تجسد مشاركة المغرب بوفد رفيع المستوى في القمة العربية، التي احتضنتها بغداد يومي أمس وأول أمس، الانخراط الفاعل للمملكة لفائدة التضامن العربي والتزامها الراسخ والمسؤول على درب العمل العربي المشترك. ومنذ انضمامها للجامعة العربية سنة 1958، ما فتئت بلادنا تضاعف مبادراتها في خدمة القضايا العربية وتبدي دينامية فاعلة داخل الأمانة العامة للجامعة، وكذا داخل الهيئات والأجهزة التابعة لها. وما فتئ المغرب، كذلك، يضاعف مبادراته لتعزيز العلاقات بين الدول الشقيقة على أساس احترام سيادتها، مبرهنا بذلك على التزام ثابت وتعبئة مستمرة في الدفاع عن القضايا العربية. كما انخرط بشكل نشيط في هيئات جامعة الدول العربية، تشهد على ذلك دينامية ممثليه بالأمانة العامة لهذه المنظمة، مثلما هو أمره بباقي الآليات والمنظمات العربية المتخصصة. وقد تم التعبير بشكل واضح عن هذه التعبئة الثابتة للمملكة من طرف جلالة الملك محمد السادس في خطابه الموجه إلى القمة العربية 21 المنعقدة بالدوحة عام 2009 «إن انخراط المغرب في جهود المصالحة العربية، مثل التزامه بعملية السلام، ليجسدان خياره الاستراتيجي الراسخ في التعامل مع القضايا المصيرية لأمتنا، وفي طليعتها قضية فلسطين، بروح الحوار والتوافق والتضامن، وفي إطار الحق والشرعية». ويتمثل هذا التوجه في عدد من المبادرات الرامية إلى تعزيز العمل العربي المشترك، حيث تحضر في مقدمة الانشغالات القضية الفلسطينية والرغبة في التوصل إلى حل عادل ودائم وشامل للنزاع العربي - الإسرائيلي تخرج بموجبه إلى النور الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. كما يبرز هذا التوجه في العناية الخاصة التي ما فتئ جلالة الملك يوليها للمدينة المقدسة للحفاظ على خصائصها الثقافية والحضارية والدينية، لاسيما عبر وكالة بيت مال القدس. وضمن نفس التوجه، ساهم المغرب في الجهود العربية والدولية الرامية إلى تحقيق سلام عادل، ودائم وشامل في الشرق الأوسط، علما بأن المملكة احتضنت، من بين 23 قمة للجامعة العربية ست قمم، وهو أكبر عدد من القمم يعقد خارج القاهرة مقر هذه المنظمة العربية. وهكذا، احتضن المغرب الدورة الثالثة للقمة العربية في الدارالبيضاء عام 1965، التي توجت بتوقيع «ميثاق التضامن العربي»، الذي أكد على أهمية احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. وخصصت القمة العربية الخامسة في الرباط (1969) حصريا للقضية الفلسطينيةوالقدس الشريف عقب جريمة إحراق المسجد الأقصى، بينما تم في القمة العربية السابعة بالرباط (1974) إعلان منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني وشدد على حقه في دولة مستقلة على جميع أراضيه المحتلة منذ 1967. وكانت المملكة أيضا قد استضافت القمة ال12 لفاس التي جرت على مرحلتين، الأولى في أكتوبر 1981 والثانية خلال شتنبر 1982. وصادق هذا اللقاء على مشروع السلام العربي تحت مسمى «مخطط فاس» الذي يحدد مبادئ السلام مع إسرائيل. وفي ماي 1985 و1989، احتضن المغرب القمتين العربيتين الاستثنائيتين اللتين تتوجتا أساسا بتكوين لجنتين مكلفتين بالمصالحة العربية وتحضير عودة مصر إلى حاضرة الجامعة وكافة هيئاتها. وما فتئ المغرب المتشبث بموقفه الداعم للقضايا العربية العادلة، يبذل، بكل مسؤولية، كافة الجهود الضرورية داخل الجامعة العربية وهيئاتها من أجل الدفاع عن قضايا البلدان الشقيقة كالعراق والصومال والسودان. وتضاعف المملكة، العضو حاليا باللجنة الوزارية للمبادرة العربية للسلام والعضو غير الدائم بمجلس الأمن الدولي، الجهود في مختلف المنتديات الإقليمية والدولية، في أفق تفعيل هذه المبادرة بالشرق الأوسط. وكان المغرب قد شارك بشكل فعال في اللجنة العربية الثلاثية الأطراف حول لبنان واللجنة العربية المكلفة بقضية دارفور وفريق الاتصال مع ليبيا ومن أجل تسوية الأزمة السورية. وانطلاقا من هذه القناعة، تندرج مشاركة المغرب بقمة بغداد في الدينامية التي تسلكها دبلوماسية المملكة لفائدة القضايا العربية، والمستندة بشكل دائم على مقاربة ركائزها الواقعية والالتزام والمسؤولية. وشارك المغرب في هذه القمة العربية ال23 للجامعة العربية، والأولى بعد الاحتجاجات التي جاءت في سياق الربيع العربي، بوفد هام قاده وزير الشؤون الخارجية والتعاون سعد الدين العثماني، الذي قال، أول أمس الأربعاء في تصريح لقناة «العراقية» على هامش اجتماع وزراء الخارجية العرب، إن «تحقيق التكامل العربي يستدعي إطلاق مشاريع مشتركة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي وإذا لم نتجاوز خلافاتنا السياسية، فإنه لن يكون من السهل إرساء أي اندماج». فالدول العربية ال22 الأعضاء في الجامعة العربية تغطي مساحة تزيد عن 13.9مليون كلم مربع (ثاني مساحة في العالم بعد روسيا) وتقطنها حسب تقديرات سنة 2007 ساكنة تقدر بحوالي 340 مليون نسمة ما يجعلها تحتل المرتبة الرابعة من حيث عدد السكان بعد الصين والهند والاتحاد الأوروبي. و الحضور القوي للمغرب في محيطه الإقليمي، أكده جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي الموجه للقمة العربية ال21 بالدوحة (2009)، بالقول إن الأسبقية التي تحظى بها القضايا السياسية، على أهميتها، لا ينبغي أن تحجب الرهانات التنموية الكبرى، باعتبارها دعامة الأمن القومي وجوهر انشغالات الشعوب الشقيقة. كما أبرز جلالة الملك أن مناعة الأمة العربية، تكمن في مدى قدرتها على التعاون التنموي، في فضاء اقتصادي عربي، حر ومنفتح، قائم على شراكات حقيقية، واندماجات إقليمية. ولأجل تحقيق ذلك، فقد كان المغرب من أوائل الدول التي طالبت بإصلاح الجامعة العربية وتحديث هياكلها وتطوير آلياتها. ووعيا منه بأهمية التضامن والعمل العربي المشترك، دعا جلالة الملك خلال قمتي عمان (2001) وشرم الشيخ (2003)، إلى تجديد العمل العربي المشترك وخلق جو أخوي حقيقي عبر اندماج اقتصادي تدريجي. وبالنسبة لجلالة الملك، فإن هذا المسلسل يتعين أن يقوم على إحداث تكتلات إقليمية تمكن من إرساء فضاء اقتصادي معزز يكون بمثابة قاعدة لإقامة سوق عربية مشتركة تمكن الدول العربية من المساهمة في المنتديات الدولية باعتبارها قطبا اقتصاديا قادرا على الدفاع على مصالحه الاقتصادية الحيوية، مبرزا جلالته أن هذه المقاربة ينبغي أن تقوم على إطار مرجعي مشترك ومفتوح أمام جميع الفاعلين المؤثرين (أحزاب سياسية ونقابات ومنظمات غير حكومية وقطاع خاص)، وذلك بهدف تحقيق تكامل اقتصادي قادر على ضمان تنمية مستدامة. وفي السياق ذاته، أكد جلالة الملك في الخطاب السامي الذي وجهه إلى القمة الاقتصادية العربية بشرم الشيخ (19 يناير 2011) أن إعطاء مضمون ملموس للعمل التنموي العربي يقتضي إقامة تعاون وتكامل واندماج حقيقي. وأضاف جلالته أن ذلك يقتضي أيضا تقاسما فعليا للتجارب والكفاءات والمؤهلات، وذلك في نطاق رؤية شمولية، كفيلة بتطوير برامج العمل الوطنية، والاستثمار الأمثل الموارد البشرية والطبيعية الهائلة. هذه بالضبط هي الرؤية التي تندرج في إطارها المشاركة الفاعلة للمغرب بالجامعة العربية كما في باقي التكتلات الإقليمية كالتعاون العربي الأوروبي، والإفريقي-العربي، والتعاون مع دول أمريكا اللاتينية والتعاون العربي مع الصين وروسيا والهند واليابان وتركيا. كما أن المملكة القوية بهذه الدينامية، والتي كانت وراء التعاون الإفريقي-العربي المقرر في قمة الرباط سنة 1974، ستظل وفية لجذورها الإفريقية ولامتداداتها المغاربية والعربية والإقليمية وفق مسار مركزي ومنفتح على المنتظم الأممي.