دعا جلالة الملك محمد السادس حركة عدم الانحياز إلى الانخراط الإيجابي والإسهام البناء في إرساء قواعد حكامة جيدة، منصفة ومتوازنة، بما يكفل تثبيت السلم والأمن الدوليين وتحقيق التنمية البشرية المستدامة. وقال جلالة الملك، في خطاب إلى القمة الخامسة عشرة لحركة عدم الانحياز المنعقدة بشرم الشيخ (مصر)، تلاه الوزير الاول السيد عباس الفاسي، «إن حركتنا مؤهلة للنهوض بدور الشريك الجدي والملتزم، الحريص على الإسهام البناء في تعزيز إطار التشاور والعمل الدولي، بغية إيجاد حلول ناجعة ومتوافق عليها لمختلف الأزمات العالمية الراهنة والحد من تداعياتها الوخيمة». وفي ما يلي نص الخطاب الملكي: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه. السيد الرئيس، أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالي، حضرات السيدات والسادة، يطيب لي، في البداية، أن أعرب لأخي المبجل, فخامة الرئيس محمد حسني مبارك، عن تهانئي الصادقة، بمناسبة توليه رئاسة حركة عدم الانحياز، منوها بما وفرته جمهورية مصر العربية الشقيقة من ظروف ملائمة لإنجاح هذه القمة الهامة. وإني لواثق من أن ما يتحلى به فخامته من حكمة وحنكة، وما للدبلوماسية المصرية من وزن، إقليميا ودوليا، سيمكنان حركتنا, تحت رئاسته الرشيدة، من إسماع صوتها وتثبيت حضورها، كإحدى الهيآت الدولية الفاعلة, في دعم السلام العالمي، وترسيخ القيم الإنسانية المثلى، والمضي بها قدما على طريق الإصلاح والتأقلم مع التحولات التي يشهدها عالمنا، منذ مطلع الألفية الثالثة. ولا يفوتني، في هذا المقام، أن أنوه بالرئاسة الكوبية، لما أبانت عنه من حنكة وتبصر، في إدارة وتنسيق أعمال حركتنا, وعلى ما بذلته من جهود محمودة، من خلال حرصها على سيادة روح التوافق بين الدول الأعضاء. كما أود، بهذه المناسبة، أن أعرب لكم عن دعم المملكة المغربية الكامل للجهود الهادفة لإعادة الإشعاع والدينامية المنشودين لحركتنا وجعلها قوة اقتراحية وتفاوضية وازنة، قادرة على التفاعل مع التحديات والتحولات العالمية المتسارعة، من أجل تحقيق توازن أكبر في العلاقات الدولية، وإسماع صوت الدول النامية في المحافل متعددة الأطراف. ولن يتأتى ذلك، إلا بالتزام جميع الدول الأعضاء بمبادئها وأهدافها،بل إن ذلك يظل رهينا بمدى قدرتنا على التغلب على الخلافات البينية والمفتعلة، والتزامنا بخلق أرضية مشتركة للتضامن والتعاون، لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية. السيد الرئيس، أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالي، إذا كان العالم قد خرج، في نهاية القرن المنصرم، من مخاض الاستقطاب الإيديولوجي, فإنه يجد نفسه اليوم، أمام تنامي هيمنة المصالح الوطنية، في ظل عولمة كاسحة، تدفع في اتجاه خلق تكتلات جهوية، قوية وفاعلة، وحكامة دولية، مختلة وغير منصفة. ولعل من أهم إفرازات هذا الوضع، بروز تهديدات شمولية، متمثلة في الأزمة المالية والاقتصادية العالمية, بكل تداعياتها السلبية المتزايدة، اجتماعيا واقتصاديا. كما يتميز أيضا بأوضاع سياسية هشة في العديد من مناطق العالم. فضلا عن الانعكاسات