لعل واحدة من المحطات التي واجهتها الحالة الفلسطينية، هي تلك الوقفة التي وقفها المفاوض الفلسطيني أمام واقع السلطة الفلسطينية ووظيفتها. إذ، وبشكل مفاجئ، تنبه المفاوض الفلسطيني إلى أن اتفاق أوسلو نص على إقامة سلطة ذاتية لمدة خمس سنوات، تنتهي بعدها هذه المرحلة لتقوم في أعقابها الدولة الفلسطينية المستقلة. لكن واقع الأمور أوضح أن السقف الزمني لقيام السلطة ظل مفتوحاً، دون أية علامات أو إشارات ترسم لمسيرتها نهاية. أي إن الوقائع ألمحت، بشيء من الصراحة، أن السلطة، التي يفترض أنها حالة مؤقتة، صارت مرشحة، وبعد حوالي عشرين عاماً من المفاوضات، لأن تتحول إلى حالة دائمة، وأن الحديث عن الدولة الفلسطينية، في ظل السياسات الإسرائيلية والدعم الأميركي المتوفر لها، سيجعل من السلطة الحالية هي صيغة الحل الدائم. لذلك بدأ أصحاب السلطة يتحدثون عن رغبتهم في «إعادة التفويض» إلى الجانب الإسرائيلي، بحيث يستعيد هو المهمات التي تولتها السلطة نيابة عنه، كمرحلة انتقالية. مثل هذا الأمر جرى بحثه مع القوى الإقليمية والدولية. وبشكل خاص مع القاهرة، وواشنطن، وتل أبيب. واللافت في النظر موقف تل أبيب، وموقف آخر نقله أحد أركان الخارجية الأميركية فيلتمان إلى الرئيس محمود عباس. *** الجانب الإسرائيلي، في بحثه لهذا الأمر توقف أمام مسألتين اعتبرهما الأكثر أهمية، في وظائف السلطة. وتجاهل باقي الوظائف. - المسألة الأولى هي الجانب الاقتصادي في العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين. في هذه المسألة حذر الإسرائيليون الجانب الفلسطيني من خطورة التلاعب بالواقع القائم، وأكدوا على تمسكهم ببروتوكول باريس، الذي عمق وكرس تبعية السوق الفلسطينية للاقتصاد الإسرائيلي. بحيث باتت الضفة الفلسطينية تستورد من إسرائيل ما قيمته 4 مليارات دولار سنويا، كما يستورد قطاع غزة ما قيمته مليارا دولار أي ما مجموعه 6 مليارات دولار. بالمقابل تستورد إسرائيل من المناطق الفلسطينية سنويا ما قيمته 250 مليون دولار فقط لا غير. ورأى الإسرائيليون أن أية محاولة لمقاطعة منتجات المستوطنات، أو المنتجات الإسرائيلية بشكل عام، أو فرض رسوم جمركية على البضائع الإسرائيلية المستوردة، من شأنه أن يشكل حرباً فلسطينية ضد الإسرائيليين. لذلك أبلغت تل أبيب السلطة الفلسطينية أنها، وبغض النظر عن مستقبل السلطة، ترفض رفضا قاطعا أي مساس بالحالة الاقتصادية القائمة بينها وبين المناطق الفلسطينية وأنها لن تتورع عن اتخاذ كل الإجراءات الضرورية للحفاظ على الوضع القائم. خاصة وأنها تملك مفاتيح المعابر، التي منها تستورد السلطة وعبرها تصدر، وبحيث تغلق الأبواب أمام الفلسطينيين، لتكرس إسرائيل الجهة الوحيدة المصدرة إلى المناطق الفلسطينية. وأخيراً، أكدت إسرائيل تمسكها بقوة ببروتوكول باريس باعتباره يصون مصالحها كما تمّ شرحها أعلاه من قبل الجهات الإسرائيلية المختصة وعلى لسانها. - المسألة الثانية هي الجانب الأمني حيث أكدت إسرائيل للجانب الفلسطيني أن تل أبيب عازمة على اتخاذ الإجراءات الضرورية لعدم المس بأمنها، وهي تملك من القدرة لتكرس الواقع القائم تحت سقف «التنسيق الأمني» وآلياته الحالية. وأوحت