الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    وفد شيلي يثمن طفرة التنمية بالداخلة    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    أوزين: الأمازيغية لغة 70 في المائة من المغاربة .. وعلمانية المملكة متفردة    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات    مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    كيوسك السبت | أول دواء جنيس مغربي من القنب الهندي لتعزيز السيادة الصحية    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لهذه الأسباب أسلمت الكثير من العائلات اليهودية المغربية عبر التاريخ
فرض عليها الموحدون لباسا مميزا واحتلت مراتب متقدمة في الدول التي حكمت المغرب في ما بعد
نشر في المساء يوم 03 - 06 - 2013

تتفق مجمل الكتابات التاريخية التي أرّخت لمسألة إسلام العائلات اليهودية حول تعدّد المراحل التاريخية التي تم فيها ذلك الأمر، وتتنوع بواعث تلك «الرّدة العقدية»، التي
كان العلماء المسلمون، وكذا عامة الناس، ينظرون إليها بنوع من الارتياب نظرا إلى بعض الممارسات الاقتصادية المُشينة، مثل الغشّ في التجارة والمعاملات المالية الربوية عند هؤلاء «المسلمين الجدُد»، وكذا جهلهم بقواعد الدين الجديد (الإسلام).
تشير العديد من الدراسات والبحوث التاريخية التي اهتمّت بموضوع التأريخ لموجات إسلام العائلات اليهودية المغربية إلى أنّ هذه العملية بدأت تحديدا مع بداية الحكم الموحّدي تحت قيادة المهدي بن تومرت، لكنّ هذا لا ينفي أنّ الأمر بدأ عقودا قبل ذلك أيّ في عهد حكم مؤسّس الدولة الإدريسية، إدريس الأول، ثم ابنه إدريس الثاني لاحقا. وتشير بعض المخطوطات وكتب التاريخ إلى أنّ إدريس الأول غزى، سنة 173 ه، ما بقي من البربر على دين اليهودية والنصرانية والمجوسية حتى دخلوا الإسلام كرهاً أو طوعا، أما في عهد إدريس الثاني فقد سُمح لهم بالسّكن داخل أسوار فاس القديمة مقابل ضريبة الرّأس المقررة سنويا في 30 ألف دينار، ثم وافق على بناء حي خاص بهم سميّ «فْندْق ليهودي» (مخطوط: ذكر قصة المهاجرين المسلمين في البلديين -الخزانة العامة في الرباط)..
وبالعودة إلى زمن الموحّدين فقد أسلمت دفعات عائلات كثيرة على دفعات خوفا من البطش والتنكيل الذي طال كلّ الممارسات الدينية الخارجة عن مذهب «التوحيد» الذي أعلنه ابن تومرت، حيث كانت للفتح الموحدي لمجموع المغرب أصداء أليمة عند كل الجاليات اليهودية المحلية، التي صارت عرضة للاضطهاد الشّامل من أجل إدخالها إلى الإسلام.
فالأهمية القصوى التي خصّ بها ابن تومرت مبدأ التوحيد المطلق للإله، جعله يعتبر المسيحيين، أتباع عبادة الثالوث المقدَّس، كمُشركين بالله وفقا للنصوص القرآنية، فكان خياره إما إسلامهم أو محو آثارهم وممارساتهم الدينية.. أما الطائفة اليهودية، وبحكم الطبيعة التوحيدية لديانتهم، فقد صعب على ابن تومرت إنكار صفة التوحيد عنهم، فكانت محنتهم معه أن ادّعى أنهم يرفضون الاعتراف بعصمته من الخطأ، وصفته كمبعوث من الله، وهو خطأ يُجازى بالموت..
يقول عبد الوهاب الدبيش، أستاذ التاريخ في كلية الآداب بنمسيك في هذا الإطار: «في زمن الموحّدين، وهي الدولة الدينية القائمة آنذاك على عقيدة التوحيد، كان مصير أولئك الذين لا يؤمنون بهذه الفكرة، سواء أهل الذمّة أو من الجماعات الإسلامية ذات العقيدة المختلفة، هو الإبادة.. أمّا مع اليهود فقد مارس المُوحّدون سياسة أخرى، حيث فرضوا عليهم أن يلبسوا لباسا مُغايراً للمسلمين، مُتميّزين عن غيرهم، وسبيلا لمعرفتهم، خصوصا أنه كان هناك تشابُه كبير في الألوان والسّحنات واللباس باعتبارهم مغاربة، وهكذا كانوا يتميّزون بلباسهم الأصفر».