المقلقة للتغيرات المناخية، وتفاقم آفات البطالة والفقر والأمراض الفتاكة, ومعضلة الهجرة السرية والقرصنة، والاتجار بالأشخاص، والجريمة المنظمة، وانتشار أسلحة الدمار الشامل. ومما لا شك فيه أن المبادرات الأحادية، في مواجهة التداعيات العميقة لهذه القضايا الشمولية، تبقى غير مجدية، ولا ترقى إلى مستوى فعالية العمل الجماعي المنسق، في مقاربة الرهانات المصيرية، ورفع التحديات العالمية، والتغلب على الأزمات الدولية التي تواجهنا جميعا. وإن المملكة المغربية إذ تعبر عن اقتناعها الراسخ بضرورة الالتزام بمبادئ حركة عدم الانحياز، كقاعدة للسياسة الخارجية لأعضائها, فإنها تؤكد ضرورة العمل من أجل تجديد هيكلتها، وإصلاح مناهج عملها, بغية تطوير وعقلنة إطارات التشاور البناء والتوافقي, وبلورة آليات اندماج عمل جماعي، فاعل ووازن. ومن هذا المنطلق, فقد أضحى من الملح العمل على تعزيز مختلف أشكال التعاون جنوب-جنوب، وتفعيل برامج التعاون، ضمن الفضاءات البين- إقليمية والمنتديات القارية، إضافة إلى تنسيق أكبر مع مجموعة السبعة والسبعين زائد الصين. وإن تكثيف هذا التعاون بين دولنا، وتوسيع مجالاته، لا ينبغي أن يؤثر على دور ومكانة التعاون مع دول الشمال، القائم على شراكات مثمرة ومتعددة الأبعاد، تطبيقا للالتزامات التي أخذتها هذه الدول على نفسها، أثناء المؤتمرات الدولية ذات الصلة. ذلك أن الحوار الحقيقي بين الشمال والجنوب، أصبح ضرورة ملحة، وحلقة أساسية في مسار الجهود التي يبذلها المنتظم الدولي، من أجل بلورة أجوبة ناجعة للقضايا الشاملة, ومواجهة ما ينتج عنها من أوضاع مقلقة، تهدد تحقيق السلم والأمن والتنمية. وفي هذا السياق، نلح على أهمية تحريك مفاوضات الدوحة، بشأن تحرير التجارة العالمية، بما يسهم، بروح التضامن والتوافق، في تعزيز النظام التجاري متعدد الأطراف والتحكم، بشكل أفضل، في الاختلالات القائمة بين الشمال والجنوب. السيد الرئيس، أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالي، إن حركتنا مؤهلة للنهوض بدور الشريك الجدي والملتزم، الحريص على الإسهام البناء في تعزيز إطار التشاور والعمل الدولي، بغية إيجاد حلول ناجعة ومتوافق عليها، لمختلف الأزمات العالمية الراهنة، والحد من تداعياتها الوخيمة. ولهذه الغاية، فإن حركتنا مدعوة، أكثر من أي وقت مضى، إلى الانخراط الإيجابي, والإسهام البناء، في إرساء قواعد حكامة جيدة، منصفة ومتوازنة، بما يكفل تثبيت السلم والأمن الدوليين، وتحقيق التنمية البشرية المستدامة. وبالرغم من الوضع الدولي المقلق، فإن هناك بوادر انفتاح تبعث على التفاؤل، فقد عبرت بعض القوى الدولية الكبرى، عن إرادتها في التعامل الإيجابي مع بعض القضايا الشاملة, سواء تعلق الأمر بتعزيز الحوار بين الحضارات، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتكريس ثقافة احترام حقوق الإنسان، والعمل على حل النزاعات الإقليمية المزمنة. وهي مؤشرات مضيئة في اتجاه إعادة صياغة الأجندة الدولية، وفق التزامات جريئة وواضحة. وهو ما يتطلب من حركتنا، كشريك وازن، التفاعل الايجابي مع مجهودات المجتمع