إسرائيل للجانب الفلسطيني أنها تملك من المفاتيح، داخل الأجهزة الأمنية، ما يمكنها من تشغيل هذه الأجهزة، كأطر قائمة بذاتها، بمعزل عن أي دور للمرجعية السياسية الفلسطينية. الرئيس أو رئيس الوزراء، أو وزير الداخلية. ولاحظت إسرائيل، في ردها، أن الوضع الأمني الذي تم التوصل إلى بنائه في الضفة بات يشكل، بالنسبة لإسرائيل، جزءاً لا يتجزأ من أمنها الإستراتيجي، وبالتالي، فإن أي مساس بهذا الوضع القائم، يشكل خطراً على الأمن الإستراتيجي الإسرائيلي. وبعد هذا، وفي ظل هذا، لا تمانع إسرائيل في مناقشة باقي مهمات السلطة، شرط أن تبقى المسألتان الاقتصادية والأمنية خارج البحث، وأن يبقى ملفاهما مغلقين، يمنع فتحهما، تحت أي ظرف كان. وفي الاتجاه نفسه، أبلغت واشنطن السلطة الفلسطينية على لسان فيلتمان أن عقوباتها المالية التي يمكن أن تقع رداً على التحرك الفلسطيني في الأممالمتحدة، وفي الانتساب إلى المنظمات الدولية كاليونسكو، لن تطال المعونات المالية المخصصة لدعم الأجهزة الأمنية واستكمال بنائها وتعزيز دورها. فالأجهزة الأمنية الفلسطينية مصلحة سياسية وأمنية أميركية وإسرائيلية، يمنع على أي كان تعريض هذه المصلحة للخطر من أي طرف كان. *** تجاهل الإسرائيليين لباقي مهمات السلطة (التربية والتعليم والصحة والبيئة والإغاثة والشؤون الاجتماعية والعمل والإدارة والتنمية وغيرها والتركيز على الجانبين الاقتصادي والأمني، مؤشر واضح للسياسات الإسرائيلية ودليل صارخ على كيفية النظر الإسرائيلي إلى دور السلطة الفلسطينية ووظيفتها. بالمقابل، فإن التأكيد على الجانبين الاقتصادي والأمني يدل على النقطة أو لنقل الخاصرة الرخوة التي بإمكان الفلسطينيين الضغط عليها لتتألم إسرائيل، وبحيث لا يبقى احتلالها للأراضي الفلسطينية منذ العام 67 احتلال خمس نجوم. وبحيث يصبح العمل الفلسطيني الحثيث هو في وقف التنسيق الأمني، باعتبار أن الأجهزة الأمنية ليست لحماية إسرائيل بل لحماية المواطن الفلسطيني. وبحيث يصبح العمل كذلك في الوقف التدريجي للتعاون الاقتصادي مع إسرائيل، وبما يقود عبر خطوات مدروسة وواضحة نحو العصيان المدني ضد الاحتلال، ونحو فتح الباب لتحويل هذا العصيان إلى مقاومة شعبية بكل أشكالها وتحويل المقاومة الشعبية إلى انتفاضة عارمة. يؤكد صحة هذا أن لا مفاوضات بعد اليوم، وأن الولاياتالمتحدة لا يشغل بالها سوى أمن إسرائيل، وأن «الرباعية» باتت مشلولة. وعلى ضوء الخطوات التصالحية في القاهرة، يفترض أن تسير الحالة الفلسطينية نحو التغيير. وأن أي إصلاح للمؤسسة لا يستند إلى إستراتيجية كفاحية جديدة، عرضنا عناوينها السريعة آنفاً، يصبح إصلاحاً معلقاً في الهواء. يخافون على اقتصادهم.. فلنضرب هذا الاقتصاد إذن من خلال المقاطعة. يخافون على أمنهم: فلنعرض أمنهم للخطر حتى لا يبقوا في «فنادق» السلطة ذات الخمس نجوم. وليبدأ العصيان المدني. ولا مبالغة بعد اليوم إذا قلنا إن حجم التغيير في أداء السلطة الأمني والاقتصادي، سوف يشكل المعيار الحقيقي للتوجه السياسي نحو إستراتيجية كفاحية، تحرر الحالة الفلسطينية من قيود العملية التفاوضية الحالية، كما من قيود أوسلو وبروتوكولات باريس الاقتصادية.