يواصل المخرج حكيم بلعباس في فيلمه الجديد «محاولة فاشلة لتعريف الحب» تطوير مشروع سينمائي متفرد قوامه كتابة سينمائية مفتوحة تستشكل العلاقة بين السينما والواقع. يكرس بلعباس عبر تجاربه الأخيرة، وخصوصا في هذا الفيلم الذي يشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، رؤية إخراجية تنتصر لنظرية نهاية الأجناس حيث يتلاعب بالحدود بين ما هو متخيل يقترح واقعا مبتكرا وما هو وثائقي يحقق أعلى درجات الوفاء للواقع تصويرا. في البدء كانت الأسطورة .. أسطورة إملشيل ودموع الحبيبين الخائبين التي حفرت بحيرتين تخلدان اسميهما «إيسلي» و»تيسليت»... وفي البدء كان انشغال وجودي عميق لدى حكيم بلعباس بمساءلة الحب، ذلك الكائن الغريب الذي يتناسل في الذوات البشرية منذ بدء الخليقة، ليصنع سعادة البعض وتعاسة الكثيرين. هي رحلة إلى الأسطورة، عودة إلى فضاء خام، إسراء إلى عالم مائي، بل هي «حج» - كما يسميه بلعباس نفسه - المبدع الذي يثق في حدسه كما يجدر بمريد صوفي على درب الحقيقة، فيرحل بعدة قليلة لتلقي ضوء العالم .. عاريا من الأوهام والقناعات السريعة. هكذا دبر حكيم بلعباس «الحيلة» التي صنعت التماس المتوتر بين المتخيل والواقع في فيلم يثير الجدل على صعيد الاستقبال النقدي. انطلقت الفكرة بمخرج يبدأ اختبارات أداء لاختيار طاقم فيلم قيد الإعداد.. يستقبل الممثلين الشابين: زينب وحمزة. كمرحلة تمهيدية للاختيار، يدعوهما حكيم الى قضاء أيام في منطقة إملشيل قبل العودة لبحث القرار النهائي بشأن المشروع. الواقع انه لن يكون هناك فيلم في المستقبل، بل الفيلم خلاصة ما عاشه البطلان في يوميات إملشيل. المادة الفيلمية إذن هي حصيلة تفجير ذلك الاصطدام بواقع جغرافي وبشري جديد على الشابين كليا. بحد أدنى من توجيهات بلعباس، سيشتبك حمزة وزينب مع يوميات ساكنة المنطقة، ويكون لهما أن يكتشفا في حكايا البسطاء، من عجائز القرية وشبابها وكهولها، ومن علاقة الكائن بالمكان وبغيره، آفاقا جديدة للحب الذي تجرعا في حياتهما الحضرية إخفاقاته وأوهامه. في حواراتهما اليومية التلقائية مع الناس، تتهاوى تخوم «التمثيل» و»الحياة»، فيصبح جميع من دخل الإطار «ممثلا» يحترف الحياة والحب بطريقته ومرجعيته الخاصة.. العجوز التي تنظف وجه زوجها بالماء الدافئ والصابون وتلف بحدب عمامته وتمسد أطرافه بحنو .. الراعي محمد الذي يهيم بفتاة الدوار المجاور «عائشة» ويطوي 14 كلم فقط كي يراها ويبادلها تحية قصيرة وعبارات خجولة، لولا أن ضيق الحال يضطره الى السفر للعمل في المدينة لجمع ثروة قد لا تتجاوز 3000 درهم هي كلفة مراسيم زواج غير مؤكد .. الكهل الذي يصف المرأة بالقنطرة التي يمر عليها الرجل حين يفيض سرير النهر...ثم الممثلة نفسها، زينب التي تحاصرها وحشة الليل في إملشيل فتحاول الاتصال بالحبيب، تسبه مرة وتسترضيه ثانية، بحثا عن توازن مفقود في الحب، بينما زميلها الممثل، حمزة، يستعيد داخل كهف مظلم قصة زواجه الفاشل ويسائل «عجزه» الدائم عن إنجاح علاقة عاطفية. ليس هناك سيناريو، يعترف حكيم بلعباس، لكن هناك حكي يتشكل في صيرورة البحث عن الحقيقة «السينمائية» و»الوجودية» معا. هناك أفكار وترتيبات كلية تنزل على محك المحاورة والتفاعل مع المعطيات التي ينضح بها الواقع. بلعباس لا يكتب «فأي سيناريست يمكنه أن يخط تلك الحوارات والمونولوغات التلقائية ويخترع تلك الشخوص التي تحيا مع الماء والحجر « يتساءل بلعباس. الطريق الى الماء (بحريتا «إيسلي» و»تيسليت») تظهر في الاستعارة، الصعود الى الجبل مطاردة للحقيقة وتعقبا للأسطورة الذاتية كما في روايات البرازيلي باولو كويلهو. يقول بلعباس «ينبغي أن نثق في سخاء العالم . أن نمشي على الطريق للقاء النور تماما على خطى ذلك «المجذوب» الشريد الحافي القدمين الذي يصادف السيارة التي تقل الممثلين في طريق عودتهما من إملشيل .. جادا عليه بدراهم وسجائر لكنهما لم يتجرءا على نقله في رحلته التي تقوده الى وجهة لا يعرفها بعد. فيلم حكيم بلعباس لم يكن «محاولة فاشلة لتعريف الحب» لأن الأهم كان خلخلة الوعي والدعوة الى عيش الحب الذي يحيط بالبشر وهم عنه غافلون. فمن العبث أن يحاول المرء تعريف شيء يوجد داخله .. يعيش فيه أو قريبا منه، ثم لا يقبض عليه، غفلة أو نسيانا.