بعد سنوات مرت على انتخاب مجالس الجماعات الترابية الحالية، لا يكاد الناس يذكرون من حصيلة معظمها سوى الصراعات السياسوية والذاتية، والعديد من الفضائح والصدامات، ما نجم عنه انسداد عملي وتدبيري في عدد من مناطق وجهات المملكة. في أغلب هذه الجماعات، مجالس محلية أو إقليمية أو جهوية، تشكلت الأغلبيات من التحالف الحكومي الثلاثي، وكان يفترض أن يدعم ذلك الانسجام والتوافق، ومن ثم يحفز على انسيابية التسيير وحسن تدبير شؤون الناس، لكن «البلوكاج» بقي هو سيد الموقف، والتخبط في الأداء والإنجاز والبرمجة، وصارت اليوم مدن كبيرة تعاني من فقدان أي أفق بشأن المستقبل، وذلك على غرار ما يحدث في العاصمة الرباط، ثم في فاس ومكناس، وبشكل أو بآخر في الدارالبيضاء ومناطق أخرى. وحتى لما يتفق الغاضبون من رئاسة الجماعة وينقلبون عليها من داخل تحالف أغلبيتها، فهم مباشرة يختلفون عن البديل، وعمن سيتوجونه خلفا للرئاسة المرفوضة من طرفهم، وكل هذا لطبيعة «الكاستينغ» الذي أجري أول مرة، ولضعف البروفيلات المتوفرة، وانعدام «الكفاءات» المروج لها قبل ثلاث سنوات. نحن إذن أمام نتيجة حتمية لما جرى خلال الانتخابات الماضية، ووصلنا فعلا إلى ما حذر منه الكثيرون حينها. لقد قال العديدون بأن جبالا من الأموال صرفت خلال تلك الانتخابات، وأن سوقا انتشرت لشراء تزكيات الترشيح، وذمم المصوتين، وأيضا لتسييج عدد من الدوائر وإبعاد المنافسين، ولصناعة أغلبيات، وكل هذا كان أمام أعين الجميع، وفضحته وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ونددت به أحزاب وجمعيات في ذلك الوقت. وهذا العبث المفضوح أدى إلى إبعاد أو انسحاب العديد من الكفاءات التسييرية والسياسية الممتلكة للمصداقية أساسا، والمشهود لها بالخبرة والمعرفة في عدد من الأقاليم، وبقي «شناقة» الانتخابات لوحدهم في الميدان مزهوون بتتويجهم الباعث على الأسى والخوف على مستقبل البلاد ومسارها الديموقراطي والتمثيلي، واليوم وصلنا إلى النتيجة الطبيعية لكامل هذا العمى السياسي. الصور التي تروج اليوم عن واقع التسيير والعلاقات القائمة بين المنتخبين في الرباط مثلا، أو في فاس، أو في غيرهما، ومشاهد العراك وتبادل الضرب والسباب، تمنحنا عنوانا دالا ومعبرا عن بؤسنا التمثيلي والانتخابي. المحاكمات الجارية ضد منتخبين ورؤساء جماعات تزيد كذلك من قتامة الصورة، والملفات الأخرى التي أومأت إليها رئيسة المجلس الأعلى للحسابات تستدعي بدورها التمعن والخشية من المآلات. من المؤكد أن الفساد وانعدام الكفاءة والنزاهة لا يوجدون فقط وسط المنتخبين، وإنما كذلك وسط إدارات عمومية وغيرها، بل إن التدني الذي بلغته عدد من جماعاتنا الترابية ما كان ليتفاقم لولا وجود تواطؤات وتبادل منافع وسط الإدارات الوصية والمصالح ذات الصلة...، هذا كله صحيح، ويقتضي، تبعا لذلك، مقاربة شمولية والتقائية لتمتين النزاهة ونجاعة التدبير، ولكنه كذلك يفضح فشل وسقوط أسلوب الهيمنة السياسية الذي جرب في الانتخابات الماضية وقادنا إلى ما نحن عليه، وطنيا وترابيا، وبات يتطلب علاجا، وتغييرا في الرؤية والتوجهات والأسلوب، وذلك قبل فوات الأوان. هناك بالفعل جماعات ترابية تبذل جهدا معتبرا لإنجاز مهامها، وهناك منتخبون يعملون في الميدان لتحقيق برامجهم، ولكن الصورة الغالبة هذه الأيام لدى شعبنا أن معظم الجماعات المحلية تعيش في واد والناس تستمر في معاناتها وتعيش في واد آخر، وليس هناك أي عمل تواصلي أو تأطيري، وقد تابعنا انتقال عديد احتجاجات من المناطق إلى العاصمة لإبلاغ مطالبها وتطلعاتها، كما أن معظم منتخبي هذه الجماعات يفتقرون إلى المعرفة والكفاءة، وهم نتاج جبال الأموال التي صرفت خلال الانتخابات ومن أصحاب «الشكارة»، وهذا الضعف في البروفيلات يعطل كل الفرص التنموية بالجهات والجماعات، وأفضى إلى توالي الصراعات الانتهازية بين الأعضاء، وخصوصا من داخل الأغلبيات المسيرة، وبعض ذلك معروض أمام المحاكم، كما أن ملفات فساد ونهب خرجت من داخل الغرف المظلمة لهذه التحالفات العشوائية. المشكلة، على ضوء ما سبق، ليست في الديموقراطية التمثيلية أو في منظومة الجهوية، وذلك كما يسعى البعض إلى إقناع شعبنا ونخبنا به، ولكن المشكلة في ممارسة سياسية وحزبية وانتخابية اقترفت وكان منتظرا أن تقودنا إلى هذا المآل بلا شك. لا بد من التوقف إذن، والتفكير فيما حدث منذ ثلاث سنوات خلال الانتخابات، أو ربما في استحقاقات أخرى جرت قبلها، وأن نرتب المسؤوليات والمهمات المستقبلية بناء عليه، وأن ننكب على العمل من أجل إنقاذ منظومة التدبير الجماعي والجهوي بشكل عام، وأن نعيد الثقة في السياسة والأحزاب والانتخابات، وفي قيم التدبير الديموقراطي والمصداقية السياسية والأخلاقية. محتات الرقاص