ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (11 )
نشر في بيان اليوم يوم 05 - 08 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
-11-
وانتهت الاحتفالات وفي يوم 11 ماي، تم إرسالنا إلى مدينة مليلية، لننقل إلى الحدود المحاربين من قبيلة فرخانة، الذين كانوا، كما قلْت من قبل، قد فروا من وجه بوحمارة، لائذين بالتراب الإسپاني.
وقد كانوا تطوَّعوا لمَدِّ يد العون إلى السلطان في محاربته للروغي.
وكان أكثر ما يدفع هؤلاء إلى القتال إلى جانب السلطان رغبتُهم في العودة إلى بلادهم، وأن تلك العودة لم تعد بالممكنة إلا بالقضاء على بوحمارة.
ولقد كان ذلك جيشاً عظيماً في بلد كالمغرب، تولينا نقله على متن سفينة «التركي» في 18 ماي. فقد كان يتألف من 200 رجل من الأشداء الأقوياء.
وقد جُعِل على رأس أولئك الرجال الفريلي؛ القايد محمد نفسه، شيخ قبيلة فرخانة.
لقد كانت تلك أولَ عودة لي إلى عجرود، منذ أن كانت زيارة الإمبراطور، فكنت أتوق إلى معرفة الجو الذي يسود بين الفرنسيين في هذه الناحية.
وجديرٌ بالذكر أن أحد مواطنيَّ الألمانيين كان قد استقر، منذ وقت يسيرٍ، في هذه المنطقة؛ ولقد سبق لي أن التقيته، إنه حدَّاد، يُدعى زالوڤسكي.
وقد كان هاجر ألمانيا في شبابه، على غرار الكثير من الأشخاص من غير ذوي التجربة، بسبب مشاداة نشبت بينه وأحد رؤسائه العسكريين.
ثم انخرط، بعدئذ، في الفرقة الأجنبية، وأدى فيها الخدمة العسكرية. ثم كان استقراره في الجزائر؛ حيث تزوج من امرأة من بني جلدته في بلعباس.
ورغم أن زالوڤسكي عاش طوال 16 سنة بين الجالية الفرنسية، فقد ظل ألمانياً قحاً. وقد كنت أجد على الدوام، متعة كبيرة في السلام على هذا العماد الحقيقي من أعمدة ألمانيا في هذا الصقع المنعزل، الذي كل سكانه من الفرنسيين وبينهم قلة من الأهالي.
استمر زالوڤسكي على حبه لبلاده، ولذلك كان من الطبيعي أن يبتهج أيما ابتهاج بزيارة الإمبراطور.
ولقد حكى لي أن الناس في الجزائر كانوا شديدي الامتعاض؛ إذ يرون أن المغرب قد أصبح أشبه ما يكون بالمستعمرة الفرنسية، وأنه لم يكونوا يتوقعون أن يكون في مقدور طرف آخر غير الفرنسيين الحق في الكلام في المغرب.
وقد كان الفرنسيين قبل تلك الزيارة يتمنوَّن أن لا يُكتب لها التحقق، والحقيقة أن الناس كانوا يرون أن من المستحيل أن تتم تلك الزيارة، لما فيها من إهانة للفرنسيين.
حتى إذا قُضيَ الأمر، وأصبحت زيارة الإمبراطور الألماني أمراً واقعاً، صِرْتَ ترى الفرنسيين يرغون ويزبدون من شدة الحنق.
وتملك السخط، كذلك، ساي ورجاله عندما عرضت عليهم بعض الصورة لزيارة الإمبراطور لطنجة، فألقوا إليها بنظرة خاطفة، وغمغموا : «همهم» ثم أداروا عنها وجوههم حانقين.
وكان ساي قد اشترى في تلك النواحي أرضاً فسيحة، زرتها وإياه نزولاً عند دعوته، فقلد خرجنا في الصباح الباكر نستقل سيارته، فسرنا بطول النهر الحدودي، مسافة طويلة.
ثم اجتزنا وادياً يتخلل سلسلة من الهضاب، ويقوم سريراً للوادي، فكنا نُضطر، في بعض المواقع، إلى السير في النهر نفسه، لضيق الحلق. ثم بلغنا الموقع الذي يتواجه فيه السوقان الحدوديان الجزائرية والمغربية.