وتُظهر العديد من الكتابات التي أرّختْ لهذه الفترة أنّ المُوحّدين، في منطلق حركتهم، أرادوا أن يوافق اليهود والمسيحيون المحليون على اعتناق الإسلام طواعية، تاركين لهم عدة شهور، وفي بعض الأحيان عدة سنوات لاتخاذ قرارهم بالارتداد عن دينهم الأصليّ.. ذلك ما يمكن استخلاصه من الرّسالة، التي كتبها يهودي في الفسطاط في مصر هو سالمون هاكوهن السجلماسي. وهو يروي دخول الموحّدين إلى سجلماسة، بهذه العبارات: «عندما دخل ابن تومرت إلى سجلماسة، جمع اليهود وطلب منهم أن يُسْلموا، واستمرّت المفاوضات مدة سبعة أشهر، صام اليهود خلالها وصلّوا، بعد ذلك جاء أمير جديد وطلب منهم أن يسلموا جميعهم، فرفضوا، وقتل منهم مائة وخمسون يهوديا، في سبيل السّيد الأعلى... وأسلم الآخرون، وكان أول الذين أسلموا هو القاضي الحاخامي لسجلماسة يوسف بن عمران»..
أما في ما يرجع إلى أحداث استيلاء الموحّدين على فاس فتشير المصادر التاريخية إلى أنّ عبد المومن بن علي الكومي دخلها سنة 450 للهجرة بعد محاصرتها، وتسبّب الفيضان المصطنع لنهر فاس، الذي افتعله «الغزاة» بهدم سورها وهدم ما يزيد على ألفي دار، كما يروي صاحب «روض القرطاس»، وبعد عشرين سنة من ذاك التاريخ، سجّل الإخباريون عيش جالية يهودية مهمّة في المدينة.
يظهر، إذن، أنّ الموحدين لم يُرغموا يهود فاس على دخول الإسلام بعد السيطرة على المدينة، فقد كانوا يتبعون قوانين «الذمّة»، التي فرضت عليهم بدقة عالية، وفرضت عليهم الحراسة المُشدَّدة، مع إعطائهم آجالا طويلة للإسلام، تُحسَب بالسنين وليس بالشّهور، مما يترك المجال لافتراض وجود سياسات متنوعة اتبعها الموحدون حيال اليهود. وعموما، يمكن القول إنّ فترة سيطرة الموحّدين رافقها اندثار الجاليات الدينية المحلية، وبهذا الصدد كتب أبراهام بن داوود في كتابه «سفر حَكابلاح»: «وقع ذلك بسبب سيف ابن تومرت، الذي قرر الكفر على اليهود قائلا: «فلنمحُهُم من عداد الأمم على ألا يُذكر اسم إسرائيل».. ويتابع: «عرفت إسرائيل سنوات الأزمة والإرغام على الدخول في الإسلام، فلم يبق في المملكة اسم ناج، من سلا، في آخر العالم، إلى المهدية»..
وبقيت جالية يهودية متواضعة تعيش في كنف الحكم الموحدي في فاس، إلى حدود سنة 1165 م، وهو التاريخ الذي جعلت السلطات المحلية حاخام المدينة ربي جوداه بن سوسان أمام اختيار مؤلم، يتمثل في الإسلام أو الموت.. ولمّا رفض ذلك الحاخام إعلانَ إسلامه، تم إعدامه في السّاحة العمومية يوم 8 أبريل 1165م. وإثر الحادثة اعتنق اليهود الإسلام بأعداد مهمّة، وتُبيِّن المصادر التاريخية أنّ أغلبية اليهود فضّلوا اعتناق الإسلام بدل الموت لكنهم، مع ذلك، استمروا في ممارسة الفروض الدينية اليهودية، مما أجّج موجات الشّك في إسلامهم، ودفع السلطان يوسف يعقوب المنصور الموحدي إلى تمييزهم بالشارات وسط الأسواق وداخل الأماكن العمومية.. وعن هذا يحكي المؤرخ عبد الواحد المراكشي في «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» قائلا: «إن الذي دفع أبا يوسف ليميزهم بهذا اللباس هي شكوكه في إسلامهم لأنه اعتاد القول «لو كنتُ متيقنا من إيمانهم لتركتهم يختلطون مع المسلمين ويتزوجون منهم، ولو كنت متأكدا من عدم إخلاصهم لقتلت رجالهم وأسَرتُ أطفالهم ووهبت أملاكهم غنائم للمُسلمين، لكني لديّ شكوك بشأنهم».
