يبدو أن تطلّب السلطة المؤبدة، وهو السمة الجوهرية للاستبداد المعاصر في البلدان العربية، يتوافق مع تنامي نزعة اجتماعية محافظة، بسند ديني أو بدونه. فهل يمكن تبيّن علاقة سببية بين الأمرين؟ هذا ما نحاول توضيحه في هذه المقالة، التي تهتم أيضا برسم خطوط عريضة للإطار الإجمالي لهذه الظاهرة، وتعرض لملامح ثقافية وسياسية مصاحبة لها. 1 للأمر صلة أكيدة، في ما نقدر، ببروز الطابع الشخصي والعائلي للحكم الاستبدادي بعدما كان ديكتاتورية عسكرية أو حزبية، تبحث عن سند إيديولوجي عام لتشريع نفسها. فلكي يدوم الحكم ينبغي له أن يُورّث. وكي يورّث، لا يكفي أن يتحلى الحاكم وآله بخصال ممتازة ونادرة، لا يحوزها غيرهم، كالعبقرية والحكمة والبطولة؛ لا يكفي أيضا أن يجري تعزيز تلك الخصال بعزل المشككين المجاهرين بآليات عقابية تراوح بين التهميش والاستئصال؛ يبدو أنه لا يُستغنى أيضا عن تعزيز اجتماعي، يتمثل في تأليف قلوب مَن يُنظَر إليهم كممثلين شرعيين للبيئات المحلية. يستجيب نهج تأليف القلوب، إلى حاجة نمط الاستبداد الجديد إلى تجنب إثارة أي مشكلات اجتماعية أو ثقافية مع أي قطاع مجتمعي، ما كان ذلك ممكنا. لكنه يستتبع نسقياً حصر هذه القطاعات في مراتبها الموروثة وتقاليدها القديمة وهياكل السلطة الأهلية الخاصة بها. في أحسن الأحوال يُهمِّش البنيان الاستبدادي المحدث، هذا المفكر الديني المجدد، وذاك الشخص المتمرد على الطائفة والعشيرة، وتلك المنظمة المدنية المستقلة، وفي أسوئها يحاصرهم ويعزلهم، أو حتى يحطمهم. في المقابل، يجد هذا البنيان الاستبدادي نفسه دوماً في صف تغذية التكوينات الاستتباعية التقليدية، معززاً الارتباط بالمحلة والعشيرة، والانضواء تحت لواء الطائفة، وتدعيم نفوذ الزعامات التقليدية في أوساطها. تُمسي هذه البنى وحدات سياسية للنظام، تضمن له ولاء جمعيّاً، وينال وجهاؤها اعترافاً ودعماً من «الدولة». تتطور أكثر وأكثر، بيئة اجتماعية ثقافية مؤسسية مختلفة كثيراً عن تلك التي تميز نظاماً ديكتاتورياً وطنياً (النظام الناصري في مصر) أو حتى نظاماً تسلطياً ذا ملامح شمولية، على ما كانت حال سوريا والعراق في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته. فالبنيان الجديد يقوم على ثلاث أسس: مركز سلطة مشخصة، يعرض سمات امتيازية أو «أريستوقراطية»؛ ومركب أجهزة قمعية ضاربة، قادرة على شل أو سحق أي خصم داخلي متصور؛ وطيف متنوع من دعامات اجتماعية وأهلية. من هذا الطيف وجهاء محليون وأرباب شعائر دينية ووجوه عشائر، وشخصيات نافذة بعلاقاتها أو مالها، ومثقفون «مستقلون» راضون مرضيّون. 2 ليس لأمر هذه النزعة المحافظة علاقة بمعلنات إيديولوجية أو دينية، بل لها علاقة أساساً بمبدإ حفظ السلطة وحاجتها إلى حشد الولاء حولها. بمنطق موضوعي، يقود هذا المبدأ إلى التخلي عن أي لون إيديولوجي محدد قد يكون موغِراً صدر قطاع من النخبة الاجتماعية، وإلى مراعاة نخب اجتماعية متنوعة، دينية وأهلية، وربطها بالنخبة العليا للحكم الاستبدادي. هذا لا يقتضي أن تكون صيغ التدين المحافظة من اختراع نظام الاستبداد الشخصي، أو أن رجال الدين المحافظين مجرد أتباع لنخب الحكم