كلنا شركاء ربما من وجهة نظر ماركسية يمكننا القول إن الثورة السورية بشكل عام هي ثورة فقراء مقموعين بدأت في درعا وامتدت بعدها إلى ريف وضواحي ومدن حلب وأدلب وحماه وديرالزور وحمص ودمشق، وهكذا يمكننا فهم تأخر طبقة أغنياء المدن المستفيدة من النظام عن المشاركة في هذه الثورة. لكن هذه القراءة الطبقية للثورة السورية تقف عاجزة أمام فهم الموالاة العمياء والمطلقة لنظام الحكم الديكتاتوري في سوريا عند شريحة معينة من الشعب السوري وفي بعض المناطق المعينة. وأكثر ما يثير الدهشة هو أن معظم هذه المناطق وتلك الشريحة الموالية هي من الطبقات المُهمّشة الفقيرة وبشكل عام غير المستفيدة لا ماديا ولا سياسيا من هذا النظام. لماذا بعض الفقراء الغير مستفيدين أبداً من النظام السوري لا (و بل بالعكس هم أحد ضحاياه) يدافعون عنه؟ كيف لمغترب ترك بلاده هرباً من الفقر أن يدافع عن من هجّره؟ لماذا قسم من هؤلاء الموالين كانوا ناقدين لاذعين للنظام بل حتى معارضين له أحياناً قبل اندلاع الثورة السورية وتحولوا لمدافعين عنه بعد اندلاعها؟ لماذا يتكلم بعض الموالين للنظام السوري عن شخصية الرئيس كما لو أنهم يتكلمون عن بطل مسلسل تركي أو مكسيكي تربطهم به علاقة عشق خاصة؟ هل يمكن لمن يملك إحساساً وعقلاً أن يُصدق الإعلام السوري الرسمي؟ للإجابة على هذه الأسئلة وفهم ظاهرة التأييد الأعمى للطاغية أو ظاهرة «المنحبكجي» كما يسميها السوريون، ربما يلزمنا تحليلٌ نعتمد فيه على بعض المفاهيم في علم النفس الاجتماعي معتبرين الفرد في آن معاً «منفعلاً» خاضاً لظرفه الاقتصادي، السياسي،»و التاريخي, و»فاعلاً» يعي ويدرك ويستجيب لمثيرات خارجية مستخدماً استراتيجيات سلوكية ودفاعية شعورية ولا شعورية (كاميليري، 2000). ومن هذا المنطلق يمكننا الحديث عن أربعة دوافع تؤدي بهذه الشريحة من الناس الغير مستفيدة أبداً من النظام لاتخاذ موقف مؤيد له. أولاً: التماهي بالمعتدي عندما يعيش الإنسان حالةً من القمع والقهر لفترة زمنية طويلة ولا يستطيع في نفس الوقت الدفاع عن نفسه (حالة رضوخ) تتشكل لديه صورة سلبية عن ذاته، هوية فردية مُهانة ومُهينة له (حالة تبخيس ذاتي). للهروب من هذه الحالة يبحث الفرد عن آلية للدفاع عن نفسه ورفع مستوى التقدير الذاتي المنخفض لديه. ومن الآليات المعروفة للدفاع عن الأنا المجروحة هي التماهي بالمعتدي (آنا فرويد، 1936)، هذه الآلية اللاشعورية تساعد الإنسان المستعبد على استعادة بعضٍ من اعتباره الذاتي المهدور. بشكل أدق، التماهي بالمعتدي يعطي الفرد شيئاً من وهم الاعتبار الذاتي، إنه نوع من الهروب من واقع مؤلم، فبالتمجيد والتقديس والتوّحد مع الطاغية يُوهم الفرد نفسه أنه لا يوجد ظلم ولا اعتداء عليه ونتيجة حالة النكران هذه لواقعه المرير يشعر بنوع من الرضى الذاتي ويعتقد أنه يقترب من نمط القوة السائد. ينتج عن هذه الآلية النفسية أيضا حالة من الحيرة بين الإعجاب والخوف من الطاغية تجعل الفرد متردداً في أن يكرهه أو حتى يقبل أي نقد له ولذلك يوجه كل اللوم إما إلى نفسه أو إلى من يريد مساعدته للتخلص من حالة العبودية والقمع (كعبارة «نحن شعب لا تليق بنا الحرية»), فالمتماهي بالطاغية لا يرى فيه أي ميزة سيئة ولا يقبل أن يُقال عنه أي شيء سلبي من قبل الآخرين وهذا ما يمكن أن يفسر