حضور قوي لجسد المرأة على طول الرواية في هذه الرواية القصيرة «مرض الموت» لمارغريت دوراس (الصادرة مؤخرا عن شركة المطبوعات في بيروت)، ترجمة راميا إسماعيل، مع مقدمة طويلة وثرية لجوزيف ديشي، عبر مقدمة مطولة وثرية، لتعريف القارئ العربي بزخم أدب مارغريت دوراس، الكاتبة الفرنسية التي اشتهرت في الخمسينيات بفضل سيناريو وحوار فيلم «هيروشيما يا حبي» ، وفي هذه الرواية تستعرض مهاراتها الإبداعية عبر كتابة هذا النص الشعري - الروائي - المسرحي في آن واحد. تبدأ رواية «مرض الموت» بالمقطع التالي «لعله كان عليك ألا تعرفها، أن تجدها في كل مكان في آن، في فندق، في شارع، في قطار، في حانة، في كتاب، في فيلم، في ذاتك». وتعتمد دوراس «الشك والتردد» كخلفية لتجربة الوجود والكتابة، بينما الحضور الأقوى هو وجود جسد المرأة المتاح بشكل لا يختزل، في حين أن التردد والشك يشيران إلى شبه الظلمة التي تغمر لقاء المرأة والرجل وسرد قصتهما المنبئة عن حالة اختفاء مباغتة، اختفاء المرأة والحب، بحيث تأتي الجملة الأخيرة التي تختم الرواية، فتقول المؤلفة مخاطبة شخصية الرجل «هكذا استطعت برغم ذلك أن تعيش ذاك الحب بالطريقة الوحيدة المتاحة لك، فاقدا إياه قبل أن يحدث». الرواية تدفعنا إلى التفكير وإمعان النظر في ما يعني الاستسلام الأنثوي الذي نشاهده من قبل امرأة نائمة أو متظاهرة بالنوم بجسدها العاري، مستسلمة لكل رغبات الرجل بما فيها ما يخطر بباله من إمكانية قتلها. وقد عبرت دوراس عن خروج الإنسان عن طوره بأروع طريقة، في سؤال المرأة الموجه للرجل «الرغبة التي توشك فيها أن تقتل حبيباً، أن تحتفظ به لأجلك، لأجلك وحدك، أن تأخذه، وتسرقه متحدياً كل القوانين، وكل سلطات الأخلاق، ألا تعرفها؟ ألم يسبق لك أن عرفتها؟»، هذا الحب القاتل فيه استعادة واضحة لتيمة مسرحية شكسبير الشهيرة «عطيل»، حيث النيات العشقية المتضمنة عاطفة مشبوبة تبيح قتل الآخر، وهذا الآخر الطرف الأنثوي، المستضعف «تاريخيا» من قبل الرجل. علاقة تفترض الخنوع والاستسلام التام من طرف المرأة. دوراس تستخدم عبارات غاية في الذكاء في نصها مثل «إن آلة الجسد معجزة في الدقة»، أو مثل العبارة التالية «إنه يتعرض لخطر السعادة»، عبارات تومئ إلى حقيقة الحب من وجهة نظر دوراس المختزلة باللذة الممنوحة للآخر، اللذة التي يمكن أن تنوب محل القتل لأنها طريقة الامتلاك الأكثر ذكاء واستمرارية. في نهاية الرواية تقدم دوراس اقتراحا لمسرحة الرواية «قد تمثل قصة مرض الموت مسرحا»، كذلك تقدم دوراس ملاحظات سينمائية في حال تم تحويل النص إلى فيلم. من الواضح في هذا النص أن الزخم الأنثوي أقوى بكثير من الحضور الذكوري الذي أرادته دوراس حضورا مرتبكا متلعثما أمام جسد الأنثى العاري على السرير، بحيث تشوشه بكل ما أوتيت من أدوات إبداعية، فيُلمح ما يشبه انتصارا لا يأتي بشكل مباشر، إنما تسربه دوراس لمصلحة الجسد الأنثوي الصامت أمام كل المخاطبات التي يجتهد الرجل بقولها. في هذا النص يبدو واضحا الصوت الروائي الأنثوي لكاتبة جريئة تذهب بطريقتها الخاصة إلى تقويض بنية الشخصيات، بالإضافة إلى مواضيعها المتعلقة بالانتظار والحب والأحاسيس وتعاطي الكحول. إن تجربة الحب التي تنقلها دوراس في رواية قصيرة تتسم بغناها وقوتها، حيث أن مداها لا يمكن أن يقتصر على الانطباع الصادم الذي قد يتركه مضمونها لدى بعض القراء، بما في ذلك حضور الجسد البشري، خصوصا الأنثوي في عريه وتقديمه، بل في قربانه شبه المقدس، للحب بكل أبعاده العاطفية والجنسية والماورائية. رواية هي تجربة لقاء بالموت في خضم الحياة، وفي الوقت نفسه تجربة قصوى للحضور عبر جسد أنثى، تخوض تجربة الحب وتذهب بالرغبة إلى أقصى حدودها. هنا نحن أمام حضور لا يختزل لجسد عار أبيض متاح كليا للنظر، بحيث تتيح للقارئ أن يكون شاهدا قريبا جدا من تفاصيل الخطاب الروائي الأنثوي.