مدينة آسفي.... تاريخ وحضارة... وهوية متعددة الأعراق اختلف المؤرخون في تاريخها، كما تم الاختلاف في أصل تسميتها، وبين كل خلاف أو اختلاف، كان لابد من إعادة رسم المشاهد والصور والوقائع التاريخية .. مدينة تحمل أكثر من اسم، وتنتسب لأكثر جهة .. لكنها تظل شاهدة على كل ذلك الاختلاف بالكثير من الإصرار على مواجهة المستقبل .. فمن هنا مر الفنيقيون والكنعانيون والبربر والبرغواطيون واليهود والفاتحون المسلمون والبرتغاليون والإنجليز والإسبانيون والمورسكيون والفرنسيون، جميعهم مروا من مدينة وديعة تنام على ضفاف الأطلسي، بينما بقيت آسفي شاهدة على زخم تاريخي يمتد إلى بدايات البدايات، دليلنا في ذلك أن التأريخ لهذه المدينة ينطلق من مرحلة ليس لها امتداد كما باقي الحواضر والمدن، فكان لزاما علينا أن نعود لما وراء الكتابات التاريخية، إلى حيث تم الاتفاق رغم روح الخلاف، إلى آسفي الأصل. والأصل منارة ووادي ومنحدر وبحر. وحين يجتمع البحر بالوادي والمنارة، تكون ولادة آسفي التي سماها ابن خلدون«حاضرة المحيط» . من أجلها سنكتب تأريخا بسيطا يعتمد أمهات الكتب رغم قلتها، وبحوث المؤرخين الجدد رغم اختلافها، والرواية الشفهية رغم تضاربها.لكننا حتما لن نذهب أبعد من كل ذلك، لتبقى آسفي تحمل لغز البداية، من بداية الحكاية، والحكاية رواية بين بدايتها. والنهاية ألف سؤال. آسفي .. إمارة برتغالية يُسَيِّرُها ملك البرتغال! تتباين الروايات التاريخية حول تحويل آسفي المُسلمة التي عاشت العز والمجد مع إمبراطوريات إسلامية حكمت المغرب، وقبله مع فاتحين مسلمين جاؤوا للمغرب من أجل نشر تعاليم الدين الحنيف، أسباب هذا التضارب أن هناك من يصف بعض قواد المدينة بالعملاء والخونة، وآخرون يتحدثون عن ورعهم وتقواهم ومقاومتهم للبرتغاليين الذين انطلقوا في التخطيط لاحتلال المدينة أسوة بثغور أخرى شمال المدينة وشمال المغرب، بحيث انطلقت البرتغال واستعمارها وعملاءها وقباطنتها، في التصرف في البداية على أساس أن الأمر مجرد نشاط تجاري في ميناء قيل عنه بأنه آخر المواني على سواحل بحر الظلمات، لكنهم كانوا يخططون لأبعد من ذلك، بالاعتماد على من يستطيع تطويع الساكنة وتحبيب تواجد النصارى، وتقديمهم على أساس أنهم المُوحِّد والقادر على استتباب الأمن، وتوفير حاجيات الساكنة التي عاشت تدهورا اقتصاديا بعد ضعف الدولة المركزية، وبعد أن استقلت المدينة عن الحكم المركزي. ومع مرور الزمن وبعد أن استغلوا مجموعة من الأسماء التي ذكرناها في حلقتنا السابقة، أمثال «علي بن واشمان والقائد عبد الرحمان أحمد بن علي يحيى الزيات يحيى أوتعفوفت وآخرون» في تهدئة الأوضاع، خصوصا أن ساكنة آسفي وباديتها أبدت مقاومة شديدة واستشعروا أن النصارى إنما انطلقوا وجاؤوا ليبقوا في بلادهم، يحتلونها وتُصبح مع مرور الزمن إمارة ومُستعمرة وراء البِحار، فكان لهذه الأسماء أدوار مختلفة، كل قام بدوره إما ضد الآخر أو في استمالة جهة ضد جهة، فكان ما كان، لكن الغريب أن من ضمن هؤلاء من كان يثور ضد هذا التغلغل الاستعماري البطيء، خصوصا من طرف قباطنة «ج قبطان» الذين هم في مرتبة عمال أو رئيس حامية يتم تعيينه مباشرة من ملك البرتغال، وهو ما تتحدث عنه كتب التاريخ، حين رصد مؤرخيها معارضات لسياسة الإستعمار من طرف بعض الأسماء، خصوصا بالنسبة ليحيى أوتعفوفت الذي لم يكن مقبولا من ممثلي الملك بآسفي، لدرجة أنهم كانوا يعتبرونه خائنا لولائه للبرتغال، وأن ما يقوم به ليس في مستوى الرعاية الملكية البرتغالية، ولا المكانة التي يحتلها هناك في لشبونة وهنا بآسفي، لأنه وفي الوقت الذي كان فيه الملك البرتغالي يعرف قيمة ما يقدمه أوتعفوفت تسهيلا لتوسع البرتغاليين واستيطانهم بآسفي وبكل دكالة، في هذا الوقت كان قباطنة البرتغال المتعاقبين على آسفي يرون غير ذلك، ويعتبرون بأن بإمكان أي مغربي القيام بما قام به، خاصة القبطان «نونو دي أتايد» الذي كان وبدعم من التجار اليهود والنصارى الذين كانوا يُشْعلون نار الفتنة بين القباطنة والقواد المغاربة، خصوصا يحيى أوتعفوفت. ولأن كتابات التاريخ وفهمها تنبني على الاختلاف الظاهر في تدوينه وتدوين تفاصيله، فإن هناك من المؤرخين من يُصور قواد البرتغال المسلمين بأنهم لعبوا دورا خطيرا لحد الخيانة تسهيلا لدخول الاستعمار البرتغالي على كل دكالة، فإن هناك من يصور نفس أولئك القواد بأنهم كانوا يحكمون لخدمة أهل المدينة المسلمين، بل ويُعارضون الكثير من سياسات الاستيطان بالمدينة، حيث تؤكد الأحداث بأن تراجع يحيى أوتعفوفت عن السماح للبرتغاليين ببناء دار لهم بجانب البحر، ومنعهم الإشتغال بأوراش وتجارة البرتغاليين، يأتي بسبب وطنيته واستشارته مع أهل المدينة الذين استشعروا بداية الخطر، رغم أنه هو نفسه برر تراجعه عن ذلك بأنه فقط من أجل اطمئنان نفوس المغاربة، بل إنه وحتى بعد أن سلم لهم المخزن الذي سيصبح بعد ذلك قصرا للإدارة البرتغالية الاستعمارية بالمدينة، رفض رفضا قاطعا السماح لهم بفتح باب يطل مباشرة على المرسى، لدرجة أنه طلب التحكيم الملكي البرتغال، لكن القبطان البرتغالي لم ينتظر التحكيم الملكي البرتغالي، بل أشعلها حربا بين القائد يحيى أوتعفوفت وغريمه التاريخي علي بن واشمان المنصور من قبيلة بني ماجر، حيث كانت هناك حربا ضروس شُردت معه ساكنة آسفي وعاشت مآسي لا حصر لها. وانطلق الصراع الخفي بين قباطنة برتغاليون يرون في يحيى أو تعفوفت بأنهم مجرد حكام جائرون، هدفهم ليس دعم الإمبراطورية البرتغالية، بل الحكم وكرسي القيادة الذي يبقى أكبر منصب في تراتبية دول إسلامية حكمت المغرب لقرون، ومن ذلك الرسالة التي بعثها « نونو دي أتايد « إلى ملك البرتغال يخبره فيها بأنه لقي صعوبات كبيرة من يحيى أوتعفوفت في موضوع الغنائم والضرائب المفروضة على السكان، كما تروي كتب التاريخ بأن يحيى أوتعفوفت عارض معارضة شديدة أن يقدم الدكاليون وأسفي منها خراجا للكنيسة بعد مطلب تقدم به أحد الأساقفة بآسفي، وهو ما لم يستجيب له الملك بعد أن تفهم موقف يحيى أوتعفوفت، بسبب الاضطرابات التي كانت تعيشها المنطقة آنذاك، كما تشير تلك الكتب التاريخية بأن نفس الرجل قام سنة 1517 بفضح أساليب اختطاف السكان وبيعهم عبيدا خارج المغرب، خصوصا من طرف القبطان والمحاسب البرتغاليين، وهو ما جر عليه اتهامات من قبيل بأنه أصبح يمهد لخيانة النصارى، وخطط لاغتيال القبطان، وأنه أصبح يسمي نفسه ملكا دون ذكر الملك البرتغالي، وأنه يقوم بتعيين الشيوخ والمقدمين على رأس بعض القبائل وببادية المدينة دون الرجوع للملك كما كان الاتفاق، واتهامات أخرى كانت بسبب مواقفه التي كان يجهر بها في الكثير من المرات، بل إن الخلاف مع قباطنة البرتغال أخذ مجرى آخر حتى بعد وفاة القبطان « نونو دي أتايد «، ليستمر مع القبطان الجديد «ماشكرنياش» وعائلته ومقربيه، زادتها تأججا تدخلات التجار اليهود، خصوصا أسرة «بن ازميرو» اليهودية، لتبدأ معالم الشك في القائد يحيى أوتعفوفت تتسرب للملك بسبب الرسائل الكيدية التي كانت ترسل له من البرتغاليون النصارى والتجار اليهود، فبدأت الأعين تراقب تصرفات القائد المغربي وتترصد خطواته واجتماعاته وتجوله في منطقة دكالة، بل إن منافسته لليهود التجار في دور الوساطة في كل عمليات التجارة بين آسفي بوابة المغرب، وبين شبه الجزيرة الإيبيرية، زاد من عداوة اليهود له، مما جعل أحد اليهود يُراسل الملك ويطلب منه أن لا تُسند أي مهمة رسمية لأي مغربي، حتى وإن كان يحيى أوتعفوفت، وفي ذلك مصلحة للبرتغال، وضمانا لبقائها بآسفي أهم الثغور البحرية بالمغرب ككل. استشعر القائد يحيى بأنه مُراقب من طرف البرتغاليين وعملائهم بآسفي، خصوصا وقد اعتقل حراسه يهوديا يُسمى «موسى درديرو»، الذي تم اتهامه بكونه من كان يُزود القبطان بكل أخبار القائد أوتعفوفت، فكان العقاب بقطع رأسه من طرف القائد أوتعفوفت، وهو العمل الذي جر عليه غضب كبير من الجالية اليهودية التي بدأت تتقوى وتجد لنفسها مكانة في إمارة برتغالية لها الكثير من المميزات الجغرافية والتاريخية والإستراتيجية، ومع كل ذلك، بدأ التحول لدى القائد ومعه ما سماه مؤرخون بأزمة ضمير، وهو الذي أصبح منبوذا ومرفوضا من طرف المسلمين والنصارى واليهود على حد سواء.