من خلال المغرب لمست أن مجتمعا متعدد الثقافات يمكن من خلاله لليهود والعرب أن يتعايشوا جنبا إلى جنب، هو إمكانية فعلية.. إينات ليفي طالبة باحثة كانت من بين الوفد الإسرائيلي الذي قام بزيارة لمجموعة من المدن المغربية في أواخر غشت المنصرم رفقة طلبة باحثين وجامعيين، التقاها الكاتب رجب ماشيشي وهو باحث في اللغة والثقافة الأمازيغيتين، وأجرى معها حوارا حول أهداف هذه الزيارة وأسيقتها ونتائجها.. بداية هلا عرفتمونا والقراء أكثر بنفسكم إذا سمحتم.. أنا ابنة 29 ربيعا، من مواليد مدينة حيفا – التي تعتبر مدينة يعيش فيها كل من اليهود والعرب على حد سواء - وكنت أعيش في مدينة القدس على مدى السنوات الست الماضية.. كنت بحاجة إلى التعامل، منذ طفولتي، مع الكثير من التحديات التي وضعتها الحياة أمامي، وكان لدي الوقت الكافي للاهتمام بنفسي أكثر، وأنا على يقين اليوم أن كل هذه التحديات جعلتني أقوى وأكثر ثقة في كل خطواتي. وكجزء من رحلتي الشخصية لفهم خبايا الشرق الأوسط وللبحث عن جذوري، حصلت على شهادة البكالوريا في دراسات الشرق الأوسط والإسلام والعلاقات الدولية، وقريبا سأنهي شهادة الماجستير في الأبحاث حول الصراعات وكيفية إدارتها وتسويتها من الجامعة العبرية في القدس، واليوم أنا أعمل كمساعدة في بحث «مؤسسة التعاون الاقتصادي « (ECF)، وهي منظمة خاصة تهدف إلى حل الصراع الإسرائيلي العربي - والإسرائيلي- الفلسطيني من خلال تقديم حلول توافقية للدولتين. لم يكن اختيار هذه المجالات للدراسة وليد الصدفة. بل كان بالدرجة الأولى وليد بحث مستمر عن حلّ لصراع داخلي محض. استغرق الأمر مني بعض الوقت لكنني ارتأيت في النهاية إلى ضرورة قبول الظلال المتنوعة لهويتي المعقدة، بالإضافة إلى جذوري المغربية والتونسية والكردية والعراقية. أرى نفسي كيهودية وإسرائيلية لكنني أعترف أيضا بثقافاتي العربية والكردية وحتى الفلسطينية (لقد عاشت عائلة والدي في القدس خلال الأجيال الثمانية الأخيرة واعتبروا قبل عام 1917 «كيهود فلسطينيين»). وفيما يتعلق بجذوري المغربية فقد غادر أجدادي مكناس في عام 1952 ولما زرت المدينة هذا العام وجدت أن هناك قبرا قديما في مكناس يعود إلى حاخام مشهور يحمل نفس اسم العائلة الذي يحمله جدي وجدتي ويفترض البعض أن تاريخ هذا القبر يرجع إلى القرن الخامس. لذلك من يدري فليس من المستحيل أن أكون أمازيغية أيضا. لقد وجدت أيضا أن أخ جدي قتل بوحشية مع خمسة يهود آخرين من قبل المسلمين في شهر أغسطس 1954 في بلدة صغيرة على بعد 60 كيلومترا من مكناس تسمى بيتي جان. هذا كان واحدا من الأحداث العنيفة القليلة ضد اليهود، والتي وقعت في المغرب. ورغم أن هذا كان حدثا مأساويا إلا أنه لم يضعف من هويتي المغربية بل العكس فقد أصبحت أقوى من ذي قبل. فأزور قبر أخ جدي في كل مرة قمت فيها بزيارة المغرب. ما هو السياق الذي جاءت فيه زيارتكم للمغرب؟ ولماذا اختيار هذه الظرفية بالذات؟ وما هي الأهداف المُتوخاة من هذه الزيارة؟ يُعتبر المغرب بلادا ساحرة الجمال، ويتميز بمجتمعه المتعدّد الثقافات ونسيجه المُجتمعي. فالمغرب يُعتبر جغرافيًا نقطة التقاء بين أوروبا وإفريقيا. وهذا ما جلب عليه الكثير من الزوار على مر التاريخ. هذا النسيج الثقافي جعل من المغرب نقطة التقاء مميزة ومثيرة لدراسة العلاقات التي تجمع بين المجوعات العرقية والدينية. بعد زيارتي الأولى هذه للمغرب أود بأن يجَرّب آخرون عملية الاستكشاف المميزة هذه التي تشمل زيارة الأماكن المختلفة في المغرب واللقاء بشخصيات رائعة الذين يتحدثون عن عدة جوانب من النسيج الرائع في بلاد المغرب. أنا آمل بأن يكون هناك أيضا عمل مشترك في نهاية هذه العملية سوف يُرسخ للعلاقات بين اليهود والعرب في منطقتنا... وأذكر على سبيل المِثال المشاريع الجديدة التي من شأنها أن تساعدنا على تبني إطار متعدد الثقافات.. آمل أيضا من خلال هذا المشروع تصويب العلاقات بين المجتمعات المدنية في إسرائيل والمغرب. أنا لا أريد أن أترك كل شيء في أيدي حكوماتنا، ومتأكدة جدا أن كل واحد منا باستطاعته أن يغير كل ما هو بحاجة إلى التغير. ماذا تقولين عن التصريح المنسوب إليك ضد الناشط الأمازيغي أحمد عصيد؛ والمنشور بجريدة هسبريس قبل أيام ؟ كانت تجربتنا الشاملة في المغرب تجربة إيجابية جداُ. إلا أن وسائل الإعلام قلصت هذا الشعور، فاستخدم من قبل الآخرين وفقط من أجل مهاجمة شخص ما. السيد أحمد عصيد كان أحد متحدثينا الرائعين، فقد قابلناه لأننا فعلاً نريد بأن نتعلم المزيد حول الحضارة الأمازيغية في المغرب. كيف بإمكان أحد أن يتعلم عن المغرب دون أن يتعلم عن حضارة الأمازيغ وتراثهم الذي ذاع صيته حتى في منطقة شمال إفريقيا؟ أنا حقا أشعر بالأسف لهؤلاء الناس ضيقي الأفق والذين ينشرون أكاذيبهم بجميع أرجاء المغرب فقط للحصول على منفعة سياسية. من الواضح أنه يوجد نزاع ما بين السيد أحمد عصيد وأولئك الإسلاميين على القضايا الداخلية في المغرب. وتصرفهم كان تصرفا واضحا وشريرا ويرنو للتسبب في الضرر لأشخاص آخرين... بالنسبة إليك، ماذا تقولين عما يسمى اليوم بحوار الثقافات والأديان في العالم؟ بالنسبة لي فللحوار معنى فائق الأهمية لفهم وحل الصراع. فهو يُتيح للأطراف المتصارعة، التي عادةً ما تكون منفصلة ومنعزلة الواحدة عن الأخرى، إمكانية تبادل وجهات النظر ومشاركة الآخرين مشاعرهم والتقليل من الشكوك ومنح الثقة المتبادلة وتبادل المعلومات القيمة. أنا أظن بأن الحوار بين الثقافات والأديان هو حوار هام جدا لأنه يتعلق بمواضيع لها علاقة بالهوية، وفي بعض الأحيان نحط من قيمة ودور وكذا مساهمة الهوية القوية في خلق الصراعات. إن الصراع الذي أعيشه أنا، والصراع في الاتحاد اليوغوسلافي سابقًا وطبعًا الصراع العربي - الأمازيغي, ما هي إلا نماذج قليلة تعرض لأهمية والدور التي تلعبه الهوية في حياتنا. أنا أؤمن بأن زيارة المغرب هو فرصة ممتازة للفهم أكثر ماذا يعني مصطلح «حوار ديني وثقافي». وبالنسبة لي فهذا يعني معرفة ديانة وثقافة الآخر التي تعتبر جزء من واقعي ووجودي، وبالطبع الاعتراف بالاختلافات والتشابهات التي قد نتقاسمها، وتقبل التنوع كخصلة أخلاقية حميدة من الدرجة الأولى. كيف تنظرين إلى ما يجري بين اليهود والمسلمين الآن في فلسطين ؟ بزغ فجر جيلنا في بلاد تعيش الصراع يوميًا حيث فهم الناس بأن هذا الصراع هو صراع مُطْلق وبأن المسلمين واليهود قد كُتِب عليهم العيش في صراع أبدي. يعيش الطرف الآخر حالة من التخوف في وجود للكثير من التصورات والآراء المسبقة. كثير من الناس يُحاكَمُون وفقًا لخلفيتهم وهويتهم الدينية. والجدير بالذكر بأن الهوية الدينية والصور التي تُكوّن عن المسلمين وعن اليهود هي صور مشوهة ومحرفة. فعلى سبيل المثال، إذا كنت مسلما تعيش في شرقي القدس ورأيت شخصا يهوديا مُتديّنا يمر بجانبك فقد تشعر بالتوتر وبالجو المشحون. والعكس صحيح، فردة الفعل الأولى لليهود عند رؤية المسلمين هي الخوف. فكل طرف يعتبر وجود الآخر على الفور بمثابة خطر محدق، وكل فئة لها أسبابها. وتعتبر هذه الحالة المؤسفة وليدة الاشتباكات طويلة الأمد بين اليهود والمسلمين في منطقتنا، وفي نظري فإن جوهر صراعنا هذا ليس صراعا دينيا فقط، بل هو أيضًا مجموعة عوامل أخرى كالطموحات والمنافسة الوطنية، على الموارد الخ.. ما هو تصورك للعلاقة بين الأمازيغ واليهود؟ أولا وقبل كل شيء، يجب أن أعترف بأن أول شيء قمت به كان هو القراءة على الأمازيغ، فقط خلال زيارتي الأولى للمغرب في دجنبر الأخير. يجب عليك أن تفهم بأن المغرب في نظر المشارقة يُعتبر بلدا عربيا، والكثير منهم ليسوا متعودين فكرة الإرث المغربي والشمال إفريقي. تعتبر القضية الأمازيغية بمعانيها الكثيرة قضية جديدة بالنسبة إلي، وأنا أبذل ما بِوِسعي لتعلم الكثير عنها، وخاصة بعد مُشاهدة فيلم كمال هشكار «تنغير- جيروزاليم: أصداء الملاح». عندما عُدت إلى إسرائيل بدأتُ بسُؤال اليهود المغاربة عما إذا كانوا يعرفون الأمازيغ أو تعود انتماءاتهم لأمازيغ، وهكذا بدأت التواصل العميق بين الأمازيغ واليهود. كيف كان انطباعك بعد مشاهدة فيلم «تنغير جيروزاليم: أصداء الملاح» لمخرجه كمال هشكار ؟ كانت أول مرة أتيحت لي فيها الفرصة لمشاهدة فيلم كمال كانت في اليوم الثاني من رحلتي في المغرب في دجنبر الماضي في الدارالبيضاء. كانت الترجمة في الفيلم إلى اللغة الفرنسية لذلك لم أفهم كل شيء. عندما أتى كمال إلى تل - أبيب لعرض الفيلم، دعوت العديد من أصدقائي وكانت للبعض منهم جذور مغربية وكلنا شاهدنا الفيلم وبكينا. هذا لأنه حتى وإن كان هذا الفيلم يحكي قصة بلدة مغربية واحدة – فقد عرض الحسرة والصدمة، غير المعترف بها، التي ألمت باليهود عندما تركوا البلدان العربية والمسلمة. نحن لا نتعلم الكثير عن تاريخ الشعب اليهودي، الذي أتي من البلاد العربية والمسلمة، اليوم في إسرائيل لا يزال اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي يُعتبر إشكالية، وهؤلاء الذين نجحوا في عملية الاندماج (أو الانخراط) اضطروا للتخلي عن هويتهم العربية والأمازيغية وتركها وراءهم. لذلك فعندما شاهدت فيلم كمال