حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    قيوح يشرف على تدشين المركز اللوجيستيكي "BLS Casa Hub" بتيط مليل    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التراث بين الأصالة والتجديد
نشر في بيان اليوم يوم 28 - 04 - 2013

بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المفكر والمناضل اليساري المغربي عبد السلام بورقية، والتي حلت أمس الجمعة 26 أبريل، عثرت بيان اليوم على وثيقة هامة تعد من الأدبيات التي خلفها الراحل والتي ساهم بها في تأطير الفكر الثقافي والسياسي ببلادنا، وهي نص العرض الذي قدمه الراحل عبد السلام بورقية في المناظرة الفكرية الدولية التي نظمها «منتدى فكر وحوار» حول التراث والعمل السياسي، أيام 25-26 و27 نونبر من سنة 1982.
أيها الإخوة الأعزاء،
سيداتي وسادتي الأفاضل
لقد أبى منتدى فكر وحوار، الذي عودنا على عقد ندوات تتناول بالدرس والبحث قضايا هامة تمس ميادين مختلفة من سياسة وفلسفة وثقافة، ندوات تحضرها شخصيات عربية من رجالات الفكر والسياسة والعلوم.
أبى إلا أن يخصص ندوتنا هذه لمشاكل التراث.
ولقد أوفدني حزبي، حزب التقدم والاشتراكية، إلى المشاركة في هذه الندوة، اقتناعا منه بأن اجتماعا من هذا القبيل، نظرا لموضوعه ونظرا للشخصيات المساهمة فيه، سيأتي لا محالة بالجديد أساسا تراثنا المغربي وإلى تراثنا العربي.
وإني إذ أشكر الأخوة أعضاء مكتب منتدى فكر وحوار على مبادرتهم هذه، وعلى دعوتهم لنا، أقدم تحيات حزبنا الحارة والصادقة إلى الأخوة الذين جاؤوا من مختلف الأقطار العربية الشقيقة ليتناقشوا ويتناظروا معنا.
أيها الإخوة،
أود أن أشير في البداية إلى أنني سأعالج الموضوع لا بصفتي فيلسوفا ولا منظرا ولا مؤرخا ولا عالما في العلوم التراثية، ولكن بصفتي مناضلا مسؤولا في حزب تقدمي يعتبر التراث إنتاجا حيا يتحرك بدون توقف، ويوجد في صراع دائم ما بين القدم والجدة، والرجعية والتقدم والسلب والإيجاب. يأخذ من تراث الغير ويتأثر منه ويعطي لتراث الغير ويؤثر فيه.
وعليه، فإن عرضي هذا سيتضمن بإيجاز وجهة نظرنا في التراث ومفهومه، وكذا الصراع الذي يدور حوله، ثم العلاقات القائمة بين التراث والنشاط السياسي الذي نقوم به في مختلف الميادين.
مفهوم التراث
أيها الإخوة الكرام،
قبل التطرق إلى أي شيء من الأشياء يريد المرء أن يتناوله بالبحث، فلا بد له قبل الشروع في بحثه أن يحدد ذلك الشيء تحديدا دقيقا قدر المستطاع، أو أن يحاول على الأقل أن يقترب من ذلك التحديد.
وعليه، فالسؤال المطروح علينا هنا ما هو التراث؟ ما معناه ومضمونه؟
سؤال لابد من الإجابة عليه، لأن الجواب هو الذي سيوضح لنا معالم طريق البحث أولا ثم الاستنتاجات التي يسمح لنا البحث بالوصول إليها.
فبدون الإجابة على هذا السؤال بدقة سوف لا ندرك بوضوح موضوع العلاقات القائمة بين التراث والعمل السياسي، ولا نرى الخيوط التي تربط بين أطراف الموضوع المقترح علينا.
أيها الإخوة،
إن كثيرا من الناس يضيق وسعا لما يحبس التراث في مفهوم ضيق أو في دائرة مغلقة.
إنه لا يعني بالنسبة لهم سوى الثقافة والفلكلور في بلد ما أو في مجتمع ما.
فعلا إن الثقافة والعلوم والفنون الشعبية هي التراث كله. لكنها ليست التراث كله. بل إنها فقط جزء من كل أشمل وأعم.
فالتراث هو كل ما تركه لنا الآباء والأجداد خلفا عن سلف طيلة قرون وأجيال. ويصفه البعض أنه هو كل حدث أو أثر أو إنتاج إنساني داخل الماضي وأصبح جزءً منه.
