وأنا أغادر أمستردام، استوقفني مجددا شكل مبانيها المتميزة وهندستها البديعة، والقنوات العديدة التي تخترق شوارعها النظيفة التي تم تبليطها بحجارة مستطيلة الشكل تجعلك تحس وكأنك تطأ أرضا رومانية. مدينة حافظت على طابعها الخاص على امتداد قرون من الزمن، وهي التي لم تكن في متم القرن الثاني عشر الميلادي سوى قرية صيد صغيرة، حيث استقر حينها بعض الصيادين على ضفتي نهر «أمستل» الذي يخترقها، والذي يعتبر أصل تسميتها والبوثقة التي انبلج منها نور المدينة ليسطع على كامل البلد ويقود نهضته، التي لا تزال مشعة إلى حدود اليوم. وقد يستغرب الكثيرون من زوار المدينة عندما يرون أن العديد من منازل المدينة تميل في اتجاه بعضها البعض، وكأنها فقدت دعاماتها التي تسندها وتحافظ على توازنها. والحقيقة أن الأمر مرده إلى الطريقة المتميزة التي شيدت بها المدينة، حيث أخبرنا أحد العارفين بتاريخ المدينة أن تلك المباني، خصوصا الموجودة في قلب المدينة، أقيمت فوق مياه نهر «أمستل»، بعد أن تم تثبيت أطنان من الخشب في قعر النهر مشكلة أساس تلك المباني، لكن مع مرور السنين وبفعل حركة مياه النهر، تتزحزح تلك الأخشاب عن مكانها شيئا فشيئا متسببة في ميلان المنازل، لكن دون أن يشكل ذلك خطرا على ساكنتها. ولقد بلغ الأمر بمهندسي المدنية، عندما لاحظوا ميلان المنازل، أن جعلوا من المباني التي تأتي في آخر الأزقة مائلة في اتجاه المباني الموجودة على الجانب الآخر من الزقاق، ليزيدوا من الرونق المعماري للمدينة. والأكيد أن ظاهرة ميلان المباني قد وُضعت في الحسبان منذ البداية، والدليل أنه لم يتم تسجيل انهيار أي مبنى بسب ذلك، الأمر الذي ذكرني بما قاله أحد المحاضرين الهولنديين، عندما ركز على تمسك الهولنديين بوضع حسابات مسبقة على المدى البعيد، الأمر الذي اكتسبوه من تجربتهم مع خاصية بلدهم الذي يوجد تحت سطح البحر مما يضطرهم لوضع حسابات مستقبلية لما يمكن اتخاذه من إجراءات للحيلولة دون أن تغرق مياه البحر والفيضانات بلدهم بالكامل. أمر آخر لا يمكن أن يفوت زائر المدينة بمجرد مغادرة محطة القطار الرئيسة هو ذلك العدد الكبير من الدراجات الهوائية. فالجميع في أمستردام يملك على الأقل دراجة واحدة، رجالا ونساء، أطفالا وشيوخا، موظفين ومدراء ومياومين. لا برد الصباح الباكر ولا الأمطار التي تهطل بدون سابق إنذار تحول بينهم وبين قيادة دراجاتهم، ولا عجب أن تجد المرائب العمومية بالقرب من محطة القطار أو مختلف مراكز المدينة تغص بالمئات، بل بالآلاف من الدراجات، حتى ليخال لك أن الناس هناك تخلوا عن استعمال السيارات، بل وقد يبدو الأمر كذلك فعلا وأنت تتأمل الوضع في ملتقى الشوارع عندما تشاهد بضع سيارات فقط تحيط بها العشرات من الدراجات الهوائية. والمدينة هي الأخرى سايرت هذا التوجه الذي اختاره سكان المدينة، فخصصت ممرات خاصة بالدراجات وإشارات مرورية تمنحها الأسبقية، وفرضت قوانين يلتزم بها مستعملو الدراجات ويعاقبون على خرقها بدفع غرامات مالية. صور من هنا وهناك عشتها طيلة خمسة عشر يوما في رحاب المدينة، مرت بذهني وأنا في طريقي إلى المطار، صور للنقاشات التي احتضنتها «الأكاديمية الأورو متوسطية للصحافيين الشباب» بحضور ثلة من الأساتذة الدوليين وصحافيين شباب من ثمانية عشر بلدا، صور لوضعية المهاجرين في ذلك البلد، وبعض «سفراء» المغرب هناك، وصورة ذلك البلد الذي يظل، كيفما كان الحال، صورة مصغرة لأوربا المتعددة الأصول والثقافات.