إن الدافع إلى مساهمتي المتواضعة وإن كنت لست من ذوي الاختصاص هو اطلاعي على مجموعة من الدراسات والبحوث المتعلقة بفن العيطة. إنني من أبناء هذه المدينة «مدينة آسفي»، المدينة التي كانت ولا زالت تدافع عن مجد طوته السنون، ولكنها تنظر إلى الأمام نظرة تفاؤل، كما تنظر إلى عالم حيّ يتجدد دوما أمامها، آسفي مشتلٌ لفنّ أشجارُه عميقةُ الجذورِ تبقى أصيلة شامخة. مساهمتي المتواضعة في إخراج هذا الشريط التوثيقي أو الوثائقي (العيطة بحوث واستمرارية) كان بدعم معنوي قوي من الأستاذ الصديق الراحل «محمد أبو حميد» الذي يرجع له كلّ الفضل في إخراج هذا الشريط إلى الوجود. لقد كان المرحوم فاتحا قلبه دوما لكل الأسئلة التي كانت تراودني بالإضافة إلى تزويدي بكل ما لديه من معلومات تغني هذا الفيلم الوثائقي .. الشيء الذي فتح أفقي الفكري والمعرفي بهذا الفن لكتابة تقطيع تقني مناسب لموضوع الشريط. والهدف هو توثيق كل هذه المعلومات القيمة وترجمتها إلى صور حية بنقلها عبر وسائل الإعلام بصفة عامة والتلفزيون بصفة خاصة، لمحو النظرة الدونية أو على الأقل تصحيحها إذْ كان ينظر إلى هذه الأنواع من الفنون وخصوصا «فن العيطة» نظرة دونية.. ولأن التلفزيون له دلالة إعلامية واسعة الانتشار، كان لابد أن أقوم بهذا العمل من موقعي كمهتم وكمخرج من أبناء مدينة آسفي. العيطة صورة حية غنية بالمشاهد المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، فهي وصف للحياة التي يحياها المواطن في مجتمعه البدوي انطلاقا من التربة التي أنبتت هذا الفن الشعبي الراقي والذي يجب الحفاظ عليه وإيصالُه بأمانة عبرَ الصورة والصوت والتشخيص المناسب داخل بيئته. وعلى هذا النحو فإن استخدام الصورة الثابتة أو المتحركة إعلاما تواصليا لإبراز تنوع «العيوط» مضمونا ولحنا وأداء، أمرٌ ضروري، باعتبار أن البعد البصري قادر على إثراء المعنى وإيضاح التفاصيل أكثر من الكلمة المكتوبة والمسموعة. حينما نستمع إلى «العيطة» فإننا نجد أن هناك مضمونا قويا يمكن وصفه بالسهل الممتنع.. فهو سهل لأنه يصل إلى الأفئدة والوجدان بدون استئذان، وممتنع لأنه لا يمكن لهذا الفن أن يُؤدى كما يجب إلا من أهله ذوي التجربة والاختصاص، من خلال تعبيرهم عن المعاناة والطموحات والمتعة والتسلية أي الدراما والميلودراما والكوميديا الهادفة، وكلها صور غنية تؤرخ لحقبة زمنية معينة، لها دور أساسي في المجتمع تعبر عن آلامه وآماله بلغة سهلة التداول، ونجد أن كل هذه العناصر قابلة لكتابة سيناريوهات سينمائية تلفزيونية، تعبر عن هويتنا وتنشر ثقافتنا، الشيءُ الذي يمكن معه القول أن هناك فنا أصيلا متجذرا يجب الالتفات إليه، صحيح أن هناك بعض التجارب لكنها تبقى محدودة وغير كافية. والمعالجة الفنية لهذا التراث واضحة المضمون، والسياق الدرامي للأحداث يشد الانتباه وغني بالأحداث، تكاد تفاصيله تنطق بالمعاني والدلالات والرموز، وهنا أستحضر المثل الصيني الذي يُردد في محاضرات