الوهم يبني الحكاية: تستند أحداث رواية «رجال وكلاب» على خلفية تخييلية متصلة بالنسق السيكولوجي، الذي أفرز تيمة نفسية أساسية هي «الوهم» حيث تعد هذه الموضوعة نقطة انطلاق أحداث الرواية، و تطورها و نموها . هكذا، تحكي الرواية عن الذات الساردة «علال» الذي شعر باضطراب نفسي وفكري، جراء الانشغال بقضية تاجر، كان يتبضع منه، تم القبض عليه من لدن رجلين، تنطبق على فعلهما صفات المخبرين، فقرر هذا السارد الاستفسار عن أمر الرجل، بيد أن جهله باسم «المختطف» كان كافيا ليعتبر شرطي الاستقبال فعله مضيعة للوقت: «اذهب إلى حالك، إنك تضيع وقتي»، بهذا استشعر السارد بداية خلل نفسي: «شككت للحظة في حالتي هاته. تساءلت أليس ما أعيشه الآن وهما؟». وهنا، بدأت معالم تسرب الوهم إلى الذات الساردة: «ترسخت قناعة في ذهني بأن ما عشته هذا الصباح لم يكن سوى وهم». كان «الوهم»، إذا، مدخلا للاختلال النفسي، حيث حاولت الذات الساردة تغيير أمكنة الاستقرار علها تتجاوز أزمتها النفسية، التي صارت مشكلة معقدة ومركبة، بل حالة مرضية مستعصية» تجعل المريض يحيا في ظل أوهام بلا حصر». وتطرح الرواية المرض النفسي، الوساوس والأوهام، أمام القارئ المفترض للنص الروائي كي يشارك في حل أزمة السارد المريض، وقد عمد هذا الأخير إلى كشف ما يعتبر بداية لهذا الإشكال النفسي، وهي بداية ذات جذور وراثية، لأنها قد تكون متولدة عن الحالة التي لزمت جد السارد من أبيه حينما فر كلبه الحميم، بعدما أصيب بالسعار، فظل الجد «يتوهم أن الكلب،لابد، عائد إلى كوخه»، وبدأ يكلم نفسه وكأن الكلب أمامه فعلا، بل سيتماهى مع كلبه المختفي سلوكا وحركات وأكلا وسكنا، محققا «تماهيا كلبيا» ناذرا، انتهى بوفاته، بيد أن وفاة الجد لم تعط الحرية لأبنائه وأحفاده، بل سجنتهم داخل لقب مستفز «بني كلبون»، مما دفعهم للرحيل من قريتهم الصغيرة نحو مدينة الدارالبيضاء، والاستقرار في أحد أحيائها الهامشية. وقد كانت ذكرى»الحياة الكلبية» لجد السارد مؤثرة في حياة أبيه الذي اشتغل في معمل «الفاسي»، وثابر في عمله، وتزوج وسكن في منزله الجديد، لكن اللعنة ستظل تطارده بسبب حمق أخته،عمة السارد، وجنونها الكلبي» الذي استعصى على العلاج. كل ذلك جعل الذات الساردة متأثرة في نشأتها و محيطها بحالة «الجنون الكلبي» لأفراد الأسرة، فصارت ذاتا هشة وضعيفة النفسية، لولا التعويض الذي وجدته في الكتابة والقراءة، لكن ذلك لم يخف اختلالاتها السيكولوجية المتعددة: التبول اللالإرادي،و الاضطراب النفسي،الخجل، كثرة أحلام اليقظة، الاكتئاب...إلخ، مما دفعها إلى إطلاق أحكام يؤطرها القلق الوجودي، والتيه الروحي والفكري: «إنني اعتبرت نفسي،دائما، مجرد خطأ.. ولادتي خطأ.. حياتي خطأ.. كل شيء يحيط بي خطأ.. إنها أخطاء يصعب تصحيحها أو محوها. أخطاء قدرية». إنه قانون الشك الذي يمس الكثير من الثوات، ويغلب فعل التخطيء ويجعله خارج الذات، وإن كان منبثقا من داخلها،لكن قانون الشك أفضى بالذات الساردة في النهاية إلى اكتشاف مفاده أن»المرض النفسي» الذي تعيشه هذه الذات نابع من تغليب