لكن من أسف أننا لم نأت في اليوم المناسب؛ فالسوق لا تنعقد إلا مرة في الأسبوع.
كان الرجال المسلحون من الجانب المغربي يذرعون المكان، وأما من الجانب الفرنسي فقد كان حمل السلاح ممنوعاً.
واجتزنا ساحة السوق التي بدت لنا ميتة، وما هي إلا مسافة قصيرة، حتى بلغنا ضيعة سالووسكي.
إنها أرض خصبة تقوم فوق هضبة. وتمتد حتى تكاد تصل إلى النهر، وقد كانت في ذلك الحين لم تُستصلح بعد. وفكرتُ أن الأمر يحتاج إلى المال لاستصلاحها كلها، واستغلالها، لكن سالووسكي بين لي كيف يمكن للمرء، في الجزائر، أن يتلافى بسهولة تكاليف الاستصلاح. فالأرض تُدفع كلها بالإيجار، إلى شخص آخر، لعدد من السنين، من غير إجارة. ويكون هذا الشخص، عموماً إسپانيا، لأن إسپانيا تمنح الجالية الفرنسية في الجزائر أي عاملة بخسة السعر ومجدة. وتدوم هذه الإجارة، من غير إتاوة، في معظم الأحيان، ثماني سنوات. فالإسپاني يقتلع الأدغال، ويزيل الحجارة، ويزرع الأرض كلها، حسسبما التزمن، ويكون له أن يستفيد في ما تبقى من مدة التعاقد. فإذا انصرم الأجل، استعاد المالك الأرض التي استصلحها الإسپاني، وما عليها من أغراس الزيتون والعنب، وما أقام فيها من بنايات، أو يعيد تأجيرها إلى مستأجرها السابق، لكن مقابل أتاوة.
وكان زالوڤسكي، في ذلك الوقت، يمتلك حوالي 50 هكتاراً من الأراضي، لم يدفع مقابلها مجتمعة غير 150 فرنكاً. وقد كان يفاوض أحد جيرانه لشراء أراضي أخرى، يبغي أن يوسِّع بها من أملاكه. ولقد تم له ذلك بالفعل. فقد أدى 3500 فرنك مقابل حصوله على 250 هكتاراً إضافية : 300 هكتار مقابل 5000 فرنك، هل تتصورون كل هذا الملك المولوي الصغير بهذا السعر البخس!
وسمعنا، لدى عودتنا من عجرود، بخبر وصول الكونت تاتينباخ إلى مدينة فاس، وأنه حظي بحفاوة الاستقبال من السلطان مولاي عبد العزيز. ولقد حقَّقت المفاوضات التي جرت في مدينة فاس بين الجانبين المغربي والألماني بتقدماً كبيراً، بعكس ما حدث مع السفير الفرنسي وما كان يحمل من المشاريع؛ فقد لبث حيث هو، لم يتقدم خطوة إلى الأمام، وبقيت مشاريعه مجرد أفكار تدور في رأسه. وجديرٌ بالذكر، ها هنا، أن الإمبراطور الألماني أعلن، أثناء زيارته لمدينة طنجة، عن النية في إنشاء ميناء محمي في هذه المدينة. ولقد عهِد السلطان إلى الشركات الألمانية «أدولف رينشوزن وشركائه»، بداية من شهر يونيو، بوضع التصاميم الخاصة بذلك الميناء. ولقد أمكن للسيد لاوتر مدير مؤسسة فيليپ هولتسمان وشركائه، أن ينجز، في وقت يسير جداً، مشروعاً، حظي بتصديق السلطان، رغم أن الفرنسيين تقدموا، في الوقت ذاته، بمقترح إلى السلطان، في نفس الشأن، أقل كلفة بكثير، مما يتطلبه المشروع الألماني، لكنه أقل منه جودة.