لنا الدفاع المستميت عن الديكتاتور عند هذه الشريحة المؤيدة له. وكلما زاد الطاغية في قمعة وإجرامه وامتهانه للكرامة, كلما زاد المؤيد له اعجاباً به وزادت معه حالة الاستزلام التي يمارسها على الآخرين ليخفي خوفه وليهرب من حقيقة الذل اليومي التي يعيشها، وهنا ينتقل المقموع من حالة «التماهي بالمعتدي» إلى حالة «التماهي الإسقاطي» حيث يصبح الديكتاتور موضع حب وعشق وتقدير.. فهو المخلّص والمنقذ الإلهي.. وذلك ما تلخصه حال بعض الموالين الذين يتفاخرون بتذللهم وعبوديتهم وحبهم للديكتاتور من خلال شعارات «منحبك» و»محل ما بتدوس منركع ومنبوس» وغيرها الكثير. يُعتبر التماهي بالمعتدي من أقوى عوامل مقاومة التغيير والتحرر في المجتمعات النامية كما يقول مصطفى حجازي (1981). ثانياً: الخوف من المجهول بشكل عام، الإنسان يخاف من المجهول وأي ثورة هي تغيير جذري لواقع معاش وهذا مقرون دائما بالمجهول والغموض وعدم معرفة تماماً ماذا سيحصل. الخوف من الغموض والفوضى نابع من الشعور بعدم القدرة على التوجه وضبط الأحداث واختلاط الأمور، وهذا ما يؤدي إلى الإحساس بعدم الأمان وبالضياع (فيسك، 2008). إن أي تغيير بالنسبة لواقع المؤيدين للنظام السوري سيكون، طبعاً برأيهم، نحو الأسوأ وهذا ما يفسر ترديدهم عبارة «يعني الجاي راح يكون أحسن؟» وهذا طبعاً اعتراف ضمني منهم بأن النظام الحالي سيء ولكنهم يخافون الأسوأ. إن الحاجة للأمان هي ثاني الحاجات الإنسانية في سلم أبراهام ماسلو (1943) الشهير وهي تأتي بعد الحاجات الفسيولوجية الأولية وقبل حاجات الحب وتقدير الذات وتحقيق الذات والحاجات المعرفية. وهذا ما أدركته تماماً الأنظمة الديكتاتورية عندما لجأت للمعادلة الشهيرة «الحرية أو الأمان»، فأشاعت وبطريقة ممنهجة الفوضى والجريمة عندما انتفضت عليها شعوبها. فبعض الناس يتخلى عن حاجة التقدير والإحساس الإيجابي بالذات لصالح الشعور بالأمان، وهذا ما يفسر لنا أن جميع المؤيدين لنظام الحكم في سوريا تقريباً, يتغنون بالأمن والأمان الذي كان موجوداً بالنسبة لهم قبل بدأ الثورة ويلعنون الحرية. طبعاً في أعماقهم هم يدركون أنه أمان زائف ومقرون بالخنوع والخضوع ولكنه يبقى أفضل من الفوضى بالنسبة لهم. ثالثاً: الخوف من الحرية والمسؤولية قيل قديماً إن الإنسان عدو ما يجهل. ومن عاش في ظل نظام ديكتاتوري شمولي لما يزيد عن الأربعين سنة، يجهل تماماً معنى الحرية وقيمتها. ليس من السهل بالنسبة للبعض الانتقال من حالة الاستبداد والعبودية إلى حالة الحرية والديمقراطية، فمن كثرة تعودهم على الرضوخ والخنوع أصبحوا ينكرون طعم الحرية ويعادوها. فالحرية مسؤوليةٌ وعملٌ واستقلاليةٌ، أما العبودية فهي اتكاليةٌ وراحةٌ. الفرد المُستَعْبَدْ يتماهى بالمُستَبِد ويعتبره المنقذ الوحيد له ويتكل عليه من خلال علاقة تبعية تملكيه سواءً كان هذا المستبد زعيماً سياسياً، أو ديكتاتوراً، أو رب أسرةٍ، أو أستاذ مدرسةٍ، أو رجل دينٍ، أو كبير العائلة. الحرية تحتاج لكل طاقات الفرد وإمكانياته؛ ولذلك يخاف البعض منها لا بل ويقف ضدها ويقرنها بالفوضى ويُعادي من يُريد تحريره. وهذا ما يفسر لنا تلك العبارة التي يرددها المؤيدون وبعدوانية لا مثيل لها «هي هي الحرية اللي بدكن ياها» وكأنهم يريدون أن يقولوا «الحرية مشكلة بالنسبة لنا وخطر