«طقوس الإشارات والتحولات» للكاتب المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس مسرحية «طقوس الإشارات والتحولات» للكاتب المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس، باتت أول نص عربي يترجم للغة الفرنسية وتقدمه فرقة المسرح الفرنسي أو «لا كوميدي فرانسيز»، الفرقة التي نشأت سنة 1680 اختارت هذا العام وبمناسبة الاحتفاء ب»مرسيليا بروفانس» عاصمة للثقافة الأوروبية، الاشتغال على نص نموذجي للمسرحي السوري الراحل ومن إخراج المسرحي الكويتي سليمان البسام. العرض الأول للمسرحية في نسختها الفرنسية قدمت بمسرح «الجيمناز» بمرسيليا في 29 أبريل الماضي، وتتواصل عروضها في أكثر من فضاء مسرحي فرنسي، باريسي خاصة، حتى نهاية السنة الجارية. مديرة فرقة المسرح الفرنسي موريال مايات، أجابت وسائل الاعلام عن سؤال لماذا سعدالله ونوس، الآن وهنا؟ فأجابت: «الرجل ابن البحر الأبيض المتوسط ونتاج خليط ثقافات، انصهرت فأبدع وتميز. فونّوس ولد في سوريا عام 1941، ودرس المسرح في فرنسا، وعرف شخصياً الكاتب الفرنسي جان جينيه، كما أفاد من تقنيات المسرح الغربي ومن تجارب كتّاب تركوا بصماتهم على مسيرة المسرح الحديث ومنهم صموئيل بيكيت وبرتولد بريخت. تتابع مايات: «ونصه «طقوس الإشارات والتحولات»، صحيح أنه كتب في عهد الديكتاتور حافظ الأسد، تحديدا سنة 1994، أي قبل ثلاثة أعوام من وفاة الكاتب المسرحي، إلاّ أنّه يبرز بشكل جلي الواقع السوري، الذي نعيش إكراهاته اليوم». النص حكاية تاريخية تعود إلى القرن التاسع عشر، كان أوردها فخري البارودي في مذكراته «تضامن أهل دمشق»، وتتلخص في «أن مفتي الشام كان على خلاف مع نقيب الأشراف بسبب سلوكه وجهله، فحين قبض قائد «الدرك» (الشرطة) على النقيب في وضع مخز مع إحدى المومسات، تناسى المفتي عداوته معه، مؤقتا، فاستبدل المومس بزوجة النقيب سرا، لمداراة الفضيحة، وهكذا أنقذ سمعة الأشراف، ودفع خصمه النقيب إلى الاستقالة لاحقا». كما يميط النص اللثام على تابوهات أخرى جريئة، حدّ الفاجعة، كالحياة الجنسية للمرأة والمثلية الجنسية وجرائم الشرف، وأي شرف؟ والفساد الديني والتدخل في شؤون البلاد والعباد، وسطوة المرأة على الرجل في مجتمع شرقي يبدو ذكوريا في النهار، شبقيا في الليل تحركّه غرائزه الإيروسية، وإن كان مفتيا أصلا، يحدث كل هذا وراء نوافذ البيوت الدمشقية التي لا تطل أبدا على الخارج، من خلال هندسة معمارية مخصوصة لأهل الشام، في إفصاح لثقافة الكتمان والاختناق والخداع في البلاطات المحكومة بالزيف والنفاق وإيضاحها. مناخ بريختي يقول المخرج سليمان البسام: «ونوس كتب هذا النص وهو يدرك بأنه مريض، كان يعتقد بأنه لا يملك الكثير من الوقت، إننا نستشعر من خلال نصه رغبته في إسماع صوته إلى ما وراء الحدود، فالمسرحية كانت إحدى صيحاته الأخيرة التي نبّه فيها إلى ما آلت إليه أحوال الخريطة العربية من احتضار وتمزّق وفساد. وهو ما أثار حماسة الممثلين حين اقترح عليهم العمل، ففيه من الإثارة ومن الرمزية ما يجعل التشخيص الآدائي للممثلين تحديا في حد ذاته». وعن سؤال حول المناخ البريختي البادي بشكل كبير في المسرحية قال البسام: «معلوم تأثر ونوس ببريخت وشكسبير، من خلال الغوص في دواخل شخصيات مركبة تتورّط في القيام