الدولي، لبناء عالم أكثر ديمقراطية وأمنا، وعدلا وتضامنا ،وذلك من خلال إحداث آليات للتحرك، ومواكبة الأحداث والتطورات الدولية، والتأثير فيها، حتى لا تظل حركتنا في حالة رد الفعل, وحبيسة شعارات حماسية، أو خطابات نوايا، لا ترقى للعمل الملموس ولمستوى قدراتنا ومؤهلاتنا. وفي إطار التضامن الدولي من أجل السلام والتنمية، يتعين علينا مواصلة جهودنا البناءة وتعبئة طاقات حركتنا, لإخماد بؤر التوتر والصراع، بالحلول السلمية والناجعة, والعمل على تسوية الخلافات البينية والجهوية، وخاصة بالشرق الأوسط وبقارتنا الإفريقية. وفي هذا الإطار، فقد حظيت القضية الفلسطينية، منذ نشأة حركتنا، بتأييد مطلق ومتواصل من أعضائها, مكنها من حشد دعم دولي واسع، للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني, وفي طليعتها إقامة دولته المستقلة, وعاصمتها القدس الشريف، في إطار رؤية الدولتين. وبصفتنا رئيسا للجنة القدس، نؤكد التزامنا بمواصلة العمل الصادق، مع جميع الأطراف المعنية، والقوى الدولية، من أجل إقرار سلام عادل ودائم وشامل بمنطقة الشرق الأوسط، في إطار قرارات الشرعية الدولية، و«خارطة الطريق»، ومبادرة السلام العربية. كما نعمل صادقين، على المحافظة على الوضع القانوني لمدينة القدس الشريف، وصيانة رموزها الدينية المقدسة، والدفاع عن هويتها الروحية والحضارية، كفضاء للتسامح والتعايش بين الديانات السماوية ،فضلا عن إسهامنا, بمشاريع ومبادرات ملموسة، في دعم صمود ساكنتها من إخواننا الفلسطينيين. ووفاء من المغرب لمبادئ وأهداف حركتنا، فإنه ما فتئ يعمل على تجسيد تضامنه الدائم والمتجدد مع أشقائه الأفارقة، بمبادرات واقعية وملموسة، لتحقيق التنمية المستدامة لشعوبها، واضعا تجربته وخبرته في هذا المجال في خدمتها . ويتجلى هذا الالتزام التضامني مع بلدانها الشقيقة، في تكوين أجيال من الأطر الإفريقية الصاعدة, والإسهام في النهوض بأوراش التنمية البشرية، وكذا المشاركة في العديد من عمليات حفظ السلام, المنضوية تحت لواء منظمة الأممالمتحدة. وفي نفس السياق التضامني، عملت المملكة المغربية على إلغاء ديون الدول الإفريقية الأكثر فقرا، ورفع الحواجز الجمركية أمام منتجاتها، وتشجيع الاستيراد منها، وإنجاز مشاريع تنموية، تستجيب لمتطلبات وحاجيات ساكنتها. السيد الرئيس، أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالي، إن تحقيق مشاريعنا الاستراتيجية الكبرى، وأهدافنا وطموحاتنا المشتركة ، يظل رهينا بتعزيز دور حركتنا، وإسهامها الفاعل في تغيير أوضاع عالم متقلب، مشحون بشتى التحديات، نسعى إلى أن يكون أكثر سلما وتوازنا، وإنصافا وإنسانية، بما يكفل مستقبلا أفضل لأجيالنا الصاعدة. وستظل المملكة المغربية، من موقع المدافع عن مبادئ الحركة، وفية لالتزاماتها في نصرة القضايا العادلة، وفي مواصلة مجهودها التضامني والتنموي مع أشقائها من أعضاء حركة عدم الانحياز. وفقنا الله لما فيه خير شعوبنا الشقيقة والصديقة، ولما فيه صالح إخوتنا في الإنسانية أجمعين. شكرا على حسن إصغائكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته».