المعهد الثقافي الفرنسي بمدريد يحتفي بالفنان ومسار إبداعي ناهز خمسين سنة ينظم المعهد الثقافي الفرنسي بمدريد معارض فنية للفنان المغربي أندريه الباز احتفاء بمساره الفني و الإبداعي الذي ناهز خمسين سنة . وهذه أول مرة يعرض فيها الباز بإسبانيا في تاريخ عروضه الفنية،مسار فني رافقه تنوع و غنى في الإنتاج جعل المنظمين يقومون ببرمجة ثلاثة معارض مختلفة قصد تقريب المتتبعين من المنجز الفني للبازو التعرف على تجاربه و توجهاته الفنية. ففي متحف أ.ب.س يحمل المعرض اسم» التدمير أو العمل «كعنوان ناظم للوحات المعروضة تبرز بعدا مفاهيميا للمبدع يقوم على تدمير المنجز ثم إعادة بنائه من نفس المواد . لقد أبدع أندريه الباز طيلة خمسين سنة وقضى الشهور الأخيرة في تدمير منجزه الفني ليعلن عن ولادة أخرى لإبداعاته عبر تحويل المواد التي تتشكل منها القطع الفنية المدمرة .إنه التدمير من أجل إعادة البناء . لقد تأثر الفنان المغربي عند اكتشافه عمل غويا مخلفات الحرب الذي يظهر رائية غويا ويجعلنا نحس باضطراب الذاكرة أمام كل المجازر التي عرفها التاريخ. ولوحة «إطلاق النار في الثالث من مايو» شكلت كذلك تغييرا في نظرته الفنية .إنها تظهر حسب الباز «العنف الذي يتبع الفعل،المأساوي هو وجود صمت بدون فعل،ليلقي بالمسؤولية على عاتق الفنان لوقف ما لا يعرف الآخرون إيقافة». و تشكل أعمال البازتعبيرا عن رفضه لكل الاضطرابات و المجازر التي عرفها ويعرفها التاريخ. وتبلورت إرهاصات التدمير عندما بدأ الفنان سنة 2002 بإجراء اختيارات على لوحاته الفنية التي مثلت تأصيلا للقطيعة مع أعماله السابقة. فإجراء التدمير وإن كان يحمل في طياته ألما فإن الباز لا يقودنا إلى عالم بدون نوافذ مشرعة على الحياة،فكل تمزيق يجعلنا نعيش ألم القطيعة الذي يدفعنا نحس بسعادة الإبداع الفني . فعالم الباز يجعل من الألم سعادة و من التمزيق إبداعا ،عالم يقوم على الثنائية الضدية من أجل عالم يقاوم لينتصر للحياة التي يشكل الفن أحد تجلياتها الجمالية. ما مجموعه 29 تمزيقا اعتمد فيها على الهرس و الدق و السحق والفصل ثم اللصق وعمل «الدون كيخوتي «، الذي سيعرض أيضا بشيقوبية ،هما نموذجان للتجريب لدى الباز حيث استعمل أكثر من500 صندوق زجاجي صغير تحتوي على ألفي رسم ممزق و ألوان مائية. .طباعة حريرية (السيريغرافيا) و طباعة حجرية(ليتوغرافيا ).... أما عمل « دون كيخوتي « فقد اختمرت فكرته منذ خمس سنوات متأثرا بمدام بوفاري وبالرقابة التي فرضت على المؤلف الكلاسيكي لفلوبير .فقد وضع علب المعكرونة و أوراق ملونة وألياف نباتية وبقايا الأعمال في قفص محاولا القبض على اللحظة الإبداعية . إنها رؤية مستقبلية لدون كيخوتي من زاوية فنية محضة تنم عن إدراك فني و معرفي عندما أكد الباز أنه «في حالة إحراق المكتبات يمكن أن أعيد بناء دون كيخوتي بواسطة أعمالي» إنه التماهي بين الإبداع الروائي و نظيره الفني بين الباز وسرفانتس. و خلال كلمته التقديمية اعترف الباز بأن الفن التشكيلي يمر بلحظة مأساوية الشيء الذي يدفعنا إلى عدم القدرة على متابعة الرسم ،فبعد ميرو و طابيس بيكاسو لم يعد هناك ورثة للتكعيبية و تساءل هل كان ممكنا التوقف بعد بيكاسو¿ و يعتبر الباز رائدا للفن التصويري المجرد و قد عرف الفنان المغربي تألقا كبيرا منذ ستينات القرن الماضي لأعماله الأصيلة و المتجذرة غير أن أحداث الحادي عشرمن شتنبر ،جعلته يتراجع عن تفاؤله الإبداعي فبسقوط ناطحتي السحاب تراجعت مبيعاته ،و هي الشماعة التي علق عليها توقفه لإنتاج الجمال ليشتغل كمعالج و مشخص فني فترة جعلته يعيد النظر في مساره