شعرت وكأن أحداً ما يحكي قصتي الشخصية. وما زاد من الإثارة والقوة في الفيلم أن القصة حُكِيت من طرف مسلم. كان من بين الأسباب التي دفعتني لزيارة المغرب شعوري بأن تاريخ عائلتي البعيد في المغرب قد تم محوهُ وغير معترف به. ولذلك حدت بي الرغبة في إعادة ربط الاتصال بماضيَّ وإعادته مجدداً إلى الحاضر والمستقبل عن طريق الصور. ما فعله كمال هو استحضار هذا الماضي وإعادته إلينا من خلال أعيُن أمازيغية – مسلمة – يهودية من تنغير. هذا هو أيضاً السبب الذي أدى إلى إثارة الكثير من تعليقات الناس بعد مشاهدة الفيلم والتي كانت متعلقة بباقي المناطق في المغرب وهي تسأل كمال لِم لَم يتطرق إليهم بالمرة في فيلمهِ. يمكن تفسير ذلك بالعودة إلى حقيقة مفادها أننا جميعاً نريد أن تُحكى قصتنا وهذه ليست قصتنا فقط بل قصتكم وهذا ما فعلهُ كمال أيضاً. إنه شجاع لأنه تجرأ في كشف نقطة اللقاء بين قِصَصِنا - كمسلمين ويهود – في واقع عُنوانه النزاع. كيف تستطلعين مستقبل العالم في ظل الحروب الدامية بين الأنظمة والشعوب؟َ نحن نُفضل التفكير في الصراع على أساس أنه غير عادي، ليس عاملا تكاملياّ في حياتنا، بل الحقيقة أن الصراع في كثير من الحالات يُساعد على جلب التغيير. بتعبير آخر، إن دعاة التغيير يُمكن الاعتراف بهم في العديد من الحروب التي تنشب هذه الأيام. لا تُسئ فهمي، فهناك وسائل أقل تكلفة وأكثر إنسانية تقود إلى التغيير، لكن أحيانا يقع هذا عن طريق النزاعات كالتي نشهدها هذه الأيام في العالم، وبالطبع في العالم العربي والشرق الأوسط. أتمنى أن يكون هناك توازن بين المُجتمع والقاعدة، ليَتَسنى للناس مشاركة أفكارهم والتعبير عن شكاويهم. وأتمنى أن لا يتم استخدام اختلافاتنا على أنها أسلحة بل اعتبارها خصلة. ما هي رسالتك الأخيرة؟ تذكر، نحن جميعًا بشر، بغض النظر عن تعددية هوياتنا، يهودا أو مسلمين، إسرائيليين أم عربًا. لا تتطلع إلى العالم وتحاول تصنيف الناس إلى خيريين وأشرار. فالواقع أكثر تعقيدا من ذلك، إذن باستطاعتك رؤية العالم بألوان مختلفة. من المهم بالنسبة لي أن تعرف بأنه يوجد ما يقارب المليون مواطن يهودي في إسرائيل لهم جذور مغربية. على الرغم من أن بعضهم نسوا تراثهم المغربي، ولكن الكثير منهم لا يزال يحافظ عليه بقوة. جئت إلى المغرب لأتعلم وأفهم بطريقة أفضل ماذا يعني بأن تكون شخصا مغربيا؟ الأشخاص الذين علموني الكثير هم أنتم - الشعب المغربي - من خلال محادثات عديدة في أماكن مختلفة، رأيت أيضا بأم عيني أن مجتمعا متعدد الثقافات يمكن من خلاله لليهود والعرب أن يتعايشوا جنبا إلى جنب، هو إمكانية فعلية. أنا أعلم أنها ليست الطريقة المثلى، لكنها أفضل من أي نموذج آخر مُتاح في منطقتنا وغيرها من المناطق، وكذلك فإنه لا يزال موجودا اليوم. آمل حقا زيارة المغرب، وطن أسلافي وأجدادي مرة أخرى، وأريد فعلاً أن أشكركم من أعماق قلبي على حسن ضيافتكم وترحيبكم وكرمكم. كل هذا جعلني حقا أشعر بالفخر كمغربية.. *( باحث في اللغة والثقافة الأمازيغيتين) تنغير