم الشاعر الكبير الراحل محمود درويش في الربع الأخير من القرن العشرين إلى لائحة كبار شعراء العالم من أمثال: بابلو نيرودا (1904-1973)، ولوركا (1898-1936)، وأودن (1907-1973)، وليوبولد سيدار سنغور (1906-2001)، وأوجينيو مونتالي (1896-1981)، ورافائيل ألبرتي (1902-1999)، ويانيس ريتسوس (1909-1990) وسواهم. ولأن درويش كان وفياً لمحبيه وأصدقائه ورفاق دربه فقد خصَّ الكثير من الشعراء والكتّاب والقادة الشهداء من فلسطينيين وعرب وشخصيات عالمية، منذ بداياته الشعرية، بنصوص رثائية، فقد أعار صاحب «الجدارية» إيقاعه لمأساة شعبه وشعوب الأرض المقهورة، الثائرة. فبقي يرصد موت الشهداء وظل يحرسهم من هواة الرثاء. وفي كثيرٍ من نثره وشعره رسم لنا درويش صوراً قلمية للأحبة والأصدقاء ورفاق الدرب من شعراء وقادة وكتّاب وفدائيين. وحدثنا في مراثيه عن حكايات الأيام، مع الوجوه التي عرفها وآنسه وجودها، ورافقته دروب الإبداع والعطاء والنضال، تلك الحكايات التي تثير في النفوس أشجان الحزن على فراق شهداء فلسطين الكبار، وفراق أحبته من صناع التاريخ العربي والعالمي المعاصر. فكتب عن ميتات الرفاق، الذين سبقوه، كما لم يكتب أحد. وسألهم أن لا يموتوا وأن ينتظروا سنة واحدة فقط: «سنة أخرى فقط تكفي لكي أعشق عشرين امرأة وثلاثين مدينة». وفي كتابي الذي سيصدر قريبا، بعنوان: «مراثي سيّد الكلام في حضرة الغائبين»، جامعاً فيه كل ما جادت به قريحة الشاعر من مراثٍ (شعراً ونثراً)، والكثير منها لم يصدر في ديوان أو كتاب. وهذا جهدٌ لم يسبقني أحدٌ إليه. ومن هذه المراثي قصيدة مجهولة كتبها درويش عن الشاعر التشيلي العظيم «بابلو نيرودا» عام 1975، عنوانها: «ذاهبون إلى القصيدة (إلى بابلو نيرودا)»، ولكنها لم تصدر في أي من دواوينه الشعرية! فما قصة هذه القصيدة؟ قرر درويش بعد كتابته لهذه القصيدة أن ينشرها في مجلة «شؤون فلسطينية»، التي كانت تصدر عن مركز الأبحاث الفلسطيني، الذي تولى إدارته خلفاً للمفكر الكبير الراحل الدكتور أنيس صايغ. وبالفعل صدرت القصيدة في العدد السادس والأربعين من المجلة، في شهر يونيو 1975، بعد نحو ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب في لبنان. إلا أن ظروف الحرب حالت دون انتشار العدد من المجلة التي كان درويش يرأس تحريرها، ما جعل القصيدة تبقى مجهولة أو شبه مجهولة، رغم أهمّيتها، ونبرتها الغنائية الجديدة التي ستتجلّى من ثمّ في أعمال الشاعر اللاحقة. وقد أصدر درويش آخر دواوينه حينذاك «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» وكان يتهيّأ لنشر ديوانه الجديد «أعراس». وعندما صدر الديوان لم تكن هذه القصيدة ذات الطابع المختلف في عداد قصائده. ثم توالت دواوين درويش ولم يحمل أيٌّ منها هذه القصيدة. لم ينس محمود قصيدته هذه ولم يتناسَها، لكنه لم يجد لها موقعاً في دواوينه التي تعاقبت حاملة سماتها الخاصة، فظلت القصيدة مجهولة أو شبه