ولقد نصح الجانب الألماني السلطان بمضاعفة مجهوداته في حربه ضد بوحمارة، لما سيكون في ذلك من إنهاء التمرد المؤسف الذي يعم المنطقة الحدودية. ولقد جهد الكونت تاتينباخ لمد يد العون للسطان، فيما كانت فرنسا تبذل ما في وسعها لوضع أكثر ما يمكن من المصاعب في وجه مولاي عبد العزيز. فلم يكن الفرنسيون ليغفروا للسلطان رفضه للمساهمة التي تقدموا إليه بها في أدب جمٍّ، فكانوا يحاولون أن ينتشلوه من بين مخالب ألمانيا، ليجعلوه بين مخالبهم. ولقد اعتمدوا في سبيل تلك الغاية، ما لا حصر له من الوسائل.
فلقد أعلن الجمركيون الفرنسيون في نمور، منذ الأيام الأولى من شهر يونيو، أن إرسال المغرب للسلاح والذخيرة بطريق البر، من مدينة طنجة إلى مدينة وجدة، هو من التهريب. ولذلك تمت مصادرة تلك البضائع، على الرغم من أن حق المرور عبر التراب الجزائري كان مكفولاً على الدوام، لجيوش السلطان في مدينة وجدة. وسرعان ما أصبحت الجيوش المغربية تفتقر إلى الأسلحة والذخيرة، بحيث تحتَّم على سفينة «التركي» أن تتوجه إلى ناحية الحدود، محملة بمواد الاستبدال. ووجدنا الأهالي في قصبة السعيدية غير قلقين في شأن تلك المصادرة، فقد كانوا يعتقدون أن فرنسا لن تلبث أن ترد إليهم كل ما صادرت منهم. وحدهم الجنود كانوا يعانون من نقص الأموال، لأنهم لم يتلقوا غير الثلث من رواتبهم، ولم يكن الضباط بأحسن حالاً من بقية الجنود.
وكان حقاً ما اعتقده الأهالي. فلم تلبث السلطات الفرنسية أن أعادت، بعض بضعة أسابيع، إلى الجنود المغاربة ما كانت صادرت لهم من الأموال والذخيرة. كما رفعت الحظر الذي كانت تفرضه على تزويد جنود السلطان في مدينة وجدة، بالمؤن، من الجزائر. وسرعان ما تبيننا الأسباب التي دعت الجانب الفرنسي إلى إتيان تلك التدابير. فقد بلغ إلى مسمعي أن جنود السلطان استولوا، في وقت قريب، على قطيع من 2000 رأس من الحملان في ملكية الفرنسيين، كان هؤلاء يقتادونها، ليلاً، عبر المنطقة الموالية لمولاي عبد العزيز. وقيل إن ذلك القطيع كان موجَّهاً إلى بوحمارة. وإن كون ذلك القطيع قد نُقِل ليلاً ليثبت أن الفرنسيين أنفسهم، كانوا مقتنعين بعدم مشروعية تلك العملية. لكن ذلك لايغير من الأمر شيئاً، والمؤكد أن مصادرة الفرنسيين لتلك الأموال والذخيرة قد كانت بغرض الإساءة إلى السلطان.
ومن الأساليب التي لجأ إليها الفرنسيون، كذلك، بغاية افتعال النزاع مع السلطات المغربية، ما خصوا به جميع الهاربين من مدينة وجدة من الاستقبال الكريم في مدينة وهران. وقد كانت السلطات الفرنسية تمتنع عن الترخيص لأولئك الأشخاص بعبور ناحية مدينة وهران، إلا الحاملين منهم لترخيص خاص من القيادة العليا، في شخص عبد الرحمان الصدوق، فيما كانت تسلِّم سواهم ممن لايحملون ذلك الترخيص إلى السلطات المغربية في مدينة وجدة. ثم سرعان ما أصبح في مقدور كل هارب من مدينة وجدة أن يجتاز مدينة وهران، من دون أن تواجهه في ذلك أية عراقيل، وأصبح مخولاً لهم أن يسافروا، بكل حرية، من نمور إلى طنجة. ولقد صعَّدت السلطات الفرنسية من موقفها هذا، بأن أصبحت تحرص على التعريف بهذا الإجراء المغري بالهروب بواسطة بعض المناشير، ولقد شجَّع ذلك على ما أصبحنا نشاهد من الهروب الكثيف لأفراد المحلة القائمة في مدينة وجدة!