وهذه التركة هو الوطن الذي نعيش فيه، والأرض التي نحرثها لنخرج منها تغذيتنا، وهو الماء الذي نشربه، وهي مختلف الثروات التي تحتوي عليها البلاد برا وبحرا.
وهي اللغة التي نتحدث بها، وكل القيم الروحية والمادية ونمط العيش والحياة، وهي أشكال الألبسة والأواني والهندسة. وهي التقاليد والعادات إلى غير ذلك من الأشياء الأخرى التي أصبحت جزء لا يتجزأ من تاريخنا.
التراث شيء حي
وهذا التراث ليس بشيء جامد. بل إنه ككل شيء حي يتحرك ويتبدل باستمرار، جزء منه يتلاشى ويضمحل، وجزء ثان تدخل عليه تغيرات مع مرور الأحقاب وتطور حياة الناس، وجزء ثالث يولد وينمو حسب حاجيات الناس ورغباتهم وما يكتشفون من أشياء مجردة أو ملموسة.
حقا إن هناك جوانب من التراث تبقى قارة ودائمة نسبيا مثل الوطن بأرضه وحدوده، لكن مفاهيم هذه الأشياء نفسها تتغير. فإذا أخذنا مفهوم الوطن مثلا نلاحظ أنه لم يكن عند أسلافنا يخرج عن دائرة القبيلة أو الناحية. والوطنية عندهم كانت نابعة أساسا من وازع ديني محض، تارة تحركها نزعة شوفينية، والنضال الوطني ضد المحتلين كان يعني الجهاد في سبيل الله، يحركه رؤساء الزوايا وأصحاب الطرق.
وأما اليوم فمفهوم الوطن أصبح يشمل سائر التراث الوطني، والوطنية صارت لا تتنافى عندنا مع الأممية ولا تتناقض مع روح التضامن مع الشعوب الأخرى والتعاون معها.
العام والخاص في التراث
من البدهي أن نقول إن لكل بلد تراثه، غير أنه يمكن لجوانب من التراث أن تكون مشتركة وإن لم تكن مشتركة فيمكن أن تكون متشابهة أو متقاربة. فالأقطار العربية، من المحيط إلى الخليج رغم شساعة المسافة التي تفصل بين بعضها البعض، لها جوانب تراثية تتجلى في اللغة والشعر والآداب والفنون وبعض العادات وفي العقيدة وفي نوعية التفكير.
كما أن للبلدان الإسلامية جوانب تراثية مشتركة أو متشابهة تتبلور في القيم الروحية والثقافية وفي بعض التقاليد.
ومع ذلك يظل كل بلد، منفردا بطابعه التراثي الخاص داخل هذه المجموعة من البلدان التي تجمعنا وإياها روابط شتى.
فللمغرب لهجته الدارجة التي تختلف عن الدارجة في الشام والعراق والسودان مثلا، ولو كانت منحدرة من أصل واحد، وجوه الاختلاف توجد نسبيا حتى بين الدارجة في المغرب والدارجة في الجزائر وتونس.
وإلى جانب اللسان المغربي الدارج توجد اللغات الأمازيعية ونعني بها أساسا تمازيغت وتشلحيت وتريفيت كما توجد اللغة العربية.
فتريفيت تشمل المنطقة الواقعة من شرق غمارة إلى قبائل بني يزناسن، وتمازيغت تعم منطقة تمتد من أبواب الرباط (زمور) إلى الأطلس بالإضافة إلى قسم من درعة وتافيلالت. وأما تشلحيت فتستعمل في سوس والأطلس الكبير.
وعندما نتحدث عن هذه اللغات فلابد من الإشارة إلى أن برنامج حزبنا الذي صادق عليه المؤتمر الوطني الأول في شهر فبراير 1975 يقول: إن إزالة الاستعمار الثقافي يجب أن تقوم على الأصالة وعلى التشبث بالتراث الوطني وعلى المساهمة التقدمية الهائلة التي ساهمت بها الحضارة العربية الإسلامية في الثقافة الإنسانية. كما يجب أن تقوم أيضا على التمسك بالثقافة الوطنية بصفتها خلاصة تاريخية ناجمة عن المساهمة المختلفة التي ساهم بها السكان الذين اندمجوا في الأمة المغربية، والتي طبعتها بطابع خاص لا جدال فيه. وفي هذا المضمار فإن ما أتت به اللغات الأمازيغية والثقافة المنحدرة منها ينبغي تقييمه من جديد بعد تجريده من كل فكرة إقليمية ضيقة ومن كل رواسب النفوذ الإقطاعي والاستعماري.