الاستبدادية. يتعلق الأمر بالأحرى، بضربٍ من «انتقاء طبيعي» يفوز فيه منهجياً الأكثر محافظة وتقليدية، ويخسر فيه منهجياً المجددون والمستقلون والسلوك الانشقاقي. هذا لحيازة الأولين سلطة اجتماعية مضمونة، يقتضي الحكم المؤبد كسبها إلى صفه (مع مراقبتها ولجم مطامحها المفرطة)، فيما التجديد هو تمرد على قواعد وأعراف قارة، ومجازفة بفقد الحماية الاجتماعية. حيازة النخب التقليدية، الدينية بخاصة، لسلطة اجتماعية مضمونة، وهو ما يغري المركز السلطاني بنيل ولائها، هو ذاته ما يجعل هذا الولاء غير مضمون تماماً. تحتاج الزعامات الدينية هذه إلى الحكم السلطاني أقل مما تحتاجه نخب أخرى تشكلت في ظله وتدين له بكل شيء. وخصوصا مع تراجع المنظمات السياسية والتيارات الإيديولوجية التغييرية وخمودها بآليات متنوعة في ربع القرن الأخير. لهذا ربما، تصطبغ العلاقة بين الطرفين بقدر من التجاذب وعدم الثقة. 3 في المحصلة يرتسم نوع من تقاسم عمل، تنفرد وفقاً له نخب الحكم بالسلطة العمومية والنفاذ الامتيازي إلى الموارد الوطنية والهيمنة الكلية في الدولة والمجتمع، بينما تتوسع النخب الدينية والأهلية في الميدان الاجتماعي والقيمي، وتحصل على منافذ للإثراء، ويجري تهميش المصلحين والمجددين، أفرادا أو مجموعات. وبينما تؤول السلطة العليا إلى مركز حكم سلالي، يُترَك للمجتمع أن ينتظم وفق العرف والتقليد، أو بالاعتماد على القيادات الاجتماعية التقليدية كوسطاء بين المركز السلطاني والجمهور العام، ويحول دون تكوّن قيادات غير تقليدية. فكأننا حيال صيغة جديدة من «سياسة الأعيان» التي كان تكلم عليها ألبرت حوراني وفيليب خوري في صدد بلاد الشام العثمانية في «عصر التنظيمات» في القرن التاسع عشر. مثل سابقتها التاريخية، ترتبط السياسة هذه في سوريا اليوم بتحولات اقتصادية اجتماعية كبيرة، تتمثل حاليا في «تحرير الاقتصاد» والتطور السريع لرأسمالية الحبايب والأصحاب، مما يحتاج إلى تناول مستقل. نشير فقط إلى ما تتمتع به الثروة (وقد أضحت أصلاً ثانياً للنفوذ العام، تتقدم عليه السلطة السياسية فقط) من قدرة على صنع المكانة والعراقة والامتياز، ما يجعل أهل الثراء مركز سلطة اجتماعية طبيعياً في البنية الجديدة. نميل كذلك إلى إقامة صلة بين هذا الشكل الجديد من التنظيم الاجتماعي وبين تراجع وزن «المنظمات الشعبية» (والنقابات) ومظاهر العسكرة الاجتماعية في سوريا خلال العقد الأخير. يبدو أن البورجوازية الجديدة تطور نظاما يشبهها، أقل دولانية وإيديولوجية وعسكرة، تتولى هي فيه الاتصال بقطاعات الجمهور الفاعلة وضمان ولائها. لكن لاتنبغي المبالغة في حجم هذا التطور الأخير. فمن غير المرجح أن يستغني النظام عن أدوات وآليات ضبط وتعبئة اجتماعية، تتيح له مراقبة قطاعات اجتماعية تزداد حرماناً وتهميشاً، ولا يكفي الشركاء من الأعيان الجدد للتحكم بها. هذا فوق أن إبقاء أجهزة كهذه، ضروري للحفاظ على ولاء كادر واسع أقل سلطة وثراء، يحرّك دواليبها، ويخفي مركز السلطة أو يسبغ عليه مظهراً عاماً و»شعبيا». يتعين التمييز بين البورجوازية الجديدة وطيف الأعيان الجدد. الأولى أثرياء سلطة عموما، فيما الثاني وجهاء اجتماعيون. الأولون