ومن جهة أخرى، فإنّ الردة التعسفية إلى الإسلام، كانت تترك آثارا عميقة بين تلك الأقلية الدينية في المغارب (بما في ذلك الأندلس) كما تبيّن ذلك كتابات شخصيات مهمّة مثل «مايمونيد»، الذي دخل الإسلام بشكل قسريّ، ويتحدّث عن هذه القضية في رسالة تعزية أو مواساة «Epitre de consolation»، وهو موضوع تناوله قبله والده في «رسالة انتقال جبري من اليهودية إلى الإسلام
«Epitre de conversion forcée»، وبعده أحد مريديه، وهو راهب سبتة، الذي دخل الإسلام، واسمه يوسف بن يهودا بن عقنين، في كتابه «طبّ النفوس».
ويتوسّع ابن عقنين في الحديث عن الآلام والتمييز الذي تعرَّض له «الإسلاميون»، والمتجلية في منعهم من امتلاك العبيد أو تنفيذ الوصايا أو الولاية المدنية، وكذا الزّواج من مُسْلمات «أصيلات» وغيرها من الأمور.
أما في العهد المريني، فقد تغيَّرَ مصير اليهود بشكل جذريّ إلى حدّ ارتداد «البلديين» عن دينهم الجديد «الإسلام» والعودة إلى دين أجدادهم، دون أن يتحمّلوا النتائج المترتبة عن ارتدادهم وهي القتل، وكان ذلك في عهد عبد الحق المريني. ففي سنة 1437 م، أثار هجوم الجيوش البرتغالية على تطوان موجة من الذعر، أطّرته الأوساط الدينية المحلية لخلق موجة من عدم الرضى على السّلطة المرينية الحديثة. كما سخّر رجال الدين المسلمون كل شيء لإلهاب حماس المؤمنين، وفي هذه الظروف، سوف يتم اكتشاف جثة مولاي إدريس الثاني، التي بقيت على حالها سنة 1438 م بعد مائتي سنة على وفاته.. وأثارت هذه الواقعة خشوعا داخل العائلات الشّريفة في مدينة فاس، التي لم تيأس بَعدُ من أحقيتها في السّلطة ونشدان المناداة عليها مجدّدا للحكم.
وفي خضمّ المواجهة العسكرية للمرينيين مع البرتغال، أثقل عبد الحق المريني كاهلَ شعبه بالضرائب لتمويل حملاته العسكرية، ولم يكن هذا الإجراء ليزيد من شعبيته، بل أدى ذلك إلى انتشار السّخط العامّ، الذي سرعان ما سيتجّه صوب اليهود، الذين علا كعبهم في تلك الفترة. لكنّ واقعة تدنيس المساجد والمدارس بقِرَب مليئة بالخمر، والتي افتُرِض أن اليهود يقفون وراءها، أدّت إلى اندلاع حركة مُعادية لليهود، حينها سيقرّر السلطان المريني ترحيل سكان فاس اليهود، حفاظا على أمنهم، ناقلا إياهم إلى فاس الجديد في «الملاح»، الذي كان يسكن في موقعه منذ القرن الثاني عشر سوريون مختصّون في النبال، جلبهم المرينيون لحراستهم الشخصية، وكان هذا الحي يدعى حمص، وهي تصغير كلمة «حوموص»، ويشير الدبيش إلى هذه الأحداث بقوله: «خلال بناء فاس الجديد سنة 684 ه تم تخصيص حومة خاصة باليهود، وربما ساهمت في ذلك رغبة السلطان المريني في حماية اليهود من تعنيف المسلمين بعد حدوث مشاحنات بين الطرفين بسبب تعدّي اليهود على حرمات المسلمين، ولو أنها قضية فيها نقاش وغير واضحة المعالم».
ونفترض أنّ الشوق الذي أطّر اكتشاف قبر مولاي إدريس الثاني والرّغبة في جعل فاس حرما دينيا، وكذا تهديد الغزو البرتغالي، مهّدت لعودة الإسلام المُتشدّد، الذي يقضي بالتفرقة بين المسلمين وغير المسلمين، ما أدى إلى خلق الملاحات المخصّصة لإقامة العنصر اليهودي في كل الحواضر المغربية، ما عدا في مدينتي آسفي وطنجة..
أما بالنسبة إلى اليهود الفاسيين، فقد كان الواجب الجديد الذي فرض عليهم السكن داخل أسوار الملاح في فاس الجديد، بدون شك، عقابا، حاول الكثير منهم الهروب من تطبيقه بالدخول في الإسلام بشكل استعجاليّ. تلك كانت الوسيلة الوحيدة لديهم للإفلات من فقدان أملاكهم العقارية ودكاكينهم التي كانوا يمتلكونها داخل فاس، والتي فُرِض عليهم بيعُها بأبخس الأثمان، إنْ هم أرادوا الحفاظ على يهوديتهم.. أكثرَ من ذلك فقد خشيّ عدد من التجار أن يفقدوا زبائنهم، الذين سيتخوفون اللحاق بهم إلى «الملاح»، البعيد عن فاس البالي.