فهذه اللغات الأمازيغية التي يتكلم بها جزء كبير من شعبنا يجب الاعتناء بها وتدريسها على الصعيد الجامعي، كما يجب جمع كل الكنوز الثقافية التي تحتوي عليها في باب الآداب والقصة والشعر والفلكلور لحمايتها من الضياع.
وهنا لا بد أن نذكر أن مجلس النواب قد صادق سنة 1980 على قرار يقضي بتدريس اللغات الأمازيعية في كليات الآداب، قرار ظل منسيا إلى يومنا هذا.
وهنا نود أن نقول إنه من غير المعقول ولا المقبول أن تكون مؤسسات للبحوث الأمازيغية في فرنسا ولا يوجد ولو كرسي جامعي واحد في المغرب.
وكما أن للمغرب خصوصيته في الميدان اللغوي فله خصوصياته أيضا في الهندسة المعمارية واللباس والغناء والرقص والطبخ الخ... فالقصبة ومنارة المسجد والجلابة والبلغة وأحواش والبسطيلة أشياء مغربية صرفة.
هذا وحتى داخل البلد الواحد وعلاوة على التراث المشترك بين سكانه، توجد خواص تراثية إقليمية ومحلية تنعكس في شكل اللباس والبناء والأهازيج الشعبية الخ...
معركة مستمرة بين السلبية والإيجابية
إن التراث، سواء فيما يتعلق بمفهومه الشامل أو بمضمونه أو بوجوهه المختلفة هو دائما موضوع صراع مستمر بين تيارات واتجاهات مختلفة.
فهناك أناس يريدون تراثا جامدا وساكنا، متشبثا بماض ولو كان حافلا بالأمجاد، قد تجاوزه التاريخ وقائما على أصالة سطحية تدير ظهرها للواقع، متزمتا وغير متفتح على حضارات وثقافات الغير.
وهناك من يرون عكس ذلك، أي تحطيم كل ما يتعلق بالماضي، حتى في إبداعه وإيجابياته، وباسم العصرنة والتجديد يحكم هؤلاء... بالعدمية على تراثنا وكنوزه الخالدة، ويلجؤون إلى التقليد الأعمى للأجنبي ثقافة ونمطا للعيش.
وهناك الذين يسعون إلى الارتكاز على الأصالة الحقيقية، التي تأخذ اللب وترمي بالقشور وعلى قيم تراثنا المادية والمعنوية والسليمة لجعله يساير روح العصر، والركب الحضاري، وأن ينفتح على ما هو إيجابي ونافع في الثقافات الأخرى.
ونحن كتقدميين نعمل على أن ينتصر هذا التيار، أي أننا نريد تراثنا عربيا ومغربيا أصيلا وبالتالي يؤدي دوره كاملا، بل سيصبح مكانه في المتاحف وفي رفوف خزانات تغطيها الغبار.
أيها الأخوة،
إن محاولة إرجاع عجلات التاريخ إلى الوراء باسم أصالة تجاوزتها الأحداث، ليس من شأنه أن يحل المشاكل المطروحة أمامنا اليوم.
لنأخذ نظام الحسبة مثلا لأن كثيرا من الكلام قيل فيه في المدة الأخيرة بالمغرب.
لا جدال في أن الحسبة مؤسسة تعتبر جزء من تراثنا العربي الإسلامي. لقد عرفته بغداد أيام العباسيين، وقرطبة أيام الأمويين، كما عرفه المغرب هو أيضا بعد الفتح الإسلامي.
إن نظام الحسبة كان يتلاءم مع نظام اقتصادي بسيط، يسيطر عليه الإنتاج الزراعي العتيق والصناعة اليدوية ووجود سوق داخلية ضيقة. أما اليوم ونحن نعيش في نظام رأسمالي تسيطر عليه الصناعة الكبرى والزراعة الممكننة وتجارة تقوم على التبادل مع الخارج، ووجود سوق داخلية واسعة ومتشعبة من حيث التوزيع والتسويق وضبط أسعار البضائع والسلع، فإن المحتسب أصبح عبارة عن شبح ليس في استطاعته أن يلعب دورا إيجابيا لا في تحديد الأثمنة ولا في مراقبتها، بل إن ذلك صار من اختصاصات الاقتصاديين المحنكين.