سلطة «الوهم» على السلوك والتفكير، يقول السارد متحدثا عن مرضه: «يجعلني ضحية لوقائع وهمية تصيبني بالإرباك والحيرة، حتى أنها في كثير منها صعبة التصديق تزداد وطأة يوما بعد يوم..»8 لكن هذا المرض تمكن السارد من تجاوزه عبر الكتابة والإبداع. يتضح أن رواية «رجال وكلاب» تسعى إلى نأكيد حقيقة أساسية هي: إن الكتابة تعد وصفة علاجية هامة لكثير من الأمراض النفسية المستعصية، سواء كانت ذات جذور وراثية يمكن إدراجها ضمن «اللاوعي الجمعي»، بلغة كارل يونغ،»كاستعداد نفسي خاص عملت على تشكيله قوى الوراثة»، أم ذات أصول ذاتية، جراء التنشئة الاجتماعية والتكوين المعرفي وتراكمات التجربة الحياتية. ومنه فالرواية تستبدل المنطق الذي حكم متخيل حكايات «ألف ليلة وليلة» المتمثل في «احك وإلا قتلتك» بمتخيل سردي قوامه منق جديد هو: «احك و إلا قتلت نفسك». هذا يؤكد أهمية السرد في تخليص الذات الساردة من إكراه الاختلالات النفسية المتنوعة، حيث يصلنا من داخل الرواية»نداء» واضح مفاده:أيها المريض النفسي، أو الذي يتوهم أنه مريض، والممتلك لأدوات الكتابة، إن علاجك مرهون بالكتابة، فاكتب كي تحيا حياة نفسية مستقرة، وتتجاوز كل اضطراب نفسي، وبالتالي فالعلاج هو داخل الذات لا خارجها، يقول السارد: «كل شيء موجود في نفسي، وليس خارجها، ولأن انعتاقي لن يتأتى إذا لم أسع إليه بنفسي»، يظهر أن «السعي» يؤكد أن الذات الساردة في الرواية ليست ذات مريضة،بالمعنى الذي يتعذر معه التحكم في فعل الكتابة، بل هي ذات تتوهم المرض، وتتوهم انعكاسات»الماضي الكلبي» على الحاضر المعيش،لأنها ذات تبدو في عمقها الفكري واعية بكينونتها وبمحيها وبمسارها الفردي والجماعي،بل ترسم استراتيجية سردية للتأثير على المروي له، ومن خلاله على القارئ الضمني بصفة عامة. الوهم بوابة لخلل متعدد: يفتح تسريد الوهم في رواية «رجال وكلاب» الأبواب أمام تجلي اختلالات نفسية للذات الساردة المحورية، التي تبدو أنها تعيش داخل حالة نفسية ومضربة، حيث يصير الوهم سببا رئيسا في ممارسة إكراه نفسي عليها، ويغدو عتبة هامة للدلالة على خلل نفسي متنوع العناصر. وبالتالي فإذا كان الوهم محور السرد الدلالي، فإنه يعد تيمة مبنية وظيفيا وفق إطار جمالي ودلالي قوامه التضعيف والتفجير،لأنه يولد تيمات نفسية فرعية كاشفة لهشاشة الذات الساردة و البطلة. يشكل القلق النفسي، إذا، أحد التيمات المتفرعة عن إشكالية الوهم، باعتباره»تجربة انفعالية مؤلمة تتولد عن الإثارات في الأعضاء الباطنية للبدن». ويقدمه متخيل الرواية قلقا متمفصلا إلى مستويين: الأول تحقق عبر جمالية الاستعادة، ونقصد به عدم ارتياح الذات الساردة أثناء استعادة «تاريخ» الأسرة «الجد،الأب،العمة» الموسوم بالبلاغة الكلبية، التي جعلت الذات تتجاوز عتبة الراحة النفسية نحو عالم القلق بمختلف امتداداته وتجلياته. والثاني تجسد عبر جمالية الإفصاح: أي الإفصاح عن قلق يخترق الذات بقوة، فيتركها متلبسة بالدهشة والتيه، ويضعها أمام فكر عدمي هدام. يصير القلق حالة نفسية مولدة لنمط فكري سلبي تجاه الكينونة والوجود