قراءة في أفكار تقليدية وحديثة لعل في هذا الإصدار المشوّق ما يبعث على الاعتقاد بأن صاحبته تستخدمه «ذريعة» محقّة من أجل أن تضفي على مفاهيمها القديمة الجديدة رونق الثورات العربية المستجدة. تجتهد نوال السعداوي في كتابها الأحدث بعنوان «الثورات العربية» عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت، في الانتقال بآرائها المتمردة التي عُرفت بها منذ عقود، من حيّز التصوّر النظري إلى بؤرة التحقق العملي على أرض الواقع. وهي تغتنم، بحق أيضاً، واستناداً في الوقت عينه إلى احتراف في لعبة الكتابة، تلك الصيرورة المدهشة التي أحالت انتفاضة الشباب المصري في 25 يناير 2011، ثورة مشرّعة على ثورات كامنة لكن متأهبة. والأرجح أنها اقتحمت الحاجز المسترق لهذه الانتفاضة العارمة من البوابات نفسها التي دأبت على الإطلالة منها على الجمهور العربي العريض مستثمرة الثورة ونتائجها المحتملة على نحو يمكنها من إعادة تشكيل «أفكارها التقليدية» على نحو غير تقليدي. من هنا مهارتها اللافتة في توظيف أفكارها المتعارف عليها في حيثيات ثورة يناير من جهة، ومحاولتها الملحوظة لمقاربة الثورة في ضوء تصوراتها التي ناضلت من أجلها طويلاً في الزمن عميقاً في البنية الاجتماعية وتداعياتها الفكرية والفلسفية. تسعى السعداوي في جولة متسرّعة، على الأغلب، إلى مناقشة الكم الكبير من تصوراتها التي كانت بثتها في سائر مؤلفاتها. وعلى الرغم من هذه «العجالة» التي قاربت ثلاثة وأربعين فصلاً في الكتاب، لا يبدو أنها استسهلت الكيفية التي عالجت من خلالها قضاياها المستكثرة. والأغلب أنها استهدفت، في هذا السياق الذي يغلب عليه نزعة للإحاطة الشاملة، محاولة استشراف الثورة في ظلالها البعيدة والقريبة. وايضاً في ما يمكن ان تنطوي عليه من معوّقات لا تزال تنتشر في البنية السياسية الاجتماعية الاقتصادية كأسراب النمل التي غادرت أوكارها للتو. ولكنها تعوّل، في الآن عينه، على احتمالات مختلفة، من بينها: ان عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء بعد أن اهتدت الأكثرية المصرية الساحقة إلى الطريق الذي ينتقل بالذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية من الزمن القديم إلى الزمن الجديد. وفي خضم هذه النقلة النوعية، إذا جاز التعبير، تنهمك السعداوي في الاقتباس من تجاربها التي حفرت في ذاكرتها عميقاً منذ طفولتها مروراً بربيع العمر كما تسميه وصولاً إلى الاصطدام العنيف بالسلطة السياسية وليس انتهاء بما آلت إليه الأحداث التي شهدتها مصر منذ اندلاع ثورة يناير. تتعمّد، في هذا السرد الدرامي، ان تعرض أجزاء حيوية من حياتها الغنيّة على شاشة الثورة وتحديداً في ميدان التحرير. بالمثل، تتعمّد أن تقحم الثورة في تفاصيل محطاتها الذاتية. على هذا الأساس المفترض من الاستذكار ذي الاتجاهين، تتطلع السعداوي إلى قراءة حياتها في كتاب الثورة. وقراءة هذه الأخيرة في كتاب حياتها. لعلّ مقاربة كهذه من شأنها ان تدخل إلى ثنايا الكتاب شيئاً كثيراً من التشويق والترقّب والرهان على المعلوم والمجهول التي تتفرد بها الرواية عن سائر أنماط الكتابة. الآتي فصل من الكتاب... انتشرت الأكاذيب عقب المذابح الأخيرة التي سقط