قطاع من نخبة السلطة توجهت مطامحه نحو المال، والأخيرون قادة أهليون تتجه مطامحهم إلى مزيد من السلطة والثروة. وتشكل كلتا المجموعتين متن النخبة الاجتماعية التي يصطفيها الحكم السلطاني خليلة له. 4 لا ينبغي أن يكون ثمة وهم حول مَن من أجنحة النخبة له الكلمة العليا في هذه «الدولة السلطانية المحدثة». إنه نخبة الحكم الممسكة بزمام الدولة، أو المركب السياسي الأمني. إلا أن الشراكة مع نخب دينية وأهلية وأعيان محليين متنوعين، ظاهرة لا شك فيها. وهي ليست جديدة في الواقع، فقد انتهج النظام سياسة تأليف القلوب منذ أيامه المبكرة، لكنها كانت الخط الثاني، بعد خط أول تمثل في «المنظمات الشعبية» ومجمل الملحقات الجهازية الجسيمة لنظام جمع في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته بين الشعبوية والشخصنة. يظهر هذا الخط الثاني اليوم بوضوح بفعل التحول السلالي أو السلطاني للحكم من جهة، وتحت تأثير «تحرير الاقتصاد» وظهور البورجوازية الجديدة. ويبدو أن الحاجة إلى نخبة اجتماعية واسعة الطيف ومنزوعة الإيديولوجيا، تنمو مع ظهور التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، ومع التحول العميق في طبيعة السلطة في اتجاه سلطاني. ولعلها توفر للتشكل السياسي الاقتصادي الجديد سورا اجتماعيا ثقافيا يحميه. 5 الشراكة تلك والحكم السلالي، وجهان للبنية العضوية للاجتماع السياسي السلطاني المحدث. نتكلم على بنية عضوية لأننا نتبيّن انتظام المجتمع ككل في صورة تشكلات أهلية، مجزأة بطبيعتها، تحاكي صورة المركز السلطاني، فتعمل على تطبيعه ونزع غرابته. أيضا لأن نمط الحكم هذا يقترن ب»انتخاب» نخب أعيانية جديدة وترقيتها، مكونة من وجهاء محليين ورجال دين وأهل ثراء، يقوم نفوذهم على الولاء والوراثة والروابط الشخصية. فضلاً أيضاً عن ظهور أوسع للدين وإشاراته ورموزه في الفضاء العام. على أن النزعة المحافظة الجديدة قلما تأخذ شكلاً دينياً مناضلا. تأخذ بالأحرى شكلاً اجتماعياً أهلياً أو تقليدياً جديداً، مبرّأ من النضالية، لكن مع ولاء أكيد للمركز السلطاني المشخص، السلالي. النقطة المهمة هنا، من وجهة نظر تحليلية وسياسية، هي أن النظام هذا «خالق» للروابط والانتظامات الأهلية عبر آلية «الانتقاء الطبيعي» التي أشرنا إليها فوق. لا يخلقها من عدم طبعاً، لكنه ييسّر أمرها دون غيرها. فهو يعمل كمضخة للعلاقات الأهلية والروابط العضوية القائمة على العرف والتقليد في المجتمع المحكوم. هذا يعني أن لا سبيل لفهم وهن البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية الوطنية (العامة، المجردة، القانونية) إلا في إطار تشغل فيه بنى الحكم المستجدة ونمط التراكم الرأسمالي الجاري مركز التحليل. أو لنقل إن نزعات المحافظة الاجتماعية المنتشرة، بما في ذلك أشكالها الدينية، لا تقع خارج البنية الجديدة لإنتاج السلطة والثروة، ولا على هوامشها. إنها ظاهرة صميمية مميزة للنظام، وإن لم يقتض هذا في الضرورة أنه يتحكم بالشاردة والواردة فيها. ما يترتب على ذلك عملياً، أن مواجهة هذه الظاهرة من دون النظر النقدي في البنية الاجتماعية الجديدة ومن دون الانشقاق عنها والاعتراض