والنفس، بدل التفكير في انتشال نفسها من عالم التيه والانهزام، مما يؤكد التعالق الوظيفي بين الفكر والنفس، وكأن الرواية تهجس بشكل مضمر بأن الاستقرار النفسي هو المدخل الحقيقي لتوازن الفكر، في حين أن الاضطراب السيكولوجي يفضي للتيه الفكري. فضلا عن ذلك، تشخص الرواية متخيل الوهم باعتباره صورة راسمة كينونة الذات الساردة وهي موشومة بحرمان متنوع، بدءا بالحرمان من الاستقرار النفسي، باعتباره حالة متعالقة بالقلق من زاوية السبب والنتيجة من جهة، ومتعالقة بالظرفية التاريخية للواقع التجريبي الذي يؤطر الذات الساردة من جهة ثانية: «الطفل الذي كنته، لم ينعم بالاستقرار في حياته، وهذا يحول دون تحقيق توازنه النفسي.. إن هذه الطفولة البئيسة اشتركت فيها مع كثير من أبناء جيلي، لقد عشنا في ظل مرحلة انتقالية. كان الاستعمار الفرنسي قد غادر المغرب بسنوات قليلة، وكان الطموح قائما لبناء دولة مستقلة..بيد أن اختلالات قوية حدثت». مرورا بالحرمان من امتلاك حيوان أليف أي كلب، لأن الثقل الرمزي للكلب في المسار التاريخي لسيرة السارد، الذي جعله معادلا لمأساة الأسرة ومعاناتها. هو ما ولد هذا النوع من الحرمان، وصولا إلى الحرمان من ممارسة بعض الهوايات المفضلة»الرسم»، وذلك جراء الاكتئاب الذي استوطن النفس وعمق جراحها، يقول السارد: «الاكتئاب وجد لنفسي سبيلا ممهدا، في غفلة مني،استوطن دواخلي.ز هجرت الرسم و انكفأت على ذاتي..»، وهو اكتئاب ناجم عن التأمل في التاريخ الأسري المميز باللعنة الكلبية، بانعكاساتها الشعورية واللاشعورية، انتهاء بالحرمان من حياة نفسية متوازنة نتيجة اضطرابات في البصر، خاصة أثناء النوبات النفسية الحادة: «فلقد كنت أعرف حق المعرفة أن ما يحدث لي سببه مشاكلي النفسية التي تراكمت حتى أصبحت غير قادر على تحملها. دليلي على ذلك أن الحول الذي يصيبني، يذهب عني بمجرد أن تهدأ نفسي وتنعم بالسلام». الوهم و استراتيجية المواجهة: إذا كان الوهم يتموقع في نواة السرد باعتباره كشفا عن «اللامرئي في الحياة الداخلية» للأنا الساردة، بلغة كونديرا، فغنه وهم مولد لحركية سردية تمفصلت إلى مستويين: الأول يبني الاختلالات النفسية للذات و البطلة.والثاني يفككها ويؤسس بدلها وصفة علاجية تتأسس على سلطة اللغوس والثقافة، القائمة في البدء على القراءة والتحصيل، والمؤسسة في الختم على الكتابة والحكي. هكذا، يغدو الحكي والكتابة معادلا رمزيا و فنيا للعلاج النفسي، وفعلا هازما لشبح المرض النفسي المستعصي، مما يجعل الوهم يؤدي وظيفة الشحن، شحن النفس باضطرابات متعددة، والسرد يقوم بوظيفة الإفراغ باعتباره وظيفة علاجية ووقائية من «صرع» مدمر واضطراب كلي للذات. خاصة وأن الذات الساردة تنطلق من فرضية نفسية تؤمن بأن كل ذات تعاني من «مركب النقص»: «أعرف أن لا أحد بمنأى عن الأمراض النفسية، تأمل نفسك جيدا،لترتسم أمام عينيك أكثر من علامة استفهام». وهذا يعني أن الذات الساردة تنهج استراتيجية مضادة لمواجهة التدمير الذي يلحقها، جراء خضوعها لسلطة الوهم. * هامش: هذا المقال جزء من دراسة طويلة