فيها المئات من القتلى والمصابين، أغلبهم من أسر الشهداء والمصابين في المذابح السابقة منذ يناير الماضي. آباء وأمهات فقدوا أبناءهم غدراً وخيانة من السلطة الحاكمة قبل الثورة وبعدها. الأسر المكلومة المحزونة من مختلف الفئات والطوائف، جمعتهم المأساة الواحدة في المكان الواحد، يفترشون الأرض الاسفلت ليل نهار في صقيع البرد، وهم يطالبون بحقوق المقتولين برصاص الشرطة والعسكر، وأذنابهم من البلطجية، وأعوانهم في الخارج. وبدلاً من إعطائهم حقوقهم المشروعة ينقض عليهم العسكر والشرطة وبلطجيتهم بالضرب والسحل والرصاص الحي، فيسقط منهم المئات والآلاف، من نساء وأطفال ورجال وشباب، دفعوا حياتهم ودماءهم وعيونهم من أجل تحريرنا وكرامتنا! ألا نخرج إلى الشوارع والميادين بالملايين لنسقط القتلة الجدد كما أسقطنا مبارك وأعوانه؟ تنتشر الأكاذيب الملفقة إعلامياً، من يصدق هذه الحقائق المعكوسة؟ أن يتحول الضحايا المقتولون إلى قتلة مجرمين؟ في كل جريمة ابحثوا عن المستفيدين؟ من يخافون من قوة الشعب المصري وانعتاقه من عبودية النظام؟ عسكر وشرطة. نخبة متخمة مستفيدة. نخبة النظام القديم ونخبة النظام الجديد، يتنافسون على الحكم والأحزاب والانتخابات والبرلمان والإعلام والشركات والأموال. يسكتون في صمت بليغ حين يريدون، أن يزعقون بنظريات سياسية أو دينية. يداهنون، يراوغون، يبسملون، يتحولون من اليمين إلى اليسار إلى الوسط أو العكس. وإن أعياهم الأمر يسافرون للراحة والاستجمام، إلى المشتى أو المصيف، أو العمرة والحج، من مكة إلى الدوحة مروراً بواشنطن، وقد يشغلهم عشق جديد في موسم الربيع. تلعب النخبة دورها في تدعيم الحكم، وتحاول إجهاض الثورة تحت اسم الثورة. كان المفروض بعد كل هذه المذابح أن يسقط المجلس العسكري والنخبة من حوله، كما سقط مبارك وأعوانه، وكان المفروض أن تُلغى الانتخابات بعد الكشف عن الانتهاكات. لكن النخبة غارقة في صراعاتها على المناصب الجديدة، وإصدار بعض البيانات الثورية ذراً للرماد في العيون. لكن مبارك لم يسقط بالبيانات الثورية ، بل بقوة الملايين المنظمة في الشوارع والميادين ، ولن يسقط حكم العسكر ووزارة الجنزوري إلا بقوة الملايين، فالحق من دون قوة يضيع. الانتخابات مستمرة برغم الدم المراق. إنها انتخابات غير قانونية تقوم على الأموال المدفوعة والتجارة بالدين. في جريدة «المصري اليوم» (ديسمبر 2011) نقرأ أن أموالاً طائلة وجدت طريقها إلى المرشحين السلفيين من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، وإلى الإخوان المسلمين من مرتادي مسجد النور يؤمه الشيخ يوسف القرضاوي في الدوحة عاصمة قطر، ويقول الكاتب بالحرف الواحد: «لا نتحدث هنا عن ملايين عدة من الريالات لكن عن مئات الملايين من «الدولارات»، ومن قبل أعلنت هيلاري كلينتون عن توزيعها ملايين الدولارات على الجمعيات في مصر من أجل الديموقراطية؟ والصراع الخفي بين الحكومة والمجتمع المدني والأحزاب الدينية حول الأموال المدفوعة هنا وهناك؟ والمليارات غير المعروفة لدى الجيش؟ استُخدم شعار «الإسلام هو الحل» أو شعار «نحن ندعو إلى الحكم بشرع الله»، في الانتخابات على الرغم من أن الشعارات الدينية ممنوعة قانوناً؟ وتم تسجيل الأحزاب السلفية على الرغم من أن القانون يمنع الأحزاب الدينية؟ ويعلن رئيس حزب النور السلفي (في عدد «المصري اليوم» نفسه) أن بعض رجال الأعمال عرضوا عليهم المليارات؟ ألا يكفي كل ذلك لإلغاء الانتخابات المفروضة على الشعب المصري بالقوة والخداع: ألا يكفي ذلك لحل الأحزاب الدينية غير القانونية؟ ولا أقول عمل تحقيق؟ هل نتج شيء عن التحقيق مع مبارك وأعوانه؟ يتم التعاون دائماً بين سلطة الدولة والمال والدين والإعلام والثقافة والتعليم، ولا يمكن للقلة الحاكمة أن تفرض الظلم والتفرقة والقهر والفقر على الأغلبية من النساء والرجال والشباب إلا بالسيطرة على الأرواح والعقول. وتلعب النخبة دوراً في هذه السيطرة. والجهاز التعليمي الديني الثقافي، إحدى دعائم الحكم، لا يقل ضراوة عن جهاز البوليس والجيش والقضاء. إن استقل القضاء دستورياً، فإن عقل القاضي يظل خاضعاً للقيم التي تربى عليها، في البيت والمدرسة والشارع والثقافة المفروضة منذ الطفولة. أحد القضاة في مصر أغلق لجنته الانتخابية لأن طابور الناخبات كان من نساء غير محجبات؟ قالوا انه تربى في حضن الاخوان المسلمين، وآمن بأن حجاب المرأة أمر الله. بعض الناخبات المنقّبات قمنّ بالتصويت لنساء كثيرات باستخدام أرقامهن القومية. ويتخفّى الرجل أحياناً تحت النقاب ليقوم بأعمال منافية للأخلاق أو القانون. ومع كل الانتهاكات المعلنة تستمر الانتخابات، وتُقام الاحتفالات للناجحين من السلفيين والاخوان والعلمانيين والليبراليين. الثورة الشعبية لا يمكن أن تنجح من دون قوة الملايين المنظمة. أن تشتمل الثورة السياسية الاقتصادية الاجتماعية على الثورة الثقافية والأخلاقية والفنية والأدبية والتعليمية، فهذا أمر لم يحدث للثورة المصرية حتى اليوم، والسبب أن النخبة المثقفة التي سيطرت في عصر مبارك لم تتغير في معظمها. وإن تغيرت الوجوه، بعمليات شدّ الجلد وصبغة الشعر، فإن النظام نفسه لم يتغير. انتشرت الأكاذيب بأقلام النخبة عن العرس الانتخابي. قالوا: الانتخابات التاريخية المجيدة، كما قالوا: حرب أكتوبر المجيدة، وثورة يناير المجيدة، والمجلس العسكري المجيد، وحكومة الثورة العظيمة، من عصام شرف إلى الجنزوري. تملّقوا الثوّار في ميدان التحرير ثم انقلبوا عليهم. وتحولت البطولة الثورية الوطنية تحت أقلامهم المنافقة إلى محاولة لهدم الدولة، وإهدار هيبة الجيش، وزعزعة الأمن والاستقرار، وضرب الاقتصاد والاستثمارات والسياحة. كان مبارك بطلهم في الحرب والسلام فأصبح اللص المخلوع. يتشمّمون الفريسة القادمة بأنوفهم المدربة على الصيد. يتحيّرون ويخفّفون نبرة الشتائم. ربما يعود أو من يشبهه، من ترضى عنه أميركا وإسرائيل! يرث الأبناء عن آبائهم صفة النفاق كما يرثون لون عيونهم وشكل أصابعهم. تنحفر الأفكار في خلايا المخ، وتذوب في الدم واللحم. تتحول القيم الثقافية بمرور الزمن إلى ملامح بيولوجية، ترتسم على الأنف والفم والجبين. تقتلع الثورة الثقافية الكذب السياسي والنفاق الديني من جذوره، في الجسد والعقل والروح، في البيت والعائلة والشارع والمدرسة والحزب والجمعية والدولة. تغير الثورة الثقافية الشكل والشخصية، كما تغيّر الرجال والنساء والأطفال والمولودين الجدد.