مجهولة، ولم تنشر في ديوان، مع أن الشاعر كان يحبها ويكنّ لها عاطفة وذكرى، وكان يردّد مقاطع منها أمام أصدقائه في الجلسات الحميمة. وكان دوماً يقول إن لا بد لها من أن تجد مكاناً لها في ديوان. وغاب درويش ولم تصدر القصيدة في ديوان، فظلّت أسيرة ذلك العدد من «شؤون فلسطينية». ولعل فرادة هذه القصيدة تكمن في انتمائها إلى بدايات المرحلة الجديدة التي كان يخوضها الشاعر مشرعاً نوافذ الشعر على آفاق متعدّدة، هي آفاق الذات الإنسانية والغنائية العالية واللغة المحدثة. هنا ننشر بمناسبة الذكرى ال (40) لرحيل الشاعر الكبير بابلو نيرودا، هذه القصيدة، إحياءً لذكرى (نيرودا)، وتحية لسيد الكلام: *** ذاهبون إلى القصيدة.. ونيرودا يتسلق الجيتار يتسلّقُ الجيتارَ: ستُّ سنابل تأتي من الأسرارِ تنهمرُ الجهاتُ عليه – منه. وهكذا تأتي الخلاصةُ: إنّ خمس أنامل تحمي المحيطَ من الجفاف. ويغضبُ الجيتارُ: ستُّ زوابعٍ تأتي من الصمتِ المهدِّدِ. هكذا تأتي الخلاصة: إنّ خمس أصابع تحمي الصباح من التردّدِ. إنّ نيرودا يُغنّي بين الفراشة واللهيب يسافرُ الشعراءُ بين السيف والدم فوق حدّ السيف ينتظرون وردتهم يُحبّون القصيدة حيث تفلت من هواجسهم وينتحرون في أوجِ القصيدةْ الموتُ يسكنهم ولا يدرون... ينفجرون مثل شقائق النعمان في يومٍ ربيعيّ قصيرْ. بين القصيدة والقصيدة يطردون البحرَ... ينتقمون من زَبَدٍ يفرّ من الأصابعِ يذهبون إلى الشوارع عاجزين ومُتعبين كأيّ بوليس يفتّشُ عن علاقات مُحرّمة ليكتبَ أيّ شيء ضدّ أي شيء... يكذبون على النساء... يزوّرون الحبرَ والقبلاتِ... عاديّون عاديّون ما بين القصيدة والقصيدة يسأمون الشّعر والفجر المبكّر و... الوطن. ... وكما يموت النّسرُ ينطلقونَ نيرودا! جَمَعْتَ لنا الندى من كلّ زنبقة وجمجمةٍ شربتَ هدير هذا البحر نخبَ يدٍ تقاومُ في حقول الموزِ والأصدافُ بين يديكَ كان الشرقُ يغسل وجههُ في لهجةٍ صينيّةٍ والحربُ تجعل كلّ شيء واضحاً كالخبزِ هل يتمهّلُ الزلزال أمسيةً لنخرجَ من قواميس اللغات إلى ضواحي الصوت؟ فلّاحوكَ صيّادوكَ جلّادوكَ يحتشدون فوق أصابع الجيتار... أحصنةٌ تدور مع الرياح السودِ إمرأةٌ تهاجمها بأغنيةٍ، وتسقطُ في البنفسجِ تستطيعُ وتستطيعُ وتستطيعْ. دمُنا على المحراثِ نيرودا! تُغنّي أمْ تروّض غابةً تمشي على الإيقاع أم يتجوّل البركانُ فيكَ وحارسُ البستان يختزن الأفاعي خلفَ صوتكَ. إنّ جمهوريةً أخرى تُعيد قصيدة أخرى إلى أفراحها... لكن شطآن القصيدة لا تُدجّنها البحيرةُ كان فيدريكو يموت على «سياجٍ يحجبُ القمر» الحبيبُ يموتُ. أجراسٌ تدقّ وتختفي في القلبِ... كان الموتُ يجعلُ كلّ شيء واضحاً كالعشبِ هل يتمهّل الزلزال أمسيةً لنجمع عن خناجرهم دمَ الأطفال والشعراءِ؟ كان الليل أوضحَ من خطى الشهداءِ لكنّ المياه تسيلُ من وَتَرٍ يقاومُ صخرةً صمّاء... نيرودا! سننتصرُ القيود لنا سننتصرُ النشيدُ لنا سننتصرُ الضروعُ مليئةٌ بالبرقِ ننتصرُ الضلوع منازلٌ للعشق ننتصرُ الجيادُ السودُ تهبط من مكانٍ ما سننتصرُ النهايةُ تنتهي هذا هو الجيتارُ أرضٌ في تمامِ الصوت تزخر بالوضوح من الوريد إلى الوريد... وها همُ الشعراءُ في أوجِ القصيدةِ ذاهبون إلى القصيدةِ في شباكِ الصيّدِ يولدُ فوجُ ضبّاط جديدٌ. سورةُ الموتى تزيدُ. وعاملُ التعدين يدخل عامه السبعين. والشعراء يختارون هاجسهمْ وينتحرونَ خلف البرلمانِ... منذ البدايةِ: إنّ هذا المسرحَ الخالي من الجمهور والجدران ينتظر البشارةَ في الأغاني. ها نحنُ نتّفقُ: الغزالةُ لا تحبّ الشعرَ والشعراء حقلٌ أزرقٌ لم يُفتَرعْ إلّا بأقدام الغزالةْ. ها نحن نختلفُ: الجبالُ بعيدةٌ... نتسلّقُ الجيتارَ. ستّ زنابقٍ تأتي من الفحم. الجهاتُ تعودُ من ساحات غربتها وتأوي للنوافذِ. إنّ خمس أصابع تحمي الفضاء من البقاء على سطوح البرلمانِ. وإنّ نيرودا يغنّي. ها نحن نختلفُ اتفقنا ها نحن نتّفقُ اختلفنا. للجبالِ يدٌ هي المطرُ. القصيدة ملء هذا المسرح الخالي من الجدرانِ للأرضِ ارتعاشاتٌ هي الدمُ. حين ينهمرُ الرصاص عليكَ – منك ومن لصوص الليلِ تصرخُ في وضوحْ إنّ الجروح هي الجروحْ. لكنّ هذا البحر أزرقْ لكنّ هذا الحقل أخضرْ ودم المغنّي أبيضٌ فوق الشوارعِ والأصابعِ. عاملُ التعدين يدخل عامه السبعين... يقرأ أبجديّة قلبه المشويّ فوق الفحم فحماً... والرغيفُ غزالةٌ تعدو وتعدو في القيودِ.. وفوج ضبّاط جديدٌ يُتقن السهر الطويلَ على حدود الخبزِ... قد مرّوا «جماجم من رصاص» مرةً أخرى... ونيرودا يموتُ. «خيولهم سوداء». نيرودا يموتُ على قصيدته... فتذهب في الفضاء... وعاملُ التعدين يقرأ صفحةً أخرى ويسقط في البنفسجِ يغضبُ الجيتارُ ستُّ زاوبعٍ تأتي من الصمت المهدِّدِ إن خمس أصابعٍ تحمي الصباحَ من التردّدِ. كان نيرودا يغنّي ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ بين أيدينا. دمُ الشعراء محراثٌ ويحتفلُ الترابْ. ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ بين أيدينا. لأجلك يرجعُ البطّ المخيِّمُ في جنوب البحرِ نيرودا! لأجلكَ نكتفي بالعمر أغنيةً وكأساً من سحاب. مدنٌ تنام على السلالم في انتظاركَ. آه نيرودا. شواطئ هذه الأرض الصغيرة عبر صوتك قبلةٌ مفتوحةٌ للنورس الباكي وللبجع الذي يتعلّم الرقص المميتَ لكَ القرنفلُ. شهرُ أيارَ. البديلُ الاشتراكيُّ. المدارسُ. أبجديّةُ عامل الميناء. تمثال الصدى والعطرِ. أوّل خطوة بعد الزنازين. الأغاني في حوانيت الفواكهِ آه نيرودا! حدودُ الأرض في ليمون صوتكَ ملعبُ الكرةِ، المظاهرةُ، احتفالُ الذاهبين إلى الجحيم. لك اعترافاتُ النساء العاشقاتِ. لك النشيدُ الأزرقُ... الحريةُ الزرقاءُ... أبعدُ قريةٍ في الأرض لكنْ / بعد موتك عبر موتك قرب موتكَ كلُّ فجرٍ كان ينتظرُ انطفاءك كي يضيءْ وكلُّ صوت كان ينتظر اختفاءك كي يجيءْ. ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ لا تحبّ الشعرَ في الزمن الرديءْ.