الأصالة والتجديد
أيها الإخوة،
إن المصلحين من أسلافنا قد أقدموا على تجديد التراث انطلاقا من الأصالة العربية الإسلامية، واجتهدوا وتركوا لنا الأبواب مفتوحة للاجتهاد. ولنا بعض الأمثلة:
الخوارج: بالرغم مما قيل في حق الخوارج فإنهم قالوا بالتعادلية على المستوى السياسي والاجتماعي، وكانوا يقولون إن وسيلة الإنتاج الأساسية حينذاك، وهي الأرض ملك للأمة جمعاء، ثم كانوا في ميدان الحكم ينادون إلى انتخاب أو تعيين الخليفة من بين أفراد الأمة، لا فرق بين عربي وعجمي، وبين حر وعبد، وبن قرشي وغير قرشي.
المعتزلة: وأما المعتزلة فكانوا يعتبرون رواد النظرية العقلية ويقولون إن العقل هو مصدر المعرفة. ولقد تأثروا كثيرا بالفلسفة اليونانية وبالأخص بالمعلم الأول وهو أرسطو.
القرامطة: وإذا نظرنا إلى القرامطة – بالرغم من كل الأوصاف التي وصفوا بها والاتهامات التي وجهت إليهم، كالزندقة والمروق والتحريف – فلقد كانت حركتهم تقوم على أسس إيديولوجية واضحة. وتلك الإيديولوجية تقول بترجيح العقل في التفكير، وعلى المساواة المطلقة بين الناس.
وكانت الجمهورية التي أسسوها في عمان واليمامة تصدر مقرراتها بالإجماع. وألغت الضرائب على الأرض وعلى الفلاحين الكادحين. وقال محمد عبد الفتاح في كتابه: «قرامطة العراق في القرنين والثالث والرابع الهجري»: «لعل ما يلفت النظر في تاريخ القرامطة هو ذلك النظام الاجتماعي الفريد الذي أقاموه بالعراق، وعاشوا في ظله متساوين متآلفين، وأصبح إخلاص الفرد في العمل وما يقدمه من خدمات للجماعات هو الذي يحدد مركزه بين أفرادها. واختفت الفوارق داخل هذا المجتمع خاصة وأن القرامطة كانوا يتعهدون بالإنفاق على جميع الأفراد بلا تفرقة ولا ميز».
وإذا نحن انتقلنا من الجماعات إلى الأفراد نرى أن هناك، شخصيات بارزة اجتهدت بدورها وجددت انطلاقا من التراث. ونخص بالذكر من تلك الشخصيات:
الكندي: المكنى بفيلسوف العرب، ومن جملة ما قال: «إن التراث الفلسفي إنتاج عالمي أسهم في صنعه مئات الألوف من العقول عبر القرون».
وأشهر الكندي حربا شعواء على الشعوذة والمشعوذين وشيوخ الضلال الذين كانوا يتخذون من الدين الإسلامي تجارة يتجرون بها.
الفارابي: صاحب «المدينة الفاضلة» قيل عنه إنه مؤسس الفلسفة العربية، وهو كذلك صاحب (وحدة الحقيقة) وهو من بدأ بلمس ظاهرة «صراع الأضداد» ومن الذين تحدثوا عن دوام المادة.
ابن سينا: الملقب بالشيخ الإمام، فهو صاحب الإدراك بقوة الإحساس وبقوة العقل، الإدراك العقلي النظري، العملي.
ابن رشد: بلغ القمة في استخدام العقل والعقلانية لبلوغ معرفة الكون والأشياء.
ابن خلدون: هو أب علم السوسيولوجية ورائد فلسفة التاريخ، هو من تكلم عن «فائض القيمة» وعن أن العمل والإنتاج هو أساس المجتمع.
وإلى جانب هؤلاء فهناك رجال الفلسفة الذين نقحوا التراث من كل الخرافات والخزعبلات، نخص بالذكر منهم: ابن حزم الأندلسي، وابن الجوزي البغدادي، وتقي الدين ابن تيمية الدمشقي.
ولقد تجسدت الفلسفة نسبيا في الحركة الوهابية بنجد والحجاز مع محمد بن عبد الوهاب.
وظلت سلسلة التجديد والاجتهاد مسترسلة إلى أن جاء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضى في المشرق العربي، والشيخ عبد المجيد بن باديس بالجزائر، والشيخ بن عاشور في تونس، ومحمد العربي العلوي والأستاذ علال الفاسي في المغرب.
إن هؤلاء المجددين لعبوا دورا كبيرا في محاربة الخرافات والأضاليل والشعوذة الدينية والبدع المختلفة التي كانت عالقة بالدين الإسلامي وبالتراث.