بأفعال محظورة عرفا وأخلاقا، فالنص يعالج قبل كل شيء القمع الذي يتعرض له المجتمع، لذلك طغى الأصفر والأبيض والأسود على ديكور المسرحية، حيث استلهمناها من «الداجيروتايب»، وهي طريقة بدائية في التصوير اخترعها الكيميائي الفرنسي لويس داجير في عام 1839». تقنية التصوير الضوئي كانت بارزة من خلال «الفلاش» أو الوميض الضوئي الذي يخرج من الكاميرا الفوتوغرافية، بين فواصل المشاهد، وكأنّها نوع من التوثيق للأحداث الصادمة في المسرحية، وما أكثرها، أفعال وممارسات يندرج الكثير منها تحت خانة «المحظورات الاجتماعية»، بتواطؤ سري وآخر معلن بين المؤسسة الدينية وبين السلطة السياسية. القصة، كما أسلفنا، استعادة لحادثة من القرن التاسع عشر، جرت وقائعها في دمشق خلال الحكم العثماني، أبطالها المفتي والوالي ومومس. أي الثالوث المحرّم، الذين حوّلهم البسام إلى أبطال يتكلّمون عن حادثة عربية لشخصيات عربية إلى شخوص فرنسية وبلغة موليار في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ «لا كوميدي فرانسيز». الطريف في القصة عامة والمسرحية خاصة استشراف ونوس لما يحدث اليوم في سوريا وبقية الدول العربية. من خلال تنبؤ صارخ بالحراك الشعبي والثوري الذي يعرفه العالم العربي حالياً بعيدا عن الإيديولوجيا، مركّزا في أسئلته العميقة على طبيعة السلطة والسعي إلى الحرية. الأمر الذي جعل السلطات السورية توقف عرض المسرحية في 2009، في مدينة حلب، بعد اعتراضات من قبل بعض رجال الدين على ما اعتبروه «إساءة ومساسا بحق القيم والرموز الدينية»، وقد أخرج المسرحية في نسختها السورية المخرج الفرنسي السوري وسام عربش، وعرضت في مصر ولبنان وفي أوروبا على يد عدة مخرجين غير سوريين، منهم المخرجة اللبنانية نضال الأشقر والألمانية فريدريكه فيلدبك والأردني زيد مصطفى، ليتولى البسام إخراجها للمسرح الفرنسي ومن ثمة العالمي في مطلع سنة 2012، بعد تحضيرات وتمارين يومية دامت حوالي السنة مع 11 ممثلا وممثلة من محترفي الفرقة الذين يبلغ عددهم الستين، لتخرج للعموم في ربيع 2013. الآن وهنا المسرحية في المجمل أداء وإخراجا أتت منصهرة وروح الحقبة الزمنية (القرن 19)، واللحظة الراهنة (2013) في إثبات أنّ المسرح كونيّ أو لا يكون، فالملابس وإن كانت تعكس زمن البلاطات العثمانية، فالحركة والأداء جاءا انصهارا تاما في الآن وهنا، هنا الراهنة والرهينة في آن، رهينة الإيديولوجيات، والإكراهات والتمزقات والدسائس، فمنْ يحكم منْ؟ ومنْ سيّد منْ؟ والغلبة في النهاية لمنْ؟ أسئلة تاريخية سرمديّة أتت في المسرحية تحكي معيشنا الملطّخ بأدران السياسة وأهل الساسة الذين عليهم قراءة التاريخ ألف مرّة ومرّة.. علّهم يتّعظون؟ عادة ما سقطت مثل هذه الأعمال المأخوذة عن نصوص عربية خالصة في فخ الإستشراق، على اعتبار أنّ القراءة الغربية للأعمال الإبداعية العربية والشرقية، تأتي في مجملها ساذجة غير ماسكة بتلابيب الحقبة وخباياها، لكن سليمان البسام، العربي، أزال هذا الجليد عن المسرحية، من خلال حفاظه المتوازن على روح النص وعدم تسطيحه، بل على العكس أتى النص رمزيا، والآداء حرفيا، والسينوغرافيا مشبعة بثراء الإمكان في كل زمان ومكان، فالماضي يلاحقنا أينما كنا بتابوهاته الثلاثة التي ما آن لها أن تختفي.