علينا لا نريدها». المُستعبَدُ الذي قبل حالة الرضوخ والخنوع يخاف من الحرية, وإن أخذ حريته فجأة يفقد توازنه وتختل بنيته النفسية وللوهلة الأولى لا يعرف ما يفعل بها ولا كيف يتصرف أو يمشي في الشارع, وكأنه كالشارب حتى الثُمالة قد يسقط في أي لحظة, ويلزمه بعض الوقت ليستعيد توازنه ويتأقلم من جديد مع الحالة ليصبح فرداً مسؤولاً عن نفسه لا يقبل أن يُفكر الآخرون عنه. رابعاً: الطائفية وفوبيا الإسلام السني أي ملاحظة موضوعية للمناطق الثائرة ولموقف المؤيدين من الأقليات ستقودنا إلى استنتاج هام، ألا وهو أن النظام السوري ربح في لعبة الطائفية ونجح في تحريك اللاشعور الجمعي عند الأقليات فحيّدها عن الثورة، بل واستثار عدوانيتها تجاه الشعب الثائر (نوعاً ما يمكننا استثناء مدينة سلمية وريفها من هذه اللعبة). لعل الطائفية التي تتجسد بالخوف من الأكثرية السنية تلعب الدور الرئيسي في تكوين الأحكام الموجِّهة للسلوك المؤيد عند الأقليات وتعطيهم المبررات الذهنية لمقاومة التغيير والوقوف خلف الطاغية. يكفينا خمس دقائق نقاش مع أي مؤيد منهم لنكتشف مدى خوفه من الإسلام السني والذي يصل في معظم الأحيان لحد الفوبيا. خمس دقائق يمكنك خلالها سماع مئة شتيمة للشيخ العرعور والسلفيين وينتهي النقاش بالسؤال الاعتيادي «بدك العرعور يحكمنا»؟ الطائفية واقعٌ موجودٌ في مجتمعنا شئنا أم أبينا، وهذه حقيقةٌ جارحةٌ لكثيرٍ منا، لكل من كان يحلم بوطن يكون فيه الإحساس بالهوية الوطنية والمواطنة أقوى من الهوية الطائفية والمذهبية. وإن عدم الاعتراف بوجود طائفية كبيرة لدى الأقليات يجسد موقفاً طائفياً بحد ذاته, وإن إنكار العلّة على مبدأ «سوريون على بعضنا وكفى» لا يعني عدم وجودها، والاعتراف بها هو أول خطوة علاجية لها. بعيداً عن السياسة ولعبة النظام السوري الطائفية الذي بدأت منذ 1970، يمكننا تعريف الطائفية من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي بأنها السلوك العدواني تجاه شخصٍ ما أو مجموعةٍ ما بسبب انتمائهم الديني. وكلمة سلوك عدواني تعني هنا: فكرة سلبية، موقف سلبي مُسبق، صورة سلبية نمطية، شعور سلبي، ... ويشكل العدوان الجسدي واللفظي تعبيرا عن هذا السلوك. وهنا طبعاً علينا التمييز بين الانتماء لطائفة معينة ،وهو أمر طبيعي وعاد، وبين الطائفية كسلوك عدواني. إن الفكرة السائدة في أوساط الأقليات هي أن الأكثرية فقط من يمكنها أن تكون طائفية وذلك لتفوقها العددي. لقد أثبتت البحوث العلمية في مجال علم النفس الاجتماعي خطأ هذه الفكرة (تاجفل وتورنر، 1978، 1986؛ تورنر، 1994؛ بوريس ولينس، 1999؛ جيموند، 2010)، كما أثبتت أن الأقليات هي أكثر تعصباً وعدوانية من الأكثرية. ويمكننا القول إن الثورة السورية أثبتت صحة هذه البحوث على أرض الواقع. فالأقليات – كانتماء أقلوي- مصابة بقلق وجودي, والكثير من الحواجز النفسية الواعية واللاواعية تعيق اندماجها وشعورها بالمواطنة. إن من يتكلم عن الطائفية والسلفية كحكر على الأكثرية المسلمة السنية (وفق ما يشيعه النظام الديكتاتوري والمثقف الأقلوي) ينسى أو يتناسى أن الأقليات هي أكثر خوفا وانغلاقاً من الأكثرية. وتبقى طائفية الأكثرية ردة فعلٍ على حالة يشعر بها الفرد بالغبن والظلم تزول بزوال هذه الحالة، بينما طائفية الأقليات تكون ناتجة عن خوف عميق كامن في المساحة اللاشعورية من الذاكرة الجمعية. هذه العوامل الأربعة: التماهي بالمعتدي، الخوف من المجهول، الخوف من الحرية، والطائفية.. هي الدوافع الرئيسية للسلوك المؤيد للطاغية، ولكنها ليست الوحيدة، فهناك بالتأكيد أسباب أُخرى نفسية، اقتصادية، تاريخية واجتماعية تتداخل معها، لكن ليس لدينا المجال لذكرها هنا. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يبرر المؤيدون للطاغية موقفهم؟ فالإنسان بحاجة دائمة لشرح سلوكه وتفسيره والدفاع عنه (بوفوا، 1988). هنا أيضاً يمكننا الحديث عن أربع ميكانيزمات أو استرتيجيات يستخدمها المؤيدون للدفاع عن موقفهم وتبريره. 1 نظرية المؤامرة كإستراتيجية دفاعية هذه النظرية هي الحاكمة تقريبا لإعلام وسياسة وأحزاب جميع دول العالم الثالث، وقلما نسمع كلمة مؤامرة في إعلام وسياسة الدول الغربية. فمن الملاحظ أن كل الأنظمة الشمولية والديكتاتورية اعتمدت على هذه النظرية لقمع شعوبها وكم الأفواه. ورد مصطلح «نظرية المؤامرة» لأول مرة في مقالة اقتصادية عام 1920، ولكن جرى تداوله في العام 1960، وتمت بعد ذلك إضافته إلى قاموس أكسفورد عام 1997. هناك أربعة مبادئ تقوم عليها هذه النظرية: أولاً، إن كل شيء مُدبّر ومدروس. ثانياً، هناك إرادة خفية لكل ما يحصل. ثالثاً، كل ما يَظهر للعيان غير موجود أصلاً (مفبرك). ورابعاً، هناك علاقة خفية بين ما يظهر للعيان (الأحداث) والإرادة الخفية (بيير تغاييف، 2006). ويتبنى هذه النظرية ويؤمن بها تقريباً جميع من يؤيد النظام الحالي في سورية، فبرأيهم هناك مؤامرة كونية على سورية ونظامها المقاوم، وهذا الاعتقاد بوجود مؤامرة كونية الذي أصبح مرضياً عند المؤيدين، له عدة وظائف نفسية واجتماعية في آن واحد، أهمها تبسيط الواقع السياسي (موسكوفيسي، 1987)، هناك أشرار خونة (حمد، بندر، أمريكا، الناتو،...) يريدون الانتقام منا ولا يريدون لنا الخير, وسوريا بخير. هناك «خونة» وهم من يتمردون على الديكتاتور، وهناك «شرفاء» وهم الموالون للديكتاتور، يساعد هذا الاعتقاد المؤيدين على التحليل السريع البسيط الطفولي للأحداث والوصول لنوع من الرِضي الذاتي عن موقفهم الموالي للطاغية وتبرير جرائمه إن اعترفوا بها طبعاً، فالإيمان بالمؤامرة يُجسد ميكانيزم التبرير والتسويغ الأوحد لموقفهم مما يجري في سوريا، فكل ما يحصل من تمرد وعصيان ومظاهرات أسبابه خارجية وليست داخلية أبداً. وهم يعتمدون بذلك على تفكير تسلسلي وتراكمي تجميعي إنساني واجتماعي غير محكوم أبداً بقواعد استنباط واستنتاج علمية، مما يؤدي إلى نتائج قطعية معتمدة على مبدإ السببية الميكانيكية. 2 استراتيجية الإنكار وهي من الوسائل الدفاعية المعروفة في علم النفس (فرويد، 1936)، والإنكار عبارةٌ عن عملية نفسية لاشعورية تحمي الفرد من مواجهة الواقع المؤلم بالنسبة له وتساعده على عدم الاعتراف به, حيث إن هذا الاعتراف يشكل مصدر خطر وقلق وتأنيب للضمير. في علم النفس الاجتماعي تعتبر هذه الاستراتيجية شعورية في جزء منها، وهنا تختلط بالكذب الواعي والمقصود. كلنا يتذكر موقف المؤيدين في الستة أشهر الأولى من الثورة: مافي شي»، «كلو فبركة»، «خلصت»، «الناس عايشة ومبسوطة وهمهم يخرجون سيرانة يوم الجمعة». يرتبط ميكانيزم الإنكار بشكل وثيق مع نظرية