أمستردام، ذلك الجمال الذي لا يمكن تجنبه، وصدى خرير الماء بالقنوات في الذاكرة، عبر الطريق الذي لم أختره، استجابة ربما لموسيقى غير مسموعة مخبأة في الحدائق وومضات العيون السائحة بالمكان. أمستردام، مدينة الحلم السعيد تبتعث رومانسية العصور، تأسرك بصمتها الحكيم وثرثرة ورودها المسترخية في شرفات المنازل. شوارعها المقفلة - أغلبها - في وجه السيارات تُحيلك إلى متاهة من الأزقة ذات البيوت الرصينة التي تحمل الكثير الكثير من نوستالجيا القرون التي تركت إمضائها بكل زاوية. ربما يطيب لك أن تستأجر مركباً ذو سقف زجاجي يطوف بك من بداية محطة أمستردام الرئيسية وساحة دام سكوير عبر مئات الكنالات المائية وصولاً حتى بحر الشمال. ستسمع بلغات ثلاث، الهولندية الألمانية والانجليزية تاريخ كل زاوية وحي وشارع وميدان تمر به، تروي لك تاريخ البيوت وقصص الذين سكنوها. ستضحك للمنازل التي تهّرب أصحابها من الضرائب فبنوها بشكل طولاني اعتمادا على مساحات صغيرة اضطروا معها لبناء ردهة ضيقة تفتح على باب البيت الصغير مقتطعين من الجدارن نوافذ كبيرة مفضلين إدخال أثاثهم من خلالها بخطاطيف معلقة على أسطح القرميد الذي تراه في كل المباني هناك. ستندهش للبيوت المائلة بفعل تأثير الرياح فباتت كما لو أنها تشارف على السقوط دون أن تقترفه، مثبتة بقوائم خشبية تصل إلى عمق البحر حيث يرقد جزء كبير من أمستردام. وعلى بعض القناطر يقف مجموعة من المشردين يتناوبون على إبهار المارة بالعزف على الساكسفون أو الأكورديون، قد يبستم البعض منهم لك وقد يلّوح بيديه أو بآلته أو قد يرقص جذلاً مُعرباً عن ترحيبه. وستلاحقك أسراب البط الأبيض والمقلّم وهي تخوض في المياه حولك ثم تطير كأنها تحتفي بفضاء تلك المدينة التي تحتشد جمالاً وترفًا. ستمر بمئات القنوات المائية والجسور حيث تصطف آلاف الدراجات الهوائية لشعب بأكمله استبدل السيارة بدراجة وصمّم على تحدي مناخه البارد بقيادتها في كل فصول السنة، غير مكترث للبرد القارس الذي يهب أغلب العام على مدينة تعشق الاغتسال بلفحات البرد صباحاً. وأخيرا، قد تقف عند سوق الزهور حيث يحتفي الماء بالورد وينهض بعريه القدسي في مقامات التوليب والبنفسج. ذاك المكان الوحيد بالعالم حيث تتحول القوارب والبيوت العائمة على ضفاف القنوات إلى جنائن من الورود والنباتات بحي سينجل الشهير. الورود هناك في كل مكان تبسط للناس يديها، تُداعب وجوههم المتوحدة، تتقدّم ككائنٍ خجول مضطرب وقدير معاً، كي تتعرف على فرحهم، ولا تفتأ تنعقد جذورها وتلتف وتنبسط متأملة انسيابه وهو يهمس بجوارها.