الفني و يراجع استعداده النفسي و الشخصي و منحته وقتا أطول للتواصل مع أعمال الآخرين. و قد اختار أندريه الباز التدمير كاختيار إبداعي تدمير انتقائي لأعمال فنية سرعان ما تتبلور و تعرف ولادة جديدة ،إنه البناء على الأنقاض ليصبح التدمير مرادفا لعملية إعادة البناء و دالا عليه. الباز الذي ينتصر لحق الإنسان في الحياة يعرف ماذا تعنيه الحروب و المجازر التي مرت بها الإنسانية فقد ولد بين الحربين العالميتين و بالضبط سنة 1934 بمدينة الجديدة ولأن أصوله يهودية فقد وعى ما تمثله المحرقة و ما يمثله الاستعمار و الاحتلال بكل أصنافه.لذا فالباز ظل دائما منشغلا بموضوع الحرب ليس للعب دور الجلاد بل لالتقاط لحظة يمكنها أن تغير التاريخ.و صادف اليوم الذي أكمل فيه ثلاثة سنوات وقوع مجزرة غورنيكا التي خلدها بيكاسو في لوحة فنية فكان الفن ملتقطا للحظة التاريخية، فلوحة بيكاسوعرفت الكثيرين بالمجزرة و حملت اسمها. و يرادف مفهوم التدمير عند الباز مفهوم الغيرية حيث لا يتصور ذاته خارج الآخر»ليس سهلا أن تدمر إنه فعل يحمل في طياته كثيرا من العنف حيث يجب وقف ذكرياتنا لكي نبدع من جديد .كيف ندمر الآخر ,الآخر في الحقيقة إنه أنا» أما المعرض الثاني المقام بفضاء البيت العربي فيحمل اسم «مدن شرقية» حيث يقدم الباز لجمهوره متخيلا لونيا لمدن ظلت تسافر مع ذاكرة الفنان ،مدن يحملها عبر أصابعه فتنساب ألوانا تؤثث فضاء الرقعة الفنية بأشكال هندسية ليجعلنا أمام مدن ضوئية تعكس اختيارا جماليا يكون اللون مرتكزه الرئيس. فالباز يطلق شراع الذاكرة يبحر عبر عوالم لا يعرفها إلا هو و يقدمها في قالب تشكيلي محاولا القبض على لحظة زمكانية توشك على الانفلات. و يعود تاريخ إنجاز لوحات مدن شرقية ما بين 1983 و 1990 عندما ترك الفنان أعمال الحروب الفنية ليجعل المحارب الذي يسكنه يستريح قليلا و يسافر به نحو أفق خيالي تكون الذاكرة سريره و اللون وسادته و تشكل رقعة اللوحة غطاءه الذي يحميه من آثار و مخلفات التقلبات التي عاشها . مدن شرقية تحمل داخلها انتماء وجدانيا لفنان عاش جل حياتة خارج موطنه فالباز لم ينس نواة إلهامه الأول مدينة الجديدة احتفت به سنة2011 ولم ينس بقية المدن المغربية فاسالصويرة.......لم ينس الأمكنة الأزقة الرمال الرائحة ولم ينس ناسها و ألوان بلاط الحيطان و شرفات المنازل و السطوح لم ينس ضؤ ليلها و لا نهارها و سحبها.قباب الأضرحة و الأقمشة الخضراء و ضجييجها كالزجاج المنكسر و سكونها باللون الأزرق والحمام يحلق في فضاأات مفتوحة، تفاصيل دقيقة تجعلنا أمام مدن لا يمكن أن تكون إلا شرقية من النظرة الأولى دون الحاجة إلى النظر في اسم المعرض أو أسماء لوحاته . مدن يحملها معه كولائم متنقلة لتغذي الذاكرة عندما يداهمها وجع الاغتراب ليحتمي بالفن كملاذ آمن يحرس به حدود عوالمه المفتوحة على الخارج كغربة للذات لقد اختار العيش بالخارج إرضاء لذائقته الفنية و اختار العيش في باريس التي كانت مرتعا لكل عمالقة الفن لكن ظل يحمل معه مرحلة طفولته و شبابه التي قضاها بمدن المغرب و خاصة مدينة الجديدة التي عرفت صرخته الأولى معلنة ولادة فنان سرعان ما ستتوالى صرخاته الفنية في كثير من دور العرض الفنية في مختلف مدن العالم بعد خمسين سنة من تاريخه الفني، قام فيها أندريه الباز بجولة حول العالم، لكنه ظل غائبا عن معارض إسبانيا لأسباب لا يعرفها أحد و أخيرا حط الرحال، ببلد فرانسيسكو غويا و بيكاسو....، ليتصالح مع معارضها بثلاثية فنية ستستمر طيلة شهر و نصف من الإمتاع الفني و سيترك لا محالة أسئلة إبداعية و قلقا فنيا تبتدئ بعد نهاية فترة عروضه.