هناك أمام عينيها تمتد مساحة شاسعة توحي بالهدوء. أبهاء مدرسة «التقدم» التي تصعد منها أناشيد الصغار، ويصدر منها رنين أجراس الدخول والخروج والاستراحة. تذكر طفولتها هناك... في تلك المدرسة الأنيقة. نشيد الصباح قبل الولوج إلى الفصل، أمام فسقية الماء البيضاء، وتحت سقف الباحة الكبيرة، صفوف متراصة تتجه نحو الفصول بنظام وانتظام، يمر التلاميذ على حديقة جميلة تزينها نباتات شتى، ويصعدون الدرج حتى الفصل، في ذلك المكان شيء صغير من طفولتها الأولى. ترفع ذكرى رأسها باتجاه الأفق، فتتبدى لها من بعيد قنطرة وادي سبو.تقطعها شاحنة بسرعة مروعة، مخلفة وراءها غبارا أسود،يختفي الغباربعد ذلك،ويعود الهدوء. من بعيد تطل أعمدة معمل الكارتون وهي تطلق دخانها الأبيض المتصاعد نحو السماء، ما وراءها كان أفقا أخضر، فقط أشجار وأعشاب وخلاء، ولم يكن ذلك المكان هو القاعدة الجوية «لاباز» التي تتحدث عنها زهرة. هاجرت زهرة من «حد ولاد فرج»، وهي ابنة الرابعة عشر من عمرها، بعدما تزوجت من حمادي الذي خرج من قريته الصغيرة ببلاد سوس بحثا عن العمل. وما ان استقر به المقام بدكالة حتى عمل خماسا بإحدى الآراضي. بعدها هاجرا من هناك باتجاه آخر. عملت زهرة عند مريكان في القاعدة الجوية، تنظف البيوت، وتكوي الملابس، ثم تعود محملة بالحوائج التي كان يرميها الجنود من أقمصة وإزارات وأشياء أخرى، بالإضافة إلى الأكل والشوكولاه، خصوصا في أعياد الميلاد. تحكي زهرة أن أيام «مريكان» كانت جميلة،وتصفها بأيام الخير. وتروي كذلك عن أيام الجوع التي عرفتها في طفولتها: «ما كنا ناكلو غير مرة في اليوم،وخصوصا أعوام الحرب». «كان بويا يمشي للسوق، ومرة كل عام يشري كتان يقسموعلى زوج، ثم يخرق الثوبين من الوسط حتى يدخلوريوسنا، نلبس أنا وأختي الثوب، وتحزمنا أمي بحبل، إيوا ونفرتحوا للدوار حفيانات والفرحة ساكنه فينا.» تضحك زهرة من صميم القلب،فيبدو طقم الأسنان الاصطناعية،وتردف قائلة: «نعقل داز علينا عام حامت طيارات فوق سما أرضنا، ورمت بعلب القازان، وجمعنا ما عطانا الله من فضله وسميناه عام القازان.» حكت زهرة حتى أمالت رأسها على الجدار المقشر للسطح العلوي.بقع الجدار تشبه خرائط جغرافية تشد عيني ذكرى التي تسللت إلى عمقها وغاصت في تساؤلات: «ترى لماذا أنا مهووسة بالخرائط؟ لم أشعر بالحرية وأنا أتأملها وأسافر بين بحارها وسفوحها وجبالها؟ ولم أشعر أني أعرف جميع البشر حتى وإن لم نتكلم نفس اللغة؟» ترفع زهرة رأسها وتشير بيدها الغليظة إلى الأفق: «لم يتبقى شيء !اليوم تغير كل شيء.» وتطلق تنهيدة من عمق النفس ،ترشح أسى وحسرة. كانت ذكرى تنظر إلى دخان الأعمدة الذي ينخر قلب السماء، يقطع سرب من طيور سوداء مساحة الأفق، مهاجرا نحو الشمال، بعد قليل يختفي تماما وراء غيمات متناثرة. تعرف ذكرى أن كل من عبر من هنا قد هاجر بعيدا، وكثيرون هم من ذهبوا دون رجعة. فقد انقضت الأيام البهيجة التي تحاب الناس فيها بصدق وصفاء، فتحوا أبواب بيوتهم ليل نهار، وجمعتهم لقمة العيش الهنيء،ورشفة الشاي العذبة،وأحاديث الليل الغريبة التي تشد الأسماع،وتنعش الأرواح. تلك الضحكات سرقتها الأيام التي أقبلت بأنياب مكشرة، ومخالب جارحة للعلاقات الإنسانية. سادت الحرب والظلم والخيانة والحسد والأنانية،فأغلقت الأبواب، وتعفن كل شيء توارى خلفها. كان النهار قد أوشك على الرحيل حين أغلقت ذكرى عينيها وغرقت في وهدة النسيان. لثم الغروب قد جرح وجه السماء، وظلمة الليل أطبقت على المدينة القديمة، التي توارى بهاؤها خلف نقيع جيش جرار قذفته مواسم الهجرة. وزهرة التي كانت تحكي سكتت عن الكلام، وذبلت فوق الجدار المقشر للسطح العلوي.