لا يخلق أحد من بطن أمه كاتبا للقصة القصيرة قبل بضع سنوات، كان القاص عبد الحميد الغرباوي قد أجرى سلسلة حوارات مع مجموعة من كتاب القصة المغاربة، نشرت بجريدة بيان اليوم، وكان الأديب عبد الرحيم المؤدن من بين المحاوَرين، وبمناسبة وفاته مؤخرا، نعيد نشر هذا الحوار. ماذا يعني بالنسبة إليك جنس القصة القصيرة؟ القصة القصيرة هي الماضي والحاضر والمستقبل. الماضي، كمعادل للطفولة الدائمة، والحاضر كمحاولة للإمساك بتشظيات الذات والنص أيضا، والمستقبل كحلم بأن تتحول حبة القمح إلى حقل يكفي الجميع. القصة القصيرة هي الحياة. يُفهم من قصر القصة القصيرة أنها ذات حيز ضيق، فهل تجد في هذا الحيز متسعا كبيرا للكتابة؟ لعل القصة القصيرة هي الجنس الأقدر على إنجاز هذه المفارقة المنسجمة. فالقصة أشبه بالصراط الذي هو أرق من الشعرة وأحد من السيف. والقاص مطالب بالسير في طريق الجلجلة، كما سار المسيح، المليء بالأشواك حينا وبالسراب حينا آخر. ولعل ذلك هو الذي جعل من القصة القصيرة التوأم الجمالي للقصيدة القادرة على وضع العالم في جيبها الخلفي. أي عبر كمها المحدود. ومن ثم يصدق على القصة القصيرة المثل القائل ( يضع سره في أضعف خلقه).لا مجال للاستطراد الزائد، لا مجال للحشو. مقاس القصة ب (السنتميتر)، وكل إضافة زائدة قد تصيب منها المقتل. ما هي تقنياتك الخاصة في صياغة نص قصصي قصير؟ لا أضع عادة، ترسيمة مسبقة للكتابة القصصية ماعدا الخضوع لحالة الانفعال والتفاعل. ومع ذلك، فإنني – كما أتصور– أنتمي إلى كتاب السبعينيات من القرن الماضي الذين حاولوا تجاوز البناء «التيموري» أو «الموبساني»، دون أن يعلنوا القطيعة النهائية التي تتعارض مع جوهر الأدب عامة، والقصة خاصة. التقنية إذن، تنبع من صلب العمل. وعبر الدربة والممارسة. تصبح التقنية خصيصة من خصائص الكاتب عبر قواسم مشتركة. وهذه القواسم المشتركة لا تمنع من وجود تنويعات يفرضها كل نص على حدة بحكم خضوعه لتجربة محددة. ومن الطبيعي التأكيد على تمرد الأدب عامة، والنص خاصة، على النوايا الواعية للكاتب، دون أن يمنع ذلك من وجود مرجعية معينة استوحيت منها- إسوة بجيلي- تقنيات محددة، برزت أساسا، عند كتاب الستينيات بمصر، فضلا عن رياح التغيير في الداخل والخارج وفي كل الأحوال، قد تختار التقنية الكاتب، عوض أن يختارها. وهذا ما تؤكده التجربة التي أنتمي إليها، في مرحلة -مرحلة السبعينيات- التي لم تأتمر بأوامر النص الهادئ، المهندس، أكثر من اللازم، في مجتمع مدمر، من أقصاه إلى أقصاه، بفعل هزيمة67 وما تلاها. وفي قولة حليم بركات البليغة ما يفيد ذلك» إذا كان الله قد خلق العالم في ستة أيام ، فنحن قد انهزمنا في ستة أيام». هل أنت كاتب قصة قصيرة فقط ، أم تملك مشروعا جماليا و نظريا لكتابة القصة القصيرة ؟ في الجواب السابق بعض ما يفيد في الجواب الحالي. تبقى الإشارة إلى أن السؤال يميز - بشكل غير مباشر- بين كاتب عفوي، وكاتب محترف. لا يخلق أحد من بطن أمه كاتبا للقصة القصيرة، ولا تستدعي القراءة النظرية والجمالية، إنتاج مشروع ما في هذا السياق. في المستوى الأول تلعب الموهبة - وهي ميل من الميول النفسية والفطرية- دورها في إصرار الكاتب على أن يكون كاتب قصة قصيرة. وفي المستوى الثاني تلعب الدربة والممارسة دورها في بناء هذا المشروع تدريجيا. والجديد في هذه العلاقة بين المستويين. انشغال النص القصصي بأسئلة الإبداع والتنظير في آن واحد ، «كاتب يبحث عن شخصياته» في مجموعتي القصصية المعنونة ب « وتلك قصة أخرى» وكذا في «اللوح المحفوظ» لأحمد بوزفور. كيف تضع البداية لقصة قصيرة ما، ومتى تقرر أن تضع لها نقطة نهاية؟ كما سبقت الإشارة، فأنا لا أرسم خطا بيانيا لقصة قصيرة لا تحيد عنه مادام الأساس في التجربة ذاتها،هو الهزة الانفعالية، في لحظة ما، لتأخذ هذه الهزة مسارات عديدة، قد تطول أو قد تقصر، وهي تفعل فعلها في الذات والوجدان. هذا على مستوى البداية. أما على مستوى النهاية، فهذه الأخيرة تصبح ملكية مشتركة بين الكاتب وباقي مكونات القص من شخصية وحدث وخبر. هل تسعى إلى أن تكون كاتبا في جنس القصة القصيرة بامتياز، أم تطمح للكتابة في كل الأجناس؟ لم يعد المجال يسمح ب (التخصص القصصي) مادام النص القصصي نصا ملوثا بنصوص سابقة، سواء ارتبطت بالسرد أو غيره من الأجناس أدبية أو غير أدبية. من هنا شكلت هذه الأجناس روافد للقص. فهي الوقود والحجارة. وهي الوشم الذي يطمح، من خلاله النص القصصي، إلى حفر وشمه الخاص. لا وجود ل «جمرك أدبي أو غير أدبي»، وانتقال الأجناس الأدبية، مدا وجزرا، لا يعرف التوقف أو الثبات. يقول الكاتب المكسيكي خوان رولفو: « ليس في القصة القصيرة سوى ثلاثة مواضيع أساسية: الموت، الألم والحب»، هل توافق وجهة نظره هاته ؟ قد لا تبتعد هذه القولة عن الصواب،غير أن هذه الثلاثية قد تصدق على الأدب برمته. هذا أولا، وثانيا يمكن الحديث عن الوجه الآخر لهذه الثلاثية ما دامت القصة القصيرة ( فن الظاهر والباطن). فوراء الموت والألم والحب يوجد الكره والحياة والسعادة أو المتعة. في تجربة كتاب أمريكا اللاتينية الكثير من أسئلتنا المشتركة، في سياق التجربة الإنسانية عامة، غير أن ذلك لا يمنع من التأكيد على (خصوصية) التجربة لشعب ما. نعم، لا مفاضلة في الدمع الإنساني. هذا صحيح. ومع ذلك، فالدمع قد يسيل ماء زلالا، أو قد يسيل دما مدرارا.