وبالإضافة إلى ذلك أدى هؤلاء المجددون دورا كبيرا في توعية الجماهير بأمور دينها ودنياها وكانوا من رواد الحركات الوطنية ومحاربة الاستعمار في كل من المشرق العربي والمغرب العربي.
الثقافة للجميع
أيها الإخوة،
إن هذه الأصالة المتجددة انطلاقا من اجتهاد جماعي وفردي عبر القرون والأجيال، وهذه التيارات المتصارعة في ميدان التراث، بين الإيجابية والسلبية، وبين القدم والجدة، تؤدي بنا إلى القول بأن هناك صراعا آخر يدخل هذه المرة في نطاق الصراع الطبقي العام.
وهذا يعني وجود طائفة تريد أن يبقى التراث الثقافي والعلمي مقتصرا على جماعة قليلة العدد، تنفرد بالاستفادة من المزايا والمناصب التي تخول إلى النخبة المحظوظة في بلد يعرف الروح الطبقية مثلها في ذلك مثل الرأسماليين الذين يريدون البقاء على نظام يضمن لهم الأرباح الطائلة على حساب الجماهير الكادحة.
وفي المواجهة الأخرى هناك طائفة أخرى تعمل على أن تعم الثقافة أوسع الجماهير الشعبية، وأن ينتشر العلم في صفوف المواطنين، وأن تنمحي الأمية التي لازالت سائدة بين الملايين من المغاربة أطفالا وشبابا، رجالا ونساء.
إن متطلبات العصر أصبحت اليوم لا ترحم وهي لا تتردد في عصر التكنولوجيا وغزو الفضاء الكوني في أن ترمي بالشعوب الأمية الجاهلية إلى هامش البشرية وإلى خارج التاريخ المعاصر.
من خلال هذا المفهوم الواسع للتراث، ومن خلال الصراع الفكري والطبقي الجاري حوله، ومن خلال الاتجاهات الإيدلوجية المختلفة التي يعرفها، من خلال ذلك يتحدد موقع كل طائفة من المعركة الجارية ويتحدد بالتالي نوع العمل السياسي الذي تقوم به هذه الفئة أو تلك في الميدان التراثي، انطلاقا من موقفها منه، وبحكم وجهة نظرها فيه إيجابا أو سلبا.
كل الأنشطة لها صلة بالتراث
من هذه النظرة إلى الموضوع الذي نحن بصدده في ندوتنا، يتبين لنا بأن الأمر لا يتعلق فقط بالاستيحاء من تراثنا أو انطلاقا منه أو الارتكاز عليه، نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول إن جميع الأنشطة التي نقوم بها على كافة الأصعدة لها علاقة، إما مباشرة أو غير مباشرة، بالتراث وتسبح في فلكه وتعتبر في الواقع عملا سياسيا يرتبط بتراثنا بمعناه الواسع ولندقق ما نقول:
سبق لنا أن قلنا إن الوطن هو جزء لا يتجزأ من التراث، وعليه فإن الشعب المغربي عندما كان يكافح من أجل تحرير وطنه من ربقة الاحتلال الاستعماري كان في الواقع يقوم بعمل سياسي من أجل الحفاظ على تراثه أرضا ولغة وثقافة واقتصادا.
ولما كان شعبنا يطالب بتحقيق الوحدة الترابية وإعادة الصحراء المغربية إلى الوطن الأب فكان بنضاله هذا يقوم بعمل سياسي أساسي دفاعا عن تراثه، وكذلك الشأن لما نطالب بسبتة ومليلية والجزر.
وعندما نطالب بحق جميع المواطنين في التعليم على جميع مستوياته فإننا نقوم بعمل سياسي يتصل مباشرة بالتراث ثقافة وعلما ومعرفة.
وخلاصة القول فإننا كلما قمنا نناضل سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو ثقافيا في موضوع ما، فإننا عمليا لا نخرج عن صميم تراثنا الوطني، وترسيخ جذوره وإغنائه في سائر الميادين بصفته تراثا شعبيا يهم كافة المواطنين في بلادنا.
هذه بإيجاز وجهة نظرنا وهي لا تتجاوز رؤوس أقلام نطرحها أمامكم للتفكير والمناقشة، كمساهمة في موضوع واسع، نأمل في أن توليه ندوتنا هذه ما يستحق من عناية واهتمام، وأن تنهي أشغالها برؤية واضحة من شأنها أن تجعل التراث المغربي والعربي قادرا على أداء رسالته كاملة في المعركة العامة التي تقوم بها الأمة العربية في وقتنا هذا من أجل الحرية والكرامة والتقدم.
وشكرا لكم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.