في رفضه الاعتراف بخطوط الخامس من حزيران يكون ميتشل قد انحاز إلى الجانب الإسرائيلي، وأعفاه من أعباء تفاوضية، وفتح له الباب ليواصل بناء »الجدار» والإدعاء بأن القدس هي عاصمة إسرائيل وليست مدينة محتلة. في تسعينيات القرن الماضي، وفي إحدى جولاته على العواصم العربية في إطار »رعاية» العملية التفاوضية، أبلغ أحد وزراء الخارجية الأميركيين القيادة السورية بأن واشنطن لا تعترف بخطوط الرابع من حزيران (67) لأنها لا تشكل حدوداً دولية، فضلاً عن أنه يستحيل إعادة رسمها بدقة، وبالتالي يستحيل الوصول مع تل أبيب إلى اتفاق حول الانسحاب إلى هذه الخطوط. وقدم الدبلوماسي الأميركي بالمقابل اقتراحاً بالانسحاب الإسرائيلي حتى »الحدود الدولية» بين سوريا وفلسطين (قال إسرائيل). ونظرة إلى الخارطة تبين الفارق الكبير بين الحدود الدولية وبين حدود الرابع من حزيران، من حيث المساحة والموقع الاستراتيجي، بما في ذلك حق سوريا في العودة إلى شاطئ بحيرة طبريا. الرد السوري كان واضحاً حين أكد أن الانسحاب يجب أن يكون إلى حدود الرابع من حزيران، إذ من غير الجائز دولياً الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، أما رسم هذه الحدود فإن دمشق على ثقة أن الأقمار التجسسية الأميركية التقطت لهذه الحدود آلاف الصور التي بإمكانها أن تشكل مرجعا للعملية التفاوضية وللانسحاب الإسرائيلي المطلوب. الرد الأميركي بقي على تعنته وملخصه إن حدود الرابع من حزيران 67 ما هي إلا حدود وهمية لا تشكل أساساً صالحاً للمفاوضات. وبناء عليه ما زالت المفاوضات بين دمشق وتل أبيب مجمدة لأن سوريا رفضت سابقة كامب ديفيد المصرية، ووادي عربة الأردنية، اللتين قبلتا بانسحاب إسرائيل حتى الحدود الدولية وليس حتى حدود الرابع من حزيران. فبقي قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبقيت أربع مستوطنات إسرائيلية مقيمة في القاطع الأردني بذريعة أنها مستأجرة من الأردن مقابل اتفاق مالي محدد. **** ما جرى مع دمشق، وقبله مع القاهرة وعمان، (مع اختلاف النتائج) يجري الآن مع الجانب الفلسطيني. فحين طالب الجانب الفلسطيني بالانسحاب الإسرائيلي حتى حدود الرابع من حزيران، مع الاستعداد لتبادل أراضٍ بنسبة 1.6٪ من مساحة الضفة الفلسطينية المحتلة عام 67 (بما فيها القدس) أجاب السيناتور جورج ميتشل، نيابة عن الجانب الإسرائيلي: أنكم تستبقون العملية التفاوضية حين تطالبون بالانسحاب حتى ما تسمونها حدود الرابع من حزيران. علماً أن هذه الحدود غير معترف بها دولياً بل هي خط هدنة فرضته ظروف الحرب ولا قيمة قانونية له. لذلك نعتبر هذا الخط حدوداً وهمية لا تشكل أساساً للعملية التفاوضية. الرد الفلسطيني جاء على الشكل التالي: وعلى أية أسس نتحدث حين نقترح مبدأ الأراضي ونحدد نسبة الأرض الممكن تبادلها إذا لم تكن على أساس من حدود الرابع من حزيران 67. (طبعاً كان بإمكان المفاوض الفلسطيني أن يدعو، رداً على الكلام الأميركي إلى العودة إلى ما يمكن أن نسميه »حدوداً دولية» كما رسمها القرار 181، والتي تجاوزتها إسرائيل في أعمالها الحربية ضد الفلسطينيين ووسعت المنطقة التي استولت عليها لإقامة دولتها بموجب القرار الظالم 181. إن خطورة الكلام الأميركي يمكن أن تتمثل في أكثر من جانب: الجانب الأول هو الانحياز الأميركي السافر للجانب الإسرائيلي. وقد كشف ميتشل بملاحظاته أن الولايات المتحدة ما زالت تتبنى مواقف الجانب الإسرائيلي ومصالحه على حساب ليس فقط مصلحة الفلسطينيين، بل وكذلك مصالح العرب دون استثناء. وما زالت إدارة أوباما، رغم محاولاتها لتجميل الوجه الأميركي البشع، وتخفيف ملامح اللؤم والخبث فيه، تتبنى الإستراتيجية الأميركية نفسها القائلة بضرورة تفوق إسرائيل على العرب أمنياً (من خلال ترسانة الأسلحة الأميركية المفتوحة في خدمة الجيش الإسرائيلي) وسياسياً من خلال تبني مواقف إسرائيل التفاوضية، والدفاع عن تل أبيب في المحافل الدولية، بما في ذلك حين تكون الدولة العبرية متورطة في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بشهادة المنظمات العالمية المحايدة، واقتصادياً (من خلال ضخ المساعدات على اختلاف أنواعها إلى الخزينة الإسرائيلية )وثقافياً( من خلال اعتبار إسرائيل جزءاً مما يسمى بالديمقراطية والحضارة الغربيتين)، وما قام به ميتشل في تبليغ الرئيس عباس عدم اعتراف الولايات المتحدة (مجدداً) بحدود الرابع من حزيران، يكون قد أعفى الجانب الإسرائيلي