صعدتُ السلم بسرعة غير مبالية لكعبي العالي أو لأناقتي التي ربما ستفقد رونقها على درج ما فتحت باب القاعة واااو.. كم هو مزعج صرير الباب العتيق. اخترت مكانا منزويا لكن قريبا شيئا ما من شاعري. في غفلة مني أسقطت كرسيا فارغا بجانبي الأيسر، اعتذرت من الكرسي. نظرات حادة تعاتبني يا لبؤسي يا لشغبي. ابتسمت لصديقي الفرنسي الذي انكب مؤخرا على تعلم اللغة العربية لاهتمامه بالكتابات والتوجهات الحديثة بمجتمعاتنا. التفتُّ نحو المنبر، شاعري غارق بطقوس قصيدته. لا يراني، لا يرى صديقي الفرنسي لكنه يخاطب شخصا ما بجانبي، استدرت بهدوء لأحيي ذلك المحظوظ بعطفه. غريب لا يزال المقعد الموجود على يساري فارغا لمن يبتسم إذا؟ بدوري أصابتني العدوى فابتسمت لي؟ للفراغ؟ لشاعري؟لخيبتي؟ عدت لمتابعة قصائده الغارقة في الكينونة والصيرورة ونيتشه وكانط وميكيافليي و... أبحث في الوجوه علني أجد من يقاسمني ذهولي. هناك بالمقاعد الخلفية شاعرة... كاتبة... قارئة... ترتب أوراقها تتمتم كلمات وكلمات، تصارع حيرة الاختيار بين نص ونص، ربما ستطل علينا هي الأخرى بنتشيه آخر ضائع بين خطوطها العريضة. بالصفوف الأولى شاب بمقتبل العمر يراقب ذبابة، بلاشك ضلت طريقها للقمامة، بينما شاعري يتفنن في قراءة القصيدة (النص كما يشتهي أن يلقبها) والهيمنة على دورة عقارب الزمن. أنظر الى صديقي الفرنسي لقد غفا فوق مقعده بعدما تعب من البحث عن كنه كلمات لم يجد لها معنى بقاموس تعلّماته العربية . بلاشك يبحث عن استراحة فكرية أتعبها الجزء المُترجِم من فكره فأغلق عينيه، تململ قليلا ثم فتحهما من جديد. أخذ كتابا من حقيبته، تصفح أوراقه لعله يستعيد ثقته بلغته الجديدة. على صوت مجلجل لآخر مقطع من النص انتبهتُ لهذا الشخص الماثل أمام المايكروفون. آه تذكرت كان يلقي نصا عظيما مهما طويلا شغلتني عنه تصرفات صديقي الفرنسي والشاعرة الحائرة والشاب والذبابة وسر الكرسي الفارغ بجانبي الأيسر. انتهت القصيدة القصة، شاعري تنازل عن عرشه. أردت القول: نزل من منبره. انه قادم نحوي! انه يبتسم لي! انه يقترب مني! يا لتواضعه! كم كنت مخطئة باتهامه بالتعالي والغرور. وقفت مزهوة أنظر للجمهور العريض بعدما اختارني دونه هذا الكائن الأسطوري. وقفت مهنئة له، مددت يدي، لا بل فتحت ذراعي فرحا بالحدث. تسمرت مكاني وانا أراه يتجه نحو المقعد الفارغ على يساري الذي أسقطته ببداية السهرة. بكل ثقة وسكينة ربتَ على أوراقه ثم تمتم بهدوء. سقط همسه بأذني: كم كنتُ رائعا أيها الشاعر.