سجل مفتوح على حرائق البوح الموجع يعد ديوان «العريش والنوالة» للشاعر عبدالرحيم بنبيكة، سجلا مفتوحا على حرائق البوح الموجع. منذ البداية وحتى نهاية الديوان، شد الشاعر بخناقنا، لم يمهلنا فرصة التوقف واسترداد النفس والتنفس، بل حاصرنا في حيز ضيق ما بين العريش والنوالة. حياة العريش مُرّة ولا تفوقها وقعا ومرارة إلا مرارة النوالة. فما ترك لنا اختيارا إلا بين المرّ والأمَرّ في إشارة إلى محنة الإنسان المضطهد المسحوق، وخاصة أنه من الذين يتشبثون كثيرا بالتوق إلى تحقيق المطالب العمالية. ومن خلال تتبعنا لديوانه الأول «الحيمر»، ندرك نوعية العلاقة التي تربط الشاعر بفئة العمال الذين يعايشهم صباح مساء، سواء في بلدته الأصلية وادي زم أو الجرف الأصفر، الذي يُعدُّ صورة مصغرة عن التنوع الثقافي والاجتماعي الذي يزخر به المغرب. فالعريش لا يصلح إلا لقيلولة الكلاب، والنوالة لا تصلح إلا لعش دجاحة سمينة تضع فيها بيضها. ما اغرب هذه اللوحة الضاربة جذورها في عمق التاريخ المغربي، التي تفنن الشاعر في اختيارها على دفة الغلاف عنوانا وصورة، لست ادري من أين حصل على مثل هذه الصور النادرة جدا، والتي ماعادت النوايل والعريش في زمننا هذا تقوم لها قائمة. فيترك المتلقي حائرا منذ الوهلة الأولى في عنوان لا يوحي بالضيافة بل بالنفور والمكابدة والمغادرة قبل الوصول: العريش أو النوالة، وعليك أن تختار أيهما أحلى وأمر. فهذه ميزة يتميز بها عبد الرحيم. ربما هذا مشروع تأصيلي يعمل عليه في إطار استحضار المنسي والعودة بقوة من اجل إحياء أو ترسيخ مشاهد ومصطلحات لغوية تراثية انقرضت أو آيلة للانقراض أو تراث معماري منسي، كما نجد ذلك في تجربةْ أولى في ديوانه «الحيمر» مازال الشاعر بنبيكة يعلن عن نفسه كواحد من الزجالين المغاربة الذي كرس اسمه في عالم الشعر الشعبي/بذكاء كما يعرف عنه لدى المتتبعين لتجربته الزجلية. فكما لا يمكن أبدا أن نفصل الشاعر عن محيطه، فروافد عبد الرحيم متعددة ومتنوعة. حيث عاش طائرا مغردا في فضاءات متعددة أغنت رصيده الثقافي، ولم يفرط كثيرا في أسلوب الترميز، بل سار في ركب السهل البسيط الذي يجد طريقة إلى قلب المتلقي ووجدانه. وهو واحد من الذين أبرموا علاقة وطيدة مع جميع أصناف القراء وخلق تواصلا لتقريب وتحبيب هذا الجنس الأدبي لعامة المتذوقين، سواء كانوا مثقفين أو قراء عاديين. لأن الزجال ضروري أن يركب في الدرجة الرابعة من قطار الحياة، حيث هناك يكون قريبا من مشاغل الناس وهمومهم الحقيقية، مطلعا على الحال والمآل، كما انه يتمتع بحس رفيع في استغلال مخزون تجربته المفعمة بهموم الوطن وحرقته وآماله وآلامه. ويتميز بنبيكة في أعماله عن باقي الزجالين المغاربة ببصمته الخاصة، تجعلك تتعرف على كتابته الحارقة وتلمسها في كل قصيدة بل كل سطر وفي كل كلمة، والتي وصفها في إحدى حواراته بالجذبة الداخلية العميقة/الصخب الصارخ بدواخله. كتاباته جذبة على إيقاعات كناوية أو عيساوية أو تلك التي يعرف إيقاعها هناك ممزوجا بروائح بلدته الأصلية أو ربما مازال في قلبه شيء من المقاومة هناك بواد زم. فتفيض مشاعره الجياشة أفكارا صادمة،يقول في الصفحة 66 من قصيدة الوشاشة: «ما بغاو افهموني اش باغي نكول من هاد الكلام اللي خرجوه جنوني من الاعماق/وسعدات اللي تاق وداز يصخن من كانوني/المجمر يلحلح/والحطب من الغابة/وموحال يصخنوني/انا بارد واعماقي زوبية». يتقن عبد الرحيم العزف على وتر الهموم في ص 73 يقول: «خليني مني الهمي مني لحزاني ....