في ملامحه الغربية أرى اختلاف عالمي. دقيق الملامح، وجهه محدد الأضلاع، أنفه صغير مستقيم، شفتيه دقيقة جداً، وجافة، كعادة شخص بسيط وطبيعي لا يهمه حقا كيف يبدو. ياه، كم هؤلاء مختلفون! يجلس أمامي، يرتشف مع زميل له كأساً من سائل أصفر، قد يكون مشروب كحولي، أو ربما فقط عصير أناناس. ولا يبدو محتوى الكأس مهمّا هنا، لأن محتوى ما يشربه الشخص عند هؤلاء لا يدل بالضرورة على مستوى أخلاقه وقيمته الذاتية وقربه من السماء وإلى أي حد هو أهل للثقة. يرتدي بدلة سوداء أنيقة، وقميص أسود بلا ربطة عنق، يبدو أنيقاً دون تكلف، زميله الجالس إلى جانبه يرتدي بنطالاً بنياً وقميصاً أبيض مخطط تحت جاكيت صوفي أسود، يذكرني بمستر بيتر أستاذ اللغة الإنجليزية في الجامعة، هذا الزميل هو من يقوم بالحديث معظم الوقت، أما هو فيصغي بانتباه وتركيز يجعل حاجبيه يلتقيان ويعلق أحياناً باقتضاب. يجلس مسنداً ذراعيه على فخذيه ضاما كفيّه بين ركبتيه منتبهاً لزميله، لو كان لنحات أن ينحت تمثالاً لشخص منصت لما كان إلا بهذه الوضعية. أجلس في الزاوية الأخرى منتبهة له. أو ربما منتبهه فقط للمسافة بين الشرق والغرب. فيه شئ مختلف، مختلف عنا نحن كشرق في أغلبنا، لكن متشابه لمن ينتمي إليهم في أكثرهم. كل شئ في ملامحه يبدو شاحباً، عادياً، هادئاً، متزناً، ومباشراً جداً. شخص بسيط مباشر يبدو كما يشعر ويقول ما يقصد. لا شيء في حركاته، في طريقة جلسته، في طريقة كلامه، في طريقة ملبسه، لاشيء حوله وبشأنه يوحي بالادعاء والمبالغة والالتفاف حول المغزى والهدف ليبدو أجمل وألطف وأخف وطأة ، كما لاشيء فيه يوحي بالبهرجة ليثبت نفسه. هذا الشخص يجلس هناك أمامي، بكل طبيعية. وأحس كم هذا مختلف عنا نحن. نحن طبقات فوق طبقات؛ من الوعي، من الإدراك، من الإحساس بالذات وبالآخر وبالذبابة التي قد تحط على أنف الآخر، نحن ممرات خنادق ودهاليز، نحن متاهات نتوه فينا قبل أن يتوه فينا الآخر. تبدو مهمة معرفة أحد منهم مثل قرع باب بيت فيفتح لك صاحبه وكفى. في حين مهمة التعرف على أحد منا تعني قرع باب يفتحه شخص آخر يؤدي إلى دهليز طويل تفتح بعده باباً يؤدي لدهليز آخر يؤدي لباب خلفه دهليز.... وربما بعد كل هذه الرحلة قد تصل إلى الباب الأخير دون أن تجد أحداً خلفه، سوى الهواء البارد والظلام. نحن قلاع محصنة، صناديق مغلقة، لا يعرف الواحد ما قد يفاجأه في داخلها لو يفتحها، ويحدث كثيراً أن تفتح الصندوق بعد عناء، ليصادفك صندوقاً آخر بداخله صندوق وصندوق وصندوق حتى تصل للصندوق الأخير الفارغ أيضا إلا من ورقة كتب عليها: «هاهاها حاول مرة أخرى». فتبدأ رحلة طويلة جديدة على أمل أن تكون موفقاً هذه المرة. وعليك تحمل كل الخسائر المحتملة، من روحك من قيمتك الذاتية من صورتك من هيئتك ومن الوقت المخصص لك على الأرض. ينتبه لتحديقي فيه، ألتفت إلى الناحية الأخرى سريعاً. يعود للإصغاء لزميله. أتخيل، ماذا لو لاحظ اهتمامي وقرر الحديث إليّ؟ كيف ستكون ردة فعلي؟ كيف يمكن أن يسير الحوار؟ مرحباً، لحظت أنكِ كنتِ تحدقين بي، هل أشبه أحداً تعرفينه؟ سأرتبك بالتأكيد، وسيبدو عليّ الحرج كمن تم القبض عليه بارتكاب جريمة، ثم قد أحاول أن أبدو طبيعية... مثله: معذرة، لكن فقط كنت أكتب، وحين أندمج أحدق في المشهد أمامي، لم أكن أقصد. ربما سيلتقط كلمة كتابة ويهتم أن يسألني ماذا أكتب، وحين أخبره أني -من المفترض- كاتبة قصص سيهتم، فهؤلاء الأشخاص يرون الكاتب شخصاً مهماً ويهمهم إظهار الاحترام له لأنه شخص وجد في نفسه -ولو افتراضا- القدرة على فهم الدنيا والناس أو فقط الرغبة في مواجهة ضعفه عن فهم الدنيا والناس وامتلك الشجاعة الكافية لإعلان ذلك على الملأ، وسيبدو الموضوع مثيرا بالنسبة له ويستأذنني الجلوس في المقعد الفارغ بجانبي وآذن له ونتحدث لساعات متصلة حول الأدب والحياة والناس والفن والشرق والغرب، وبدون أن يشعر سيجد نفسه قد حدثني عن حياته تطلعاته وآماله، ثم سيحين الوقت أن نفترق وسنندهش كيف مر الوقت هكذا دون أن نشعر ثم سنتبادل عناوين التواصل وستتوالى رسائله يخبرنى عن يوميات حياته ومخططاته وما يأمل أن يحققه وما يزعجه ويعتقده ويتمناه، سيخبرني عن مكنونات ذاته وافتقاده الدائم لحضوري الانساني الدافئ... و سأفعل بالمثل وسيكون لي هناك في الزاوية الأخرى من العالم صديق يهمه أن أعرف مايدور برأسه، ويتحفز منصتا إن أنا نطقت ليصغي بانتباه مهما بدوت بعيدة عن المنطق. أنتبه من شرودي في عالم الخيال على صوت النادل يناولهما فاتورة الحساب، يدفعها بطل تهيؤاتي ويغادران بكل هدوء، وبساطة. دون أن يلتفت أيا منهما إلى الوراء.