ولقد أفلح المخزن في وقف هذه الظاهرة، وحقق في هذا الأمر بعض النجاح، بما أصبح يقوم به من الاعتقال المباشر للهاربين الذين يبلغون إلى مدينة طنجة، وإلقائهم في السجون، لتتم إعادة نقلهم، ما أن تسنح الفرصة، على متن سفينة «التركي»، إلى عجرود. فأصبح السجناء يعودون من إقامتهم القصيرة، لكن المشؤومة، في سجن طنجة، في أسوإ حال. فكانوا يشكلون، بذلك، تحذيراً لرفاقهم الذين ربما خامرتهم الرغبة في الحذو حذوهم!.
ولقد أفاد بوحمارة كبيرَ الفائدة من الموقف الفرنسي. وكان يبدو أن الفرنسيين في الجزائر أصبحوا يميلون إلى اعتبار بوحمارة آخر وسيلة بين أيديهم، وكانوا لايتورعون عن الإعلان، صراحة، على صفحات جرائدهم المحلية، أن عليهم أن يدفعوا بتولية العرش الشريفَ مولاي محمد - فكذلك كان يتسمَّى بوحمارة، رغم أن الجميع يعلمون أن ذلك مجرد اسم مستعار - مكان مولاي عبد العزيز. ولقد أخذت فرنسا تمد الروغي، من الجزائر، بوفرة من الأموال، والأسلحة والذخيرة. وكانت المعارك بين الطرفين تجري، يومئذ، على مقربة من مدينة وجدة، من دون أن يُحسَم فيها لأي من الطرفيْن. فكان جنود السلطان يفلحون، على الدوام، في رد المتمردين، وكان أهل فرخانة بخاصة، تحت قيادة القايد محمدي، يفلحون، في معظم الأحيان، في صد المتمردين، وينصرون مولاي عبد العزيز.
أوكِل إلينا في منتصف شهر يونيو أن ننقل عدداً كبيراً من الجنود باتجاه المنقطة الحدودية. ولقد بدا أن ذلك كان أكبر تعزيز نحمله إلى عجرود، بإيعاز من السفارة الألمانية. وكان يقود هؤلاء الجنود حشدٌ من القادة، كما كان يرافقهم جوق صغير، كان يعزف، على طول تلك الرحلة، ثلاث مرات في اليوم الواحد. وسرعان ما وصلت تعزيزات جديدة. وفي 28 من الشهر نفسه، رافقَنا القايد الحسين. ولقد اصظحب معه حريمه كله إلى الحرب. وضم حريم القايد الحسين 12 امرأة، قد تلثَّمن جميعاً. وقد تم إسكانهن على نحو لاتبلغ إليهن نظرات الذكور. وكان القايد رجلاً صغير القامة، حسنَها، صبوح الوجه، ذي شعْر متوسط السواد. وكان ذا لحية قليلة، حتى ليكاد يكون أمرد، بينما تبرز من تحت طربوشه، عند الصدعين، خصلات شعر تدل على الشجاعة. ولم يكن يعطي الانطباع بكونه محارباً، سيما وقد كان ذا وجه أنثوي منتفخ. غير أنه كان معدوداً عند الأهالي من أفضلَ القواد المغاربة.
لقد أصبح في مقدور جنود السلطان، بفضل تلك التعزيزات كلها، أن يتقدموا إلى الأمام في مهمتهم. وهو ما لم يرق للفرنسيين. فقد أصبحوا يرون النصر بعيداً عن حليفهم الجديد بوحمارة، مما كان يجعلهم بَرِمين فاقِدين للصبر. فقد كان الفرنسيون يأملون أن يقلِب بوحمارة كل ما يمت إلى مولاي عبد العزيز بصلة داخل مدينة وجدة، وفي النواحي منها. ولم يكن بوحمارة، نفسه، بالمطمئن كل الاطمئنان إلى أصدقائه الجدد. فقد كان يخشى أن يكون بالنسبة لهم مجرد أداة للبلوغ إلى هدفهم، حتى إذا تمكنوا من ذلك، أداروا، في أول فرصة تسنح لهم، أسلحتهم ضده. ولقد كان محقاً تماماً، في ما كان يجد في نفسه من الارتياب في الفرنسيين. فلم تكن فرنسا تتعاون إلا مع أولئك الذين هم خاضعون لها كل الخضوع. ولذلك فما أن تقرَّب مولاي عبد العزيز إلى فرنسا، حتى تخلَّت هذه الأخيرة عن بوحمارة.
ولقد حاول بوحمارة الاستيلاء على مدينة وجدة بطريق الغيلة والغدر، فكان فشله في ذلك فشلاً ذريعاً. فقد كان يتعين على ابن بوحمارة؛ سي الطيب بوحمارة، أن يتظاهر بالصداقة لرجال السلطان، ليشعرهم بالثقة، ويتمكن من مباغثة العزيزيِّين بمساعدة رجال بوحمارة. لكن لم يلبث سي الطيب أن افتُضِح أمره، وتم نقله، وشركائه إلى مدينة طنجة، على متن سفينة «التركي». ولقد ظل يصيح، في الطريق، مدعياً البراءة، ويتوعد بانتقام أبيه. وربما كانت قصة هذه الخيانة مجرد قصة مختلقة، غير أنني لم أستطع أن أعرف منها أكثر ما رويت هنا. ولقد تم إطلاق سراح سي الطيب، بعدئذ، بضغط من الحكومة الفرنسية، لكنه تعهد بعدم التدخل، أبداً، في الوضعية على الحدود.
وكان تاتينباخ يواصل، في تلك الأثناء، محادثاته مع السلطان. ولقد أصبحنا، نحن الألمانيين كذلك، نجد الوضعية في المغرب قد أصبحت أكثر فأكثر إزعاجاً، وأصبح الأمر يدعو إلى تغيير مستعجل. لكننا كنا نعارض، بطبيعة الحال، أن تكون فرنسا هي المتدخل الوحيد في هذا الأمر. ولذلك اقترح سفيرنا الألماني على السلطان مولاي عبد العزيز، إذْ هو في مدينة فاس، أن يدعو إلى مؤتمر دولي، للتقرير في مصير المغرب. ولقد وجد هذا المشروع الموافقة والتصديق الفوريين من المخزن. وإذا فرنسا قد أصبحت ترى، في أسف، تجمُّد مشروعها في «الاختراق السلمي»، ولذلك لم تلبث أن انضمت، هي الأخرى، إلى هذا المقترح. ولقد تحاور الدكتور روزن في هذه القضية مع الحكومة الفرنسية في باريز. ولقد خلصت باريز وفاس، في شهر أكتوبر، إلى تحديد برنامج ذلك المؤتمر وموعده. ولذلك تعيَّن على سفراء جميع البلدان الأجنبية أن يغادروا بلاط السلطان، للتوجه إلى الساحل. فقد تقرر عقد ذلك المؤتمر في الخزيرات، وهي مدينة إسپانية أثرية صغيرة، تقع في خليج جبل طارق.
لقد اقتصر افتراضنا، حتى الآن، على أن فرنسا كانت تقدم الدعم المادي لبوحمارة. ولم يكن في مقدور أي أوروپي، من غير الفرنسيين، أن يقيم الدليل على أن الفرنسيين كانوا يدبرون لأمر مَّا في سرية تامة. لكن سرعان ما أصبح ذلك الشك حقيقة. ففي أواخر شهر أكتوبر رستْ سفينتان شاحنتان بخاريتان فرنسيتان في واضحة النهار، في مار تشيكا؛ حيث توجد سلوان، تلك القصبة التي كان يحتلها بوحمارة. ولقد أنزلت تانك السفينتان، هناك حمولتيهما من الذخيرة والأسلحة. غير أن ذلك الدعم لم يكن بالنفع الكبير لبوحمارة، فقد كانت سلطته وصِيتُه في تقلص مستمر. وقد كان ذلك أنسب وقت للقضاء عليه في الحال. غير أن قواد المحلات العزيزية لم يكونوا على اتفاق في ما بينهم، فلم يكن في مقدورهم أن يوجهوا إليه مجتمعين، الضربة القاضية.
كما كانوا يخشون أن يفقدوا مداخيلهم الهامة، بعد القضاء على بوحمارة، وكان هذا هو السبب الأساسي الذي جعلهم يمنحونه مزيداً من السلطة، ويقتصرون على احتوائه.
وسرت الشائعات بتورُّط السيد ساي في عمليات تزويد بوحمارة من الأسلحة. ولقد آثر ساي، بدهائه، أن يلتزم الصمت، فلم ينبس بشيء في شأن هذا الزعم. وكانت منشآته في مرسى ساي في تنامٍ متواصل، لكن يبدو أن الأشغال لم تكن تسير على النحو المناسب. ولقد أمكنه، بالتدريج، أن يشيِّد رصيفين، ويتعين إطالتهما لأجل مدهما داخل البحر، ليتأتى، في نهاية الأمر، تكوين ميناء محمي. بيد أن الشاطئ كان يزداد تنامياً واتساعاً، موازاة لازدياد حجم الرصيفين، إذ كان مد البحر يأتي محملاً، على الدوام، بمزيد من الرمال. وبدلاً من أن تسفر الأشغال عن ميناء، كان كلَّ ما تم التحصُّل عليه أرضٌ رملية جديدة. ولذلك بدا لي هذا العمل مضيعة للوقت وإضاعة للمال.
وفي 7 نونبر وصل مندوبنا الألماني الجديد؛ الدكتور روزن، إلى مدينة طنجة؛ حيث تولى إدارة الشؤون الألمانية.
ولقد أفلح في أن يحوز، في وقت قصير جداً، ثقة الجالية الألمانية في المغرب وعطفها الكاملين. وأصبح روزن مستشاراً مخلصاً لجميع المقيمين الألمانيين في هذا البلد. وبعد وقت يسير من ذلك، غادر الكونت تاتينباخ المغرب، على أثر انتهاء مهمته فيه.
فلما غادر جميع السفراء الأجانب مدينة فاس، سرَّح السلطان، كذلك، الأعيان المغاربة الذين كان دعاهم للتشاور في شأن المقترحات الفرنسية، بغاية تحسين الأوضاع، غير أن المفاوضات لم تجر على نحو ما كان يتوقع الفرنسيون. فكان ذلك فشلاً ذريعاً لمشروعهم في الاختراق السلمي.
وغادر الطريس وغنام، كذلك، في الأخير، مدينة فاس متوجهيْن إلى مدينة طنجة. وكان بلوغهما إلى مدينة العرائش في مطلع شهر دجنبر. ومن هناك استقلا سفينة «التركي» إلى مدينة طنجة، ليضطلعا هناك، من جديد، بالمهام الموكلة إليهما. ولقد رافقهما في رحلتهما، رجل أسود، كان قاصداً، كذلك، إلى مدنة طنجة، وكان يدعى الحاج الناصري، وقد كان، من قبل، صديقاً حميماً لبوحمارة، ثم عاد، بعدئذ، إلى موطنه. لكنه أصبح، الآن، يتظاهر بالصداقة لمولاي عبد العزيز، بغرض التجسس لفائدة بوحمارة. ولقد وجدنا فيه، خلال تلك الرحلة، مشعوذاً غاية في البراعة. فقد كان يفرِّجنا على ضروب من السحر، خليقة بأن تثير الدهشة والتقدير فوق خشبة أي مسرح من المسارح الأوروپية. وكنا نجلس إليه متحلقين حوله، في خلفية السفينة، فيما كان «يشتغل»، مفيداً كبير الفائدة من لباسه العريض، ولقد أخذ بألباب مشاهديه من الأهالي، فكانوا يعتقدونه ممتلكاً لمواهب إما أن تكون ذات أصل شيطاني أو تكون ذات أصل رباني، وعبثاً حاولْت أن أقنعهم أن ما يرون من ألاعيبه إن هو إلا خداع وتمويه.
حكى لنا الرجل الأسود أن بوحمارة هو من لقَّنه ذلك الفن، وأن الروغي أفضل منه بكثير في مجال السحر.
ولقد أدركنا، نحن الأوروپيين، مصدر ما يمتلك بوحمارة من سلطة في محيطه، وما يجعله يبث من الخوف والفزع في نفوس أعدائه : لقد جعل الناس يعتقدون بمهمته الربانية بفضل ما كان بارعاً فيه من الشعوذة، فلقد كانت الشعوذة أفضل سلاح له.
وسرعان ما توجه الطريس، والمقري، والصفار إلى الخزيرات مبعوثين للسلطان؛ حيث ابتدأت أشغال ذلك المؤتمر في فاتح يناير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.