يدق ناقوسه النحاسي لإثارة انتباه المارة من حوله. يتأبط محفظة جلدية بعد توضيب أغراضه ولوازمه داخلها. يضع على رأسه قبعة مزركشة بالأحمر والأزرق وبضع ألوان. لباسه أحمر ساطع. بين الفينة والأخرى تهمس شفتيه بكلمات معدودة « شريبة الما، شريبة الما». أولى أيام الربيع. عقارب الساعة تتحرك نحو الثانية زوالا. المكان، ساحة محمد الخامس الملقبة اختصارا ب»ساحة الحمام». ساحة «الحمام» تبدوا شبه خالية من زوارها بسبب حرارة الجو التي تدفع المارة للإسراع نحو وجهاتهم. بين كراسي الساحة جلس عبد الله وثلاثة من زملائه. توحدهم ألوان اللباس وصنابير وقبعات. حديث مشفر يدور بينهم حول رزق اليوم وأشياء أخرى. جلسة عبد الله وزملائه استمرت حوالي نصف ساعة. أكل ما تيسر لسد الرمق، وجلس لدقائق يتمعن حركة المارة نساء ورجالا. جمع كؤوسه النحاسية. وضبها في مشبكه الجلدي واستأنف عمله من جديد. ساعات قليلة تفصل عبد الله ورفاقه عن الغروب، توزع الأربعة بين أرجاء الساحة. أحد المارة يستأذن عبد الله ويطلب منه شربة ماء. يهيئ عبد الله كأسا نحاسيا ويصب فيه بضع قطرات من الماء المنكهِ بالقطران. يروي الزبون ظمأه وينصرف إلى حال سبيله. يستأنف عبد الله عمله يوميا عند العاشرة صباحا وينتهي مباشرة بعد الغروب. يقول وعينيه ترقبان حركة المارة « رزق كل يوم يختلف حسب توافد السياح والزوار إلى المكان، أحيانا يكون الإقبال جيدا وأحيانا أخرى يكون متواضعا. رغم ذلك نقنع بما تيسر». يصب الماء في كأس نحاسي يقدمه لطفلة استأذنته، ويسترسل كلامه من جديد قائلا «اللهم قليل ومداوم ولا كثير ومقطوع. من هاد الحرفة معيش 13 فرد، بالإضافة لمصاريف الكراء والمستلزمات الشهرية من أكل وما إلى ذلك. الحمد لله على كل حال». حسن، كراب أوشكت خمسينياته على الانتهاء. في يمينه كأس نحاسي مزين بقطع نقدية، يجول ببصره بين أرجاء المكان، ويهمس من حين لآخر بكلمات معدودة «شريبة الما. شريبة الما». يروي حسن وعيناه ترقبان حركة المارة «أعمل بشكل يومي لضمان قوت الأبناء. احترام الناس لي، يساعدني كثيرا في مزاولة عملي باستمرار، أحرص على التعامل بلطف مع الكبار كما الصغار، وأقدم الماء في غالبية الأحيان دون مقابل». عن صعوبة عمله يقول حسن قائلا: « خلال فصلي الربيع والصيف يكون الإقبال جيدا، وتكون الظروف مواتية للتجول والعمل في أماكن مختلفة، ما يمكنني من ادخار بعض المال. خلال فصلي الشتاء والخريف أعمل كبائع متجول إلا أن مردودية هذا العمل تبقى محدودة .. كنعيشوا بالبركة وصافي». حسب عبد الله، تستغرق مدة إعداد «كربة» أزيد من شهر. في البداية يتم تحضير قطعة جلدية بمقاسات محددة، بعدها تدهن القطعة الجلدية بخليط الملح و»الدباغ» (مادة تزيل الجراثيم والشوائب العالقة في القطعة الجلدية)، توضع القطعة بعد ذلك في مكان معزول لمدة أسبوع، تكرر العملية لأسبوع آخر، بعدها تملأ «الكربة» من جديد ب»القطران» وتوضع لمدة تزيد عن أسبوع قبل أن تصبح جاهزة للاستعمال من طرف «الكراب». عدة «الكراب» تكلفه أزيد من 2000 درهم، فقبل امتهانه لهذه الحرفة يكون هذا الأخير قد اقتنى «القراب» ب 200 درهم كي يهيئ بداخله معداته من كؤوس وأواني نحاسية، و»الكربة» بثمن يتراوح بين 300 و200 درهم، وناقوس نحاسي بثمن يتراوح بين 300 و700 درهم، وكؤوس نحاسية ثمن كل واحد منها 50 درهما، بالإضافة إلى لباس أحمر وقبعة تختلف تسميتها في المدن المغربية بين «الترازة» و»الشاشية». قبعة «الكراب» جرى تسميتها مند عقود ب»الشاشية»، العارفون بخبايا هذا المجال يحرصون على تزيينها بالعقيق و»الموزون»، واعتماد الخيط الأصفر والأخضر والأحمر في خياطتها.