تفسر هذه الاعتبارات الاقتصادية أنّ عددا من اليهود، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى الطبقات الغنية من الطائفة اليهودية، أنكروا دينهم بدل الإقامة في الملاح.
ويقدّر المؤرخون أنّ أعداد اليهود المتحولين إلى الإسلام هنا، أكثر من الأعداد التي أسلمت في العهد الموحّدي تحت حد السيف، فاليهود الذين دخلوا الإسلام عام 1439م أعطوا أصول أبرز العائلات المسلمة الفاسية، التي لم تتخلَّ عن أسمائها العائلية، بل طالما افتخرت بتلك الجذور اليهودية في انتسابها، مثل عائلة بنكيران، وبناني، وجسوس، وبنشقرون، وبنزكري... وهو ما خلق نوعا من التوتر الاجتماعي، ودفع إلى سنّ قوانين احتقارية تجاه هؤلاء المسلمين الجدُد، فانقسم الإسلام الفاسي إلى مجموعتين تفصل بينهما حدود مستترة، حدود يؤسّسها الأصل اليهوديّ لعدد من العائلات، تمنع عليهم الارتباط عبر الزواج من عائلات أخرى تنتمي إلى المجموعة الاجتماعية والاقتصادية نفسِها.
يقول الأستاذ الدبيش بخصوص إسلام اليهود في عهد المرينيين «كانت لدولة المرينيين سياسة مغايرة تجاه اليهود اللذين كانوا يملكون المال على اعتبار اشتغالهم في مجال الصيرفة أو مجال الحلي وصناعة الذهب، واعتمدوا في الكثير من الأحيان على تلك المجالات الاقتصادية، وخلال حكم المرينيين كان المشكل مع اليهود مرتبطا بمشكل التعامل مع الذمي الذي يجب أن يخضع لمنطق الجزية من باب الشرع، ولهذا كان طبيعيا أن يعمد اليهود اللذين كانت لهم ارتباطات مالية وسياسية بالدولة المرينية إلى البحث عن مخرج يجنبهم أداء الجزية، مما يعني العيش في إطار «اقتصاد الريع» بمنظور ومعطيات المرحلة المرينية، أي التملص من الضريبة والاستفادة بما تجود به الدولة من امتيازات لفائدة بعض الفئات الاجتماعية ومن ضمنهم اليهود الذين كان بعضهم يشرف على تجارة بعض الملوك المرينيين إلى درجة تبوأ البعض منهم مرتبة حاجب للسلطان، وهذا ما أثار العديد من المشاكل مع المسلمين ودفعت الكثير ممن كانت لهم غيرة على الإسلام إلى الثورة على المرينيين والعصيان وتأليب الناس ضدهم، وهو ما دفعهم إلى البحث عن مخرج يجنبهم الوقوع في خلافات مع فئات كانت أكثر أهمية من اليهود خاصة الشرفاء..
ولأن المرينيين، يقول الدبيش، كانوا يبحثون عن مخرج من المأزق الذي تورطوا فيه مع اليهود، فكرت العديد العائلات اليهودية في دخول الإسلام، ليجنبوا أنفسهم فكرة الخضوع للجزية المفروضة عليهم في إطار ما هو شرعي، مع وجوب التأكيد على عدم وجود أي نص تاريخي يدعم هذه الفكرة، ومن هنا جاءت فكرة ابتداع وثيقة عدلية مؤرخة في سنة 701 للهجرة، وهي موجودة في الخزانة العامة بالرباط، وقد أكد بطلانها بعض علماء المسلمين في القرن السابع عشر الميلادي، وهي الوثيقة التي يدعي فيها كاتبها أنهم من يهود خيبر المعاهدين لرسول الله وأن الوثيقة هي وصية من النبي إلى خلفاء المسلمين أينما كانوا من أجل أن يأخذوا بعين الرحمة والشفقة اليهود فيعفوهم من أداء ضريبة الجزية، وهذا شكل من أشكال التملص الضريبي الذي ساد في ذلك الوقت..».
