«هل أعار الطائر جناحيه تلك الشجرة؟ كلما هبت ريح مالت الأغصان حيثما الريش يميل».. بمثل هذه الصورة الشعرية الجميلة، يعيدنا الشاعر المغربي محمد الصالحي، إلى يفاعة شاعريته التي لم تزدها الأيام إلا صفاء، مثلما يصفو الماء الخارج من بين الحصى في الجبال.. وفي مكان ما، نستشعر أن البئر التي يغرف منها الشاعر، هي بئر الأعالي هناك في طفولته البعيدة في جبال سوس.. ذلك أن الصورة الشعرية التي يبنيها في ديوانه المزدوج الجديد، الصادر بالقاهرة، عن دار أرابيسك للنشر، هي صورة مثقلة بتجربة حياة، مع عناصر الطبيعة البكر، تلك التي تكون لها لغتها الآسرة، من خلال حديث الريح مع أوراق الشجر، أو حديث الماء مع صلصال الجبال وحصى الأودية.. ومن خلال قراءة قصائد ديوانه الجديد هذا، خاصة قصائد الجزء الثاني منه «أتعثر بالذهب»، يأتي إلى العين لون أوراق شجر الصفصاف، وهي تتمايل مع الريح بياضا واخضرارا، بذات الصوت الحفيف الذي لا يتعب من مناجاة المدى، ومن بعث رسائل الشوق إلى الأعالي، وإلى المنحدرات.. محمد الصالحي، الشاعر المغربي الذي ينتمي إلى جيل الثمانينات، هو من القلائل من هذا الجيل الذي لا يزال وفيا للقصيدة، بذات الشغف البكر للعشق الذي أخده إلى حياضها، هو الخارج من معمدان الفعل المناضل لجيل من الطلبة المغاربة الذي آمنوا بإمكانية أفضل للعيش، وحاولوا بناء معنى للوجود، يكون معنى جماعيا لجيل كامل من المغاربة.. حلم، أن يكون المغرب أجمل في أعين أبنائه. ويكاد يكون ذلك الجيل، غارقا في «رومانسية» أدبية، فيها الكثير من جمالية الواقعي، مما أعطى لنا أصواتا شعرية مفارقة، تسجل لإضافتها النوعية ضمن ديوان الشعر المغربي.. الجميل في الديوان المزدوج الجديد لشاعرنا، والذي هو بعنوان: «أحفر بئرا في سمائي، يليه، أتعثر بالذهب»، هو انتصاره لتقنية قصائد الهايكو اليابانية، الأشبه بالمقاطع الشذرية، التي تسمح بعمق تأملي فلسفي رفيع، من قبيل: « آه كم هو مؤنث هذا الندم» ( قصيدة تأنيث). أو: « ليس الشاعر الكائن الوحيد الذي يتقن عمله من غير إدراك: الريح كذلك» ( قصيدة سهو). أو: «حيرة الريح: لا تحريك الشجر أروم، بل محو ظلاله» (قصيدة دأب)... بهذه الصور الفاتنة يأخدنا الشاعر محمد الصالحي، إلى مدى آخر للفرح بالمعنى، من خلال الإنزياح الذي تصنعه، وتبدعه، الكلمات. وهو الإنزياح الذي يرسخ شاعريته فينا كقراء، لأنه يسمح لنا بالفرح بالصور، تلك التي تخصب الجمال في دواخلنا، وتسمح للعين أن تجدد رؤيتها للعلائق وللمعاني، بالشكل الذي يعمق من سؤال الذات أمام الوجود في لا نهائيته الآسرة، ربما في شاعريته الممتدة أيضا. ذلك أن الجود ذاته هنا، يتحول إلى إبداع شاعري، مغر بالسؤال والتأمل، مثقل بالمعنى، ذاك الذي لا يخلق بالضرورة الرضى، بقدر ما يستثير السؤال وراء السؤال، في متوالية لا نهائية.. يكفي أن قرأ هذا النص لوحده، كي نفرح عاليا بشاعرية الديوان المزدوج الجديد لشاعرنا المغربي محمد الصالحي.. الذي هو بعنوان «خرير»: «ليس الخرير صوت المياه. الخرير أنين الحجر»..