التصوير وفي الجامعة: « إن الصورة الجيدة تُغني عن ألف كلمة» دون أن ننسى الدور الهام والفعال للباحثين في هذا المجال . الميلوديا تغني المشهد السمعي البصري في العيطة، وهي العمود الفقري في الصورة، فهي تساعد على الحركة الريتمية/ الإيقاعية في الصورة السينمائية والتلفزيونية أو التعبير الجسدي في المسرح، الذي يكمل ويغني المشهد السمعي البصري ويجعل من المتلقي عنصرا مشاركا في المشهد من خلال التجاوب الحاصل بينهما . المنطقة أو القبيلة كلها فضاءات صالحة لتوثيق هذا الفن لما تتوفر عليه من مناظر طبيعية خلابة وخصبة وجاهزة للتصوير تنتظر منا فقط كلمة : أكسيون/ Action « لبدء التصوير . والسؤال الذي قد يطرح هنا .. ما الذي ننتظره اليوم ولدينا صور معبرة ووافرة تغني المشهد السمعي البصري، لإخراج أفلام وثائقية وروائية ذات بصمة مغربية تعبر عن هويتنا . سؤالٌ يجبُ أن يقضَّ مضاجعنا.. ويهزنا من أعماقنا هزا.. كل من موقعه.. أيها السيدات .. أيها السادة .. اسمحوا لي أن أتقدم بوافر الشكر لذوي الاختصاص، وفي مقدمتهم الصديق الراحل الباحث الميداني الأستاذ « محمد أبو حميد « الذي يرجع له الفضل في حل بعض الاشكالات المفاهيمية التي كانت مستعصية على الحل لديّ، كما أشكر الأساتذة الباحثين الأجلاء الذين أناروا لي الدرب كمخرج، والذين رسموا لي خارطة طريق بفضل بحوثهم وكتاباتهم القيمة في هذا المجال، أذكر من بينهم على سبيل الذكر لا الحصر: الدكتور حسن نجمي، الدكتور علال الركوك، الدكتور حسن البحراوي، الباحث والأستاذ سالم كويندي والباحث الأستاذ محمد خراز، والأستاذ محمد مضمون، وعن هؤلاء الأساتذة استفاد جيل جديد من الباحثين المبدعين من بينهم الصديق الأستاذ عبدالإله بنهدار، والذي له مجموعة من الأعمال المسرحية التراثية، من بينها إصداره المسرحي الجديد «عيوط الشاوية»، ومجموعة تكدة التي تجمع بين فن الغناء والتمثيل في هذا المجال . كما أشكر الجمعية المنظمة « جمعية أولاد بن عكيدة « التي أتاحت لنا فرصة هذا اللقاء وجميع من ساهم من بعيد أو قريب في إنجاح هذه التظاهرة الفكرية الفنية والثقافية. ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أوجه نداء خالصا لإيجاد حل للمشاكل الاجتماعية التي يتعرض لها منْ تبقوا من رواد «فن العيطة» من شيوخ وشيخات لحل بعض مشاكلهم الاجتماعية التي تعترضهم من جهة، وحفاظا على موروثنا الثقافي والفني من الإهمال والضياع من جهة ثانية. وختاما أدعو الله أن يلقى هذا النداء آذانا صاغية عند من يتحملون مسؤولية الشأن الثقافي والفني في هذه البلاد العزيزة علينا جميعا، كما أرجو أن تكون هذه المحاولة المتواضعة قد نالت رضاكم. والله الموفق .. إنه نعم المولى ونعم النصير.. والسلام . هامش: *نص المداخلة التي تقدم بها المخرج السينمائي والتلفزيوني مصطفى فاكر، في لقاء فني نظمته «جمعية أولاد بن عكيدة» بمدينة آسفي تحت عنوان: «العيطة وموقعها في المشهد السمعي البصري».