من جولات تفاوضية كان يمكن لها أن تخصص لبحث هذه المسألة، للبث في وجود أو عدم وجود خطوط الرابع من حزيران أي بتعبير آخر، ما قام به ميتشل، يشبه ما تقوم به كاسحة الألغام حين تفتح الطريق أمام الهجوم الساحق لسلاح الدبابات. الجانب الثاني هو أن الحديث عن التبادل وعن نسبة التبادل يصبح أمراً شديد الغموض. ففي الوقت الذي يتحدث فيه المفاوض الفلسطيني عن التبادل، ويرسم نسبة لهذا التبادل، فإنه ينطلق من أن هناك أرضاً محتلة لها حدودها، ولها مساحتها، المعترف بها مسبقاً وعلى هذه القاعدة يكون قد وضع النسبة. وعندما يرفض ميتشل (نيابة عن نتنياهو) الاعتراف بحدود الرابع من حزيران (أي الاعتراف بحدود الأرض المحتلة ومساحتها) تكون النسبة هنا بمثابة لغم سوف ينفجر بين يدي المفاوض الفلسطيني إن هو رضخ للضغط وقبل بالتفسير الأميركي لمسألة الحدود ومسألة الأرض المحتلة. الجانب الثالث هو أن رفض الجانب الأميركي (نيابة عن نتنياهو) الاعتراف بحدود الرابع من حزيران، يعني، فيما يعنيه، أن ثمة »حدوداً» أخرى، هي الماثلة في ذهن الجانب الأميركي وعقله، والبديل، كما هو معروف، هو جدار الفصل والضم العنصري، الذي التهم مساحات شاسعة من أراضي الضفة، ومرشح لأن يلتهم المزيد منها، بما في ذلك منطقة الأغوار (سلة الغذاء الفلسطيني) الأمر الذي يعني أن الجانب الإسرائيلي، مدعوماً من ميتشل، يلجأ إلى الإجراءات الأحادية، المتفق على عدم اللجوء إليها مبدئياً(!) قبل المفاوضات، لتتحول هذه الإجراءات ونتائجها إلى الأساس التفاوضي. وهكذا في الوقت الذي يرفض فيه ميتشل الدعوة الفلسطينية للانسحاب نحو حدود الرابع من حزيران 67 باعتبارها استباقاً للمفاوضات، يوافق على أن يستبق الجانب الإسرائيلي هذه المفاوضات، عبر تشجيعه على إقامة »الجدار»، وتوسيع الاستيطان، وعبر إبقاء »الأساس الجغرافي» للمفاوضات، هو الآخر، موضوعاً تفاوضياً، وليس مرجعية من مرجعيات العملية التفاوضية. **** يدور هذا السجال بين الجانبين الأميركي والفلسطيني، قبل أن تبدأ المفاوضات المباشرة وقبل أن يتم الإعلان الرسمي عن انتهاء المفاوضات غير المباشرة. الجانب الفلسطيني يشكو من أن الفريق الإسرائيلي المفاوض لم يقدم شيئا للمفاوضات غير المباشرة، ولم يعلق ببنت شفة على الورقة التي قدمها الرئيس عباس إلى الرئيس أوباما حول رؤية الجانب الفلسطيني للعملية التفاوضية وبنودها والاقتراحات الخاصة بكل بند. حتى أن بعض أعضاء الفريق الفلسطيني المفاوض شعر بمدى الإذلال الذي يتعرضون له على يد الثنائي الأميركي الإسرائيلي، فانفجروا غاضبين يتساءلون (بسذاجة مفرطة) لماذا يأبى الجانب الإسرائيلي تقديم اقتراح بشأن الحدود بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. وواضح من خلال هذه الوقائع أن الجانب الإسرائيلي أفرغ المفاوضات غير المباشرة من مضمونها، وحولها إلى ستار، استكمل خلفه توسيع المستوطنات داخل القدس وفي محيطها، وهدم أكثر من منزل فلسطيني ليقيم بدلاً منه منازل للمستوطنين اليهود. كما هو واضح أيضاً، من خلال الوقائع أن الدعوة مجرد الدعوة للمفاوضات المباشرة من شأنها أن تفرض على الجانب الفلسطيني تنازلات جوهرية وخطيرة أهمها إسقاط حدود الرابع من حزيران، واستتباعاً لهذا الإسقاط، تخرج القدس المحتلة وتخرج الأرض المحاصرة خلف »الجدار» من العملية التفاوضية. وحين يتم التحضير للمفاوضات المباشرة بهذا الكم الكبير والخطير من التنازلات الجوهرية (وكلها تتعلق بالأرض التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية، وكلها تعنى المزيد من المهجرين واللاجئين الفلسطينيين)، فإن هذا معناه أن ما تحمله العملية التفاوضية في ظل موازين القوى الحالي، هو أكثر خطورة مما يدور الآن خلف الكواليس الأمر الذي يدفع مرة أخرى للسؤال عن جدوى هذه المفاوضات، وعما إذا كانت المفاوضات وسيلة الوصول إلى الأهداف الوطنية الفلسطينية أم أنها هي تحولت إلى هدف بحد ذاته، تعقد لذاتها، وليس لخلاص الشعب الفلسطيني من الاحتلال والاستيطان. إنها فرصة أخرى ليعيد الفريق الفلسطيني المفاوض حساباته، وخياراته، لأن المقدمات التي باتت واضحة تنبئ منذ الآن بأن ما هو مقدم عليه، لن يكون سوى دوامة يديرها الجانبان الإسرائيلي والأميركي مستغلين اختلال ميزان القوى لصالحهما، ومستغلين في الوقت نفسه أن الفريق الفلسطيني حصر خياراته كلها في خيار وحيد هو المفاوضات. وهذه واحدة من خطاياه الكبرى الواجب عليه التراجع عنها.