عليها، على ما يفعل طيف متنوع من المتعلمين والناشطين الاجتماعيين اليوم، إنما يندرج في منطق تجدد النظام نفسه وتثبيت المركز السلطاني في موقع مرجعيته العليا الحصرية وحَكَمه الأخير. ويبدو أن الإسلاميين السياسيين، وهم منشقّون اجتماعيا (على القيادات الأهلية وعلى العرف القار)، من كبار المرشحين للخسارة من هذا التكوين الجديد. وإن لم نكن مخطئين كثيرا، فهم أنفسهم يعرضون باطراد ملامح توجهات تغلب فيها نزعة المحافظة الاجتماعية على النزعة التغييرية السياسية. ونُخمِّن أن المنطق ذاته الذي يقود من ديكتاتورية حزبية إلى ديكتاتورية شخصية إلى استبداد مشخص وسلطاني، يقود أيضا من إسلام سياسي نضالي، يطمح إلى الاستيلاء على السلطة العمومية بالقوة، إلى إسلام نصف سياسي متطلع إلى الهيمنة الاجتماعية، إلى ما قد يكون إسلاماً تقليدياً محدثاً، متوافقاً مع السلطانية المحدثة. إنه منطق تآكل الدولة الوطنية ونكوصها إلى مرحلة أسبق من التطور الاجتماعي والسياسي، الأمر الذي نرجّح أنه وثيق الصلة بإخفاقنا في تحويلها دولة ديمقراطية حديثة. ليست أقل محصلات هذه البنية نفسها، حرمان التجديد الاجتماعي أو الديني أو الثقافي من أي أطر حاضنة. فنظرا إلى كون وعوده مستقبلية، وتمركز الاستبداد المحدث حول تأبيد الحاضر، يذهب التجديد قرباناً على مذبح التفاهم بين نخبة الحكم السلطاني والأعيان الاجتماعيين والأهليين الجدد. وهو ما يضع الاستبداد المحدث في تعارض جوهري مع أي مشروع بعيد الأمد، أو خطة نهوض وطني عامة. 6 إن كان الأمر كذلك، وهو كذلك في ما نرى، فلماذا يبدو أنه غير محلل أو حتى غير مرئي من قبل المثقفين والمناضلين السياسيين، ممن يُفترَض أنهم أكبر الخاسرين بإطلاق؟ نرجح أن يكون السبب هو التجزؤ الاجتماعي والثقافي الشديد الذي هو سمة ملازمة للبنية الاجتماعية العضوية، والقطب المقابل والمُكمِّل لوحدة النخب السلطانية. أكثر المثقفين ليسوا خارج هذا الشرط. بل نقول إنهم مسلّمون له كل التسليم. يفضل كثيرون بينهم نسبة التجزؤ الاجتماعي وطفور التشكلات العضوية إلى خصائص ثابتة لمجتمعاتنا، يبدو أنها مكنوزة في «الثقافة» بخاصة. وهذه بنية متماثلة مع ذاتها عبر العصور والمجتمعات العيانية، لا تاريخية. ويبدو أن «الثقافوية» هذه هي الإيديولوجيا التي تصدر عن استبطان منطق التجزؤ الاجتماعي والبنى العضوية للدولة السلطانية، وتعكس تقدمه الحاسم في الواقع وفي وعي مثقفين أليفين. فوق اللاتاريخية والثقافوية، يتميز هؤلاء بمحافظة سياسية متشدِّدة ومناضلة، تسوِّغ اعتبارهم نخبة فرعية للحكم السلطاني. سِمَتهم كذلك، انعدام الحس الجدلي. لا يجري التساؤل البتة عما إذا كان للبنية السياسية السلطانية دور في إعادة هيكلة الثقافة والعلاقات الاجتماعية في اتجاه تقليدي محافظ، يضفي عليها الشرعية وينزع شذوذها. أما علامتهم العامة فهي استصلاح الحداثة رايةً مميزة. غموض المفهوم وطابعه المجمل وغير الصراعي، ملائمان لتمويه مواقع وانحيازات خاصة وعينية جدا. يسعنا القول، تالياً، إن البنى العضوية الجديدة تنتج المعرفة التي تثبِّتها وتكمِّلها: الثقافوية، والمنهج الذي يفترض دوامها ويضمنه: التفكير الماهوي (افتراض أن الحداثة ماهية ثابتة، مماثلة لذاتها دوما وغبر مختلطة بغيرها أبدا، ومثلها الدين، ومثلهما الغرب والطائفية والعلمانية)، فضلاً عن مثقفين لا يتجنبون بحرص بالغ قضايا السياسة والسلطة وحدها، وإنما أيضا الاقتصاد والتحولات الاجتماعية والعلاقات الدولية. إلى ذلك، يداوم عموم المثقفين العاملين على خوض الحرب الماضية، ضد الديكتاتورية العسكرية مرة، وضد الأصولية والردة الدينية مرة. قلما يجري تبيّن التحولات الجديدة السائرة نحو طي الصفحتين معا، ونحو أشكال جديدة من الهيمنة الاجتماعية، تقرِّب ما بين الخصمين السابقين (السلطات والإسلاميون)، وتقترن بالتناثر الاجتماعي وبتَعمّم التشكلات العضوية. بانفصاله عن رؤية الوقائع والديناميات الجديدة، ينقلب النضال ضد الديكتاتورية وضد الأصولية من عمل لتغيير الواقع ليمسي تعريفاً ذاتياً للمناضلين، أي هوية تميزهم عن غيرهم، ربما تعي ذاتها عبر شعارَي الديمقراطية والعلمانية. انقلاب إيديولوجيات العمل إلى إيديولوجيات هوية، يعني الاندراج في منطق التجزؤ الاجتماعي المخلد للواقع الحالي، من حيث يبدو أننا بالأحرى نعمل على تغييره. نوضِّح أننا نتكلم على «مثقفين عاملين» لتمييز مَن يثابرون على صيغ من العمل العام (بمردود متراجع)، ضمن طيف المثقفين الأوسع. هذا لأن من سمات التحولات الجارية انقطاع علاقة غالبية المثقفين بالعمل العام، وانكفاؤهم على مساراتهم المهنية ونجاحاتهم الذاتية. أكثر وأكثر، تتحول الثقافة من دور عام إلى مهنة خاصة. 7 إنما بغفلتها عن تحولات كبيرة وواسعة، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تقع النخب المستقلة، الثقافية والسياسية، في حقل جاذبية البنى العضوية المجزأة، وتفقد أكثر وأكثر المبادرة الفكرية والسياسية الفاعلة. هذا ظاهر اليوم في سوريا، وهي الإطار الواقعي لهذا التحليل. لا نفتقر إلى تفكير سياسي على المستوى الوطني، فحسب، بل كذلك إلى تحليل شامل يتناول الإطار الكلي للتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويرسم ملامح حقل الصراعات السياسية والإيديولوجية في البلاد. ليس السياسي وحده من لا يستغني عن تحليل كهذا، بل كذلك المثقف. بل لعل هذا أحوج، لكون الاستقلال مقوماً لمفهومه بالذات ولدوره الاجتماعي. استقلال المثقف غير ممكن إن هو لم يعمل على استجلاء العمليات الاجتماعية في محيطه، ويحاول توفير المفاهيم التي تتيح السيطرة العقلية عليها أو تملكها معرفيا. من دون جهد كهذا، نجازف بأن تكون مفاهيمنا انعكاساً سلبياً للبنية الاجتماعية السلطانية المتسمة بالعضوية والتجزؤ، فتساهم في مزيد من استتباعنا إلى هذا الواقع بدل الاستقلال عنه. هذه بالضبط، حال المقاربات الثقافوية الشائعة اليوم. إنها انعكاس إيديولوجي للاجتماع السلطاني المحدث وبناه العضوية. إلى ذلك، من شأن الغفلة عن المسارات والعمليات الجديدة أن يعزز «تخارج الدولة والقيمة» الذي كان عبدالله العروي قَرَنه بالدولة السطانية التقليدية، وبالتجربة السياسية الإسلامية عموما. لعل هذا الملمح الأخير هو تنويعتنا الخاصة من «نهاية الإيديولوجيات». الحكم السلطاني والبنية الاجتماعية السلطانية نازعان