ما الذي يجعل قصة قصيرة أكثر نضجا من مثيلتها؟ تختلف طبعا الإجابة على هذا السؤال من ناقد إلى آخر و من قاص إلى آخر، لكن يبقى في تقديري المتواضع أن تكنيك الكتابة هو الفيصل في تفضيل قصة عن أخرى، فالموضوعات لا تحدد قيمة النص بل طريقة كتابته، و أعتقد أن هذا التكنيك يروم بالدرجة الأولى ابتعاد الكاتب - قدر الإمكان عن التجريد والغنائية المفرطة والبوح والتداعيات، ولا يتحقق كل ذلك إلا بتجسيد الأحداث، والنزوع نحو الدرامية وتعدد الأصوات ، فكلما تحقق للنص شيء من ذلك استطاع نيل إعجاب قارئه. ويعد الحوار من بين التقنيات المفيدة في هذا المجال، إذ يسمح - إن حسن توظيفه- للشخصيات بأن تقف وجها لوجه مع المتلقي دون أن ينوب عنها السارد أو القاص، ليحكي له ما تفكر فيه أو ما ترغب القيام به. والحوار تقتبسه القصة من الكتابة المسرحية، التي لا يخفى على أحد مدى الدرامية التي تتمتع بها، حتى أن هناك من يطلق عليها الدراما هي نفسها، وهذه الدرامية ليست سوى الصراع في أبسط تعريف لها. وقد فطن القاص المغربي حسن بنمونة في مجموعته القصصية «مطعم اللحم الآدمي» إلى أهمية الحوار في الكتابة القصصية، فجعل منه تكنيكا غالبا و مهيمنا في الكثير من قصصه، وقد استهواه ذلك حتى جعل منه اللحمة الأساسية والمكون الرئيس لنصوص بعينها، كما هو الشأن في قصص: انقلابات ثقافية، آه منا نحن النعامات، حوار صامت، خدمات، سحابة صيف، كن يقظا.. ويتخذ الحوار في المجموعة القصصية أشكالا عدة ، فقد يساهم- مثلا- في بناء الحدث وينوب عن السرد في ذلك، كما هو الحال في قصة المحو، يقول القاص في (ص31) زار رجل شيخا هرما في بيت اعتلى ربوة تطل على القرية تعج بالحياة - مابك يا بني؟ - ارتكبت خطايا.. وانا أريد محوها. -ماذا ارتكبت؟ - قتلت رجلين ، و سرقت بيوتا آمنة ووشيت بأبرياء صاح في وجهه غاضبا - كفى. كف.. أهذا كل شيء؟ أجل مولاي أمسك به ثم اتجها صوب بئر بدت مهجورة . دفعه من خلف فسقط فيالحضيض.... وفي قصص أخرى يعمد القاص إلى توظيف الحوار للكشف عن مكنونات الشخصيات وما تفكر فيه، لهذا كان الحوار استكشافيا لا يساهم بالضرورة في تطوير الأحداث كما هو الشأن في قصة الدمى البشرية التي يقول فيها في الصفحة27. قبلت ظهر يده شكرا و امتنانا ، فالكتاب كلهم يقولون إنه أبوهم الأدبي - ماذا تكتب؟ - أكتب قصصا. - للااأطفال -لا للكبار - و ما شأنك بالكبار؟ - لأنني كبرت - لم توهم نفسك أنك فتى؟ - سأفعل إن شاء الله. أحيانا يخيل إليك أنك تكتب للأطفال. قد يحدث العكس. لا أحد يرسم قدره - أنا؟ لست أدري. ما كتبته كان لعبا بالدمى، أعني الدمى البشرية.... وقد يصبح هذا الحوار عجائبيا أو غرائبيا، يجري على لسان الحيوانات، تماهيا مع قصص كليلة ودمنة، وفابلات لافونتين، كما حدث في قصة «آه منا نحن النعامات» التي أثبت القاص في تصديرها تأثيره بالقاص التركي الساخر عزيز نيسين، وخاصة بقصته» آه منا نحن الحمير، يقول القاص في ص41. - انظري.. يا لهول ما أرى.. غريمي. - من ؟ أهو صياد النعام؟ - زوجي الذي يهددني بالرجوع إلى بيت الزوجية.. أمقته مقتا شديدا.. أود لو أقطعه إربا إربا - هوني على نفسك يا أختاه. - إنه يدنو منا.. آه منكم أيها النعام المصاب بالجرب. - لا تدعي الغضب يشل بدنك.. ادفني رأسك في التراب. - لو كان ركلا لهان الأمر.. و لكنه تراب. ويستمر هذا الحوار العجائبي في حوار صامت بين إله الخصب وإله القحط، يقول القاص في ص45 - لا أدري ما أصاب هؤلاء البشر؟ أنا إله الخصب أرسل إليهم المطر لأرى النبات يشق التراب، فلا أكاد ألمح شيئا يذكر. - فهل تتهمني بالخيانة، وكأنني أنا إله القحط من يقتل زرعهم ؟ - أريد أن أعرف السبب .. ماذا يجريهناك؟ - لن أكتمك سرا إذا قلت لك إنني عطلت أفعالي الدنيئة.. لم أعد أهتم بالبشر.. صرت مشغولا بمرضي و عوزي. وإذا كان القاص الحسن بنمونة قد اختار تغليب كفة الحوار على السرد والوصف في كثير من قصصه، فإنه قد التجأ في قصص أخرى إلى خلق نوع من التوازن بين هذه المكونات، حتى لا تفقد القصة القصيرة هويتها وهذا ما نجده مثلا في قصة «فاوست» ص 61، حيث يقول السارد «ها هو صاحب المنزل يخف إلى الباب زاعقا في أولاده وأحفاده.. يطالعه وجه غير مكترث بما يدور حوله، ينبعث منه الألم.. ولكنه غير مبال. - سيدي.. جئت لأقول لك.. - من أنت ؟ - ألا تذكرني؟ - كلا سيدي.. من أنتظ - قبل ثلاثة عقود أقرضتني مالا.. أ لا تذكر هذا؟ - لا أذكر شيئا. - جئت لأكفر عن ذنبي . أعرف أنني آلمتك لأنك أحسنت إلي.. و لكن لنعقد اتفاقا يقضي بأن تمهلني سنة كلما وقع بصرك علي. و تمضي نصوص المجموعة على هذا المنوال توازي بين السرد والوصف والحوار حينا وتغلب كفه أحدها حينا آخر، لكن تبقى ميزة توظيف الحوار في هذه المجموعة الجميلة جلية ومعبرة ن وقد منحت الكثير من النصوص بعدا دراميا واضحا فعمق البعد الموضوعي للقصص ومنحها تعددا في الأصوات والرؤى تحاشيا لهيمنة الصوت الواحد والوحيد الذي غالبا ما تسقط في شباكه الكثير من القصص.