في أواخر العهد المريني، تبوأ «البلديون» مواقع مهمة في البلاط السلطاني، إضافة إلى تزايد نفوذهم الاقتصادي، يقول عبد الوهاب الدبيش بهذا الخصوص إن «اليهود في القرن 13 استمروا في الاستفادة من الدعم التي تقدمه الدولة، نظرا لقربهم الدائم من البلاط، وحتى المسكوت عنه في الدولة المرينية، أي تجارة المحرم والممنوع، كانوا هم المسؤولين عنه، خاصة أنه معروف عنهم التكتم المطلوب لمثل هذه المهمة.. وقد استمرت هذه العائلات على نفوذها السابق وبقيت تستفيد من ريع الدول المتعاقبة على حكم المغرب وفي التقرب من السلاطين وخدمتهم وفي الاستفادة مما تتيحه الدولة من امتيازات»..
وبالعودة إلى هذه الفترة الزمنية، خاصة في السنوات الأخيرة من حكم سلالة المرينيين، تشير المصادر التاريخية إلى أن هذه المرحلة ستعرف أوج صراع «البلديين» مع فئة الأشراف الذين أرادوا إبعادهم عن «القيسارية»، بدعوى ممارساتهم التجارية المشكوك في نزاهتها، خاصة بعد إصدار السلطان عبد الحق المريني مرسوما، قرر بموجبه أن يؤدي الأشراف الخراج سواسية بجميع التجار، بعد أن كانوا معفيين من أداء الضرائب، وهكذا سوف يدمج «البلديون» في الأنشطة التجارية داخل «القيسارية» وهو الأمر الذي لم يستسغه الشرفاء، الذين طلبوا من مزوار الشرفاء بفاس محمد الحافظ الجوطي بن علي بن عمران بطرد البلديين من القيسارية، التي لم يعودوا إليها حتى وصول الوطاسيين إلى سدة الحكم.
لكن، حادثة محاولة أحد «البلديين» وهو أحمد بن ابراهيم بن يحيى المكناسي فتح دكان للأثواب النفيسة، دفع بالتجار الشرفاء إلى تقديم عريضة إلى السلطان الوطاسي يبينون فيها بأن هؤلاء «المسلمون الجدد» ليسوا أشخاصا يمكن الوثوق بهم، بحكم «لجوئهم الدائم إلى الغش في حين أن القيسارية مكان للمارسة التجارة، من طرف الأشخاص المتدينين وذوي الفضل...»
وبعد استفتاء السلطان أحمد الوطاسي لمجموعة من العلماء، قام بطرد «البلديين» من القيسارية، رغم توفر فتوى مضادة تؤكد على عدم التمييز الشرعي بين المسلمين كيفما كانت أصولهم وطبيعتهم، من أشهرها فتوى عبد الواحد الونشريسي. كما يحكي صاحب «النصيحة» محمد ميارة المتوفى سنة 1662م قائلا: «إن كل المسلمين بما فيهم المهاجرون «البلديون» يجب أن يكونوا نزيهين في معاملاتهم، وكل من أبان عن من عدم الاستقامة، أو الرشوة داخل السوق سوف يعاقب أو يطرد بدون تمييز بين مهاجر وشخص آخر..»
إن واقعة الصراع حول النفوذ التجاري داخل «القيسارية، بين «الأشراف» و»البلديين» أبانت عن حقيقة التراتبية الاجتماعية داخل مجتمع فاس، خصوصا مع صعود سلالات تعتمد على الأصل الشريف في حكمها، وهي سلالة السعديين، ومن بعدها العلويين، وكذا توافد فئة «الأندلسسين» التي أرادت بدورها تأسيس مكانة اجتماعية واقتصادية تنزع للهيمنة. وأمام هذه التحولات كان لزاما على «البلديين» البحث عن موارد رمزية للسلطة إلى جانب مقدراتهم الاقتصادية، فعملوا على هذا المنوال، وأعطوا قيما كبرى لشعائر الدين والقيام بأعمال البر، كما نبغ العديد منهم في العلوم الشرعية وأنجبت فئتهم العديد من مشاهير العلماء، مثل «أبي العباس أحمد المنجور» الذي كان فقيها وأستاذا للعلوم العقلية بفاس، حدث وأن عينه أحمد المنصور لإمامة الناس، فقام القاضي الحميدي بمنعه من ولوج المحراب، لكن السلطان طلب منه أن يسمح له بالدخول قائلا :»اتركه لأنه أكبر منك علما» فأجابه القاضي «إذا كان علمه قد دفع به نحو الأمام فإن أصوله تضعه في أسفل الدرجات» كما يحكي عن ذلك الإفراني في «نزهة الحادي».


أعد الملف - قسم التحقيقات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.