للإيديولوجيات العامة بصورة تتصل بلا ريب بالصفة العضوية المتنامية للتنظيم الاجتماعي وتآكل الفردانية والتجارب المستقلة والأفكار الطليعية، وكذلك الأحزاب والمنظمات السياسة. هذا فوق أن أي انتظامات مستقلة جدية، تحاول التفكير والعمل على المستوى الوطني، تتعرض للضرب والتفكيك. في المحصلة، تزول الإيديولوجيات العامة أو تخضع لتفتت شديد هي ذاتها، يضعف شخصيتها ويوظفها لإعادة إنتاج البنى العضوية الخاصة. ويهيمن اجتماعياً وثقافياً ضربٌ من البراغماتية الزاهدة في كل أنواع المبادئ العامة والأفكار الكبرى، والمتصالحة مع الواقع كما هو. لا يتحتم ذلك أن تزول القومية والاشتراكية والديمقراطية...، يكفي أن تتحول إيديولوجيات هوية، تميز مجموعات متحزبة تزداد ضيقا. ما يحصل للإيديولوجيات، يحصل للأحزاب السياسية التي هي المعادل السياسي المنظم للإيديولوجيات. هنا في الواقع جذر أزمة المعارضة الديمقراطية في سوريا. أما ما يتعرض له المعارضون من تضييق (وهو حقيقي)، وأما أوجه تقصيرهم وعيوب عملهم الذاتية (وهي حقيقية بدورها)، فأدنى تأثيرا بلا ريب من تحولات عميقة في بنية الدولة والمجتمع والاقتصاد، يفاقم من تأثيرها المفكك أنها غير منظورة وغير محللة. وينبغي أن يكون ذا دلالة أن النظام احتاج في طوره الحالي إلى قدر أقل من القمع السائل لتحجيم الناشط المعارض وإفقاده معناه. ليس أقل دلالة بعد التجزؤ العريق والمتجدد في الطيف المعارض، الذي يشير طابعه المعنِّد والممتنع على الإصلاح إلى جذور اجتماعية وثقافية بعيدة الغور. السمة المميزة للنموذج الاجتماعي السياسي الجديد، صفته العرفية البارزة، أو عدم تحمله أيّ مبادئ عامة أو قواعد مطردة. قد يضمن الخصوصية، بل وربما درجة أعلى من حريات الجماعات الأهلية المتناثرة، لكنه بعيد عن الفردانية، وعن المساواة، وعن العقلانية، وعن المواطنة. وعن الحزب السياسي والإيديولوجيا العامة والمثقف والدولة، هذه المداميك التي تنهض عليها البنية الوطنية والثقافة الوطنية والدولة الوطنية 8 أقامت هذه المقالة تحليلاتها على مقدمتين: مبدأ حفظ السلطة، وعملية التحول الاقتصادي «الليبيرالية». نضيف أن البنية الموصوفة هنا لم تنشأ بتدبير قصدي واع من فاعلين منكبّين على هندسة أمور السياسة والاقتصاد والثقافة بما يناسبهم. أشرنا إلى آلية «انتقاء طبيعي» لنخب اجتماعية، وإلى تنامي دور الثروة الاجتماعي والسياسي، وإلى تراجع وزن أجهزة مراقبة وتعبئة، وإلى ظهور ثقافة وآليات تفكير تبدو مناسبة للتحولات الجارية، ومثقفين مندرجين فيها ومناضلين من أجلها. يبقى أن نضيف أن جملة هذه التحولات تلقى تعزيزاً من تطورات عالمية، تسمّى كعمليات اقتصادية واتصالية العولمة، وكعمليات ثقافية واجتماعية ما بعد الحداثة. لكن يبدو أن تأثير هذه العمليات لا يقف لدينا عند بلقنة ثقافية متزايدة، كان ريجيس دوبريه وجدها سمة مميزة للعولمة (مقابل تجانس اقتصادي عالمي متنام)، وإنما يتعداها إلى انبعاث تشكلات اجتماعية وثقافية وسياسية كانت مميزة لما قبل الحداثة. يتملّكنا شعور مؤلم بأننا لا نكاد نحيط بشيء من هذه العمليات، ولا نتوفر على مفاهيم ومناهج تتيح لنا استيعابها معرفيا وثقافيا.