المؤامرة. فكل ما يقال هو كذب وتضليل لكي ينال الأعداء من الوطن. وللإنكار نوعان: إما ذهاني، حيث الفرد يرفض الاعتراف بجميع الحقائق ويعتبرها مفبركة تماماً، وهذه الحالة الذهانية تتجلى في نظرية المجسمات الضخمة في قطر؛ وإما عصابي، حيث يعترف الفرد بوجود جزء من الحقائق ولكن يقوم بتبخيسها وتسويغها بما يناسب موقفه، وهكذا لم يتجاوز عدد المتظاهرين في ساحة العاصي أكثر من عشرة آلاف من وجهة نظر المؤيدين بينما مسيرات التأييد والرقص والدبكة كانت جميعها عفوية ومليونية. 3 إستراتيجية قلب الحقائق والأدوار وهي من الاستراتيجيات الدفاعية الواعية والبدائية الطفلية، حيث يقوم المؤيد بقلب الحقائق بطريقة عكسية تماماً، وهكذا تتحول الضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية بكل بساطة، ويصبح حمزة الخطيب بين ليلة وضحاها مغتصب نساء خطيرا، عمره سبعة عشر عاماً. أما مجازر الحولة وكرم الزيتون والتريمسة وبابا عمرو والقبير فقد ارتكبتها المعارضة المسلحة الإرهابية مع العلم أن هذه المناطق معارضة! إذا هم يعترفون بالحدث فلا يمكنهم إنكاره، ولكنهم يلجؤون بكل بساطة إلى عكس الأدوار للتخلص من المسؤولية. وأكثر ما يُثير الدهشة لدى متابعة صفحات الفيسبوك المؤيدة هو اقتباسهم للأخبار بشكل حرفي تماماً عن صفحات المعارضين مع تبديل بعض الكلمات، فيصبح خبر الحولة «قام الإرهابيون السلفيون بمجزرة تندى لها جبين الإنسانية...» وطبعاً لا ينسون أن يتباكوا ويكثروا من مشاعر الحزن والألم وبنفس الطريقة تماماً نجد صور دمار لحمص وحماه وبعض مناطق حلب ودير الزور أو درعا... مع تعليق بجانبها يُعبر عن ألمهم وحزنهم وتصميمهم على الانتقام من العملاء الخونة. 4 الانتقائية في التعامل مع المعلومات والأحداث بشكل عام، الأشخاص يستجيبون بشكل مختلف للمعلومات والأحداث الواردة لهم من المحيط، وذلك وفقاً لموقفهم وبنيتهم النفسية وقيمهم واعتقاداتهم. ويعود ذلك إلى أن الذاكرة والإدراك انتقائيان. ولكن عندما تصل هذه الانتقائية إلى حد إهمال مئات بل آلاف المعلومات والأحداث والتركيز فقط على جزء صغير جداً منها يتناسب مع موقفهم، لا يشكل سوى واحد بالألف مما يحصل، نكون هنا ضمن استراتيجية دفاعية واعية قائمة على عدم الصدق وعدم الأمانة. فالمؤيدون لنظام الأسد يتهمون الثورة بالسلفية، ويحدثونك عن الشيخ العرعور وقناة صفا ودورهم في الثورة، ولكنهم لا يتحدثون أبداً عن العلمانيين واليساريين جورج صبرة وبرهان غليون ورياض الترك وسهير الاتاسي وسلامة كيلة وناهد البدوي وياسين الحاج صالح وفدوى الحوراني ومنتهى الاطرش ومازن درويش ورفاه ناشد وميشيل سعد.... ونفس الشيء بالنسبة لهتاف «علوية عالتابوت والمسيحية عبيروت» الذي ربما – وليس مؤكدا – كان قد قيل في إحدى مظاهرات حمص من العام الفائت، فبكل نقاش تقريباً يذكرونك به، ولكنهم في نفس الوقت لم يسمعوا ولم يقرؤوا ولم يشاهدوا آلاف الشعارات التي رفعها الثوار عن الوحدة الوطنية ووحدة الدم السوري والأيد الوحدة» والأخوة والمساواة بين الطوائف، لم يروا كيف أقام مسلمو قرية خطّاب التابعة لحماه صلاتهم بجانب الصليب ولم يشاهدوا صورة ثوار دوما وهم يرفعون الصليب والهلال وسيف الإمام علي ولم يسمعوا هتافات مدينة سلمية «اسماعيلية، سنية، علوية، درزية ومسيحية