أنا راسي راس تمارة /وقوتي من عرق جبيني/حمدت الله هكذا بغاني/نخدم بالليل ونخدم بالنهار/خليني خليني/ندوز هاد الوقت ولا يدوزني باش ما بغ/انا فاني فاني اليوم ولا غدا/ع خليه يعدبني/وما شي غير انا /بزاف هوما اللي كفس مني» وما أن نعتقد أننا على حافة الخلاص من الألم والتدمر والاختيار ما بين العريش والنوالة حتى نرتطم من جديد بالهم والأنين الموجع حتى في مواضيع ذات عناوين بعيدة عن الألم كما في قصيدة كروش الحرام ص 38 «كولي لي ياليام/مالك راجعة اللور ومكدمة/كالعة لمزيانين او عاطية لكروش لحرام/بلا حيا بلا حشمة/خليتني بلاش لاخدمة لا ردمة/ع ركابي محشوشين/وقابطاني الحمة/واش هذا هو عودي من ديك الحزمة/ يا غدايدي ويا غلبتي/وفين نعطي راسي يالميمة»، بالأسلوب المتنوع الضربات في جميع صنوف القول والنظم، ونعرف بسهولة مدى تمكن الشاعر من أدواته، وندرك انه قارئ نهم للشعر والذي لم يؤثر فيه حد الغموض بل جعله عصا يهش بها على بنات أفكاره لتسيل بعذوبة أقل ما يقال عنها إنها تسحر القارئ وتأخذ بلبه من أول وهلة، ولا يغرق في جعل قصيدته العامية ذات لبوس شعري أو تشي بملامح القصيدة الشعرية الحديثة وإنما قصيدة باذخة باللسان الدارج الأقرب إلى العقل والقلب، سالكا في ذلك التوفيق بين الدوارج واللهجات المغربية في تمازج وانصهار يؤدي الوظيفة الفنية دون تكلف ولا تصنع، فكانت وسيلة تواصلية نموذجية في إيصال أفكاره. أما الصور الشعرية المثيرة للانتباه مثل «الهم عشش في وجوه بنادم» ثم «ها الحكزمة هازة الفركان» راسك اقصح من الكرت». فقد تعددت مواضيع العريش والنوالة وتنوعت بين ما بين الاجتماعي والسياسي والهم اليومي، ففي الصفحة 13 ينبري الشاعر في قصيدة الجزائر إلى موضوع ذي طابع خاص، ألا وهو موضوع العلاقة بين المغرب والجزائر «العام اللي جا تدفع لينا كباسها/خالقة لينا وليها مشكيل/ضعف ناسنا وناسها/حابسة التنمية/تابعة الشماكرية غاد اطعنوها بمواسها/اللي ولدت شي حرامي تربيه/ولّ طيح ليها ضراسها/عع طمي قلبك/وديها غيرفي همك/وخلي الأرض لناسها/يرجعوها جنة/والناس فيها تتهنا/براكا عليك ولا نزيدوك.. وحرقة أخرى ومكابدات مسترسلة على طول صفحات الديوان، إذ في زمن الفساد وتردي الأوضاع والخسارات وانعدام الضمير والتملق وغياب القيم الأخلاقية، يبكي بحرقة في قصيدة «الجراف وحبالوا»، يقول: مابقيت عارف والو/في بلادعمو/وفي بلاد خالو/ماكاين ع دهن/وتاخد ديالك وديالو/ولم كان عندك ضمير/وما بغيتيش تخدم/ايجيك الجراف بحبالو/هاد هي بلادنا/ولم تقتوش سولو/تلقاو الحق/غاب خيالو.... تخلطو عليك الرهوط/ودّاو ليك الدلو بنشّالو/خلاونا على برد الارض/وعيطو تعالاو شوفو هاد السيد اش جرا لو.. وعلى هذا المنوال سارت القصيدة وغيرها من القصائد كثير، تذرف حبر السؤال وحرقة ضبابية المصير والمآل. وأخيرا فكتابات الشاعر بنبيكة تحتاج إلى كثير من الإمعان والإنصات والوقوف في أكثر من قراءة حتى تتكشف المعاني ودلالات الرموز والمضامين.