بدنا حرية»، ولم يشاهدوا لافتات كفر نبل التي تكلمت عن الوحدة الوطنية حتى مع يهود سوريا. في كل نقاش تقريباً يحدثونك حتى الآن عن حادثة نضال جنّود الذي قتل في بانياس في 26 حزيران/ يونيو من العام الماضي، وحادثة عنصر الأمن الذي قتل في ساحة العاصي على يد المتظاهرين العام الماضي، أو حادثة العميد خضر عبدو التلاوي وابنيه الذين قتلوا بحادث غامض في شهر نيسان/ أبريل من العام 2011، ولكنهم لا يذكرون أبداً عشرات الآلاف من الحوادث الشبيهة التي قامت بها عناصر الأمن والشبيحة. التهجم على الثورة عن طريق أمثلة وشهادات وإثباتات منتقاة من هنا وهناك ليس إلا وسيلة هروب تعبر عن قلة وجدان وإعلان استرخاص بالضمير والعقل سواء لدى المناكف أو لدى من يصبر على نقاشه. والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا التحليل هو: هل من المُجدي النقاش مع هذه الشريحة من الناس؟ للأسف لا، فعلاقتهم مع الطاغية هي علاقة سادومازوشية تأخذ على المستوى اللاوعي طابع الخصاء الذهني، علاقة بنيتها الأساسية هي غريزة الخوف وغريزة البقاء. فكلما زاد الديكتاتور من جرائمه ومن إذلالهم وإهانتهم، كلما زادوا من خوفهم وزادوا بالتالي توغلاً في حالة الرضوخ والتبعية وزادوا من حالات الاستزلام والتزلف والتقرب. وهذه كانت مهمة الإعلام السوري الممنهج بشقيّه الرسمي والغير رسمي: الغير رسمي عن طريق فيديوهات التعذيب والقتل والإهانات التي يقوم بها أزلام الطاغية من عسكر وشبيحة، وهذه الفيديوهات - من وجهة نظرنا - لم تكن أبداً مسربة وإنما مصورة خصيصاً لكي تُعرض وتُظهر لهذه الشريحة الموالية أي درجة يمكن للطاغية التمادي بالإجرام والسادية. فكلما زاد من ساديته، زادوا هم من ساديتهم تجاه المعارضين، فنرى في كلماتهم عنفا لا مثيل له (التهديد بالحذاء العسكري والتعفيس هو أمر سائد عند هذه الشريحة). أما بالنسبة للإعلام الرسمي، إن جاز التعبير، فهو ليس موجهاً للمعارضين وأبعد ما يكون موجهاً للصامتين والمترددين, وإنما هو موجهٌ لهذه الشريحة المؤيدة التي قررت مسبقاً تصديقه واتخذت مسبقاً الموقف المؤيد الموالي حتى العمى والمعادي للثورة. هذا الإعلام الذي أقل ما يمكن أن يُقال عنه إنه نوع من الهذيان النفسي وهلوسات عقلية، إنما هو مُقدّمٌ لهذه الفئة من الناس كوسيلة لتبرير موقفهم ولمساعدتهم من فترة لأخرى على الدفاع عن مواقفهم اللاأخلاقية. إنه بمثابة حُقنة مخدرة لضمائرهم من فترة لأخرى ومثيرة لغرائز الخوف والبقاء معاً، وهذا ما يفسر إصرار قنوات الإعلام الرسمي على عرض الأشلاء البشرية بطريقة مقززة عندما كانت تحصل تفجيرات في دمشق أو حلب. مُخطئٌ من يعتقد أن أهداف هذا الإعلام هو الإقناع بوجهة نظر معينة ونقل الأخبار، فحتى القائمين عليه يسخرون منه ويضحكون في سِرهم عليه. إن ما عرضناه في هذا المقال من تحليلٍ للسلوك المؤيد «دوافع واستراتيجيات دفاع» لا يعدو كونه محاولة أولية لا تدَّعي الشمول في عرضها للواقع، ولا تدَّعي لذلك القطعية. هي محاولة بسيطة لفهم هذه الظاهرة التي أثارت الكثير من الأسئلة حولها وأطلق عليها السوريون ظاهرة «المنحبكجي». كل المشكلة تكمن في أن قسم من الشعب السوري قرر الانتقال من مرحلة الرضوخ والعبودية إلى مرحلة الثورة والحرية، وقسم لم يقرر بعد ويدافع بشدة عن موقفه هذا.