استعراض حصيلة العام المنصرم في أي مجال ليس مجرد تقليد صحفي تقتضيه مناسبة حلول رأس السنة الميلادية، ولكن تفرضه أيضا الحاجة إلى تقوية التنبيه إلى واقعنا الوطني العام وما يجري حوالينا من أحداث ومواقف وسياسات وغيرها.. المغاربة هذه الأيام، وفي مختلف مجالس حديثهم، يضعون تفاصيل وتطورات ملف «إيسكوبار الصحراء» كعنوان لرصدهم السنوي ولاستعراض حصيلة العام، يعني: آفة الفساد المتفشي. ليس الأمر مبالغة أو عدمية أو معانقة للبؤس والتهويل، ولكنه الإحالة البليغة على أن تفشي الفساد يمثل تحديا جوهريا أمام البلاد، ومثل هذا الملف النتن المعروض اليوم أمام القضاء يصفعنا كلنا بحجم الفضيحة، وأيضا بما قد تكون له من امتدادات وتداعيات في المقبل من الأيام. الملف، الذي يصفه بسطاء الناس هذه الأيام بكونه «خانز»، يكشف سقطة مدوية وفضيعة لاختيار سياسي سعى لجر لوبيات فاسدة لتهيمن على السياسة والاقتصاد والرياضة والمناصب والتمثيليات، والنتيجة واضحة اليوم بداخل سجن عكاشة بالدار البيضاء وفي تفاصيل ملفات التحقيق والبحث الجاريين. لم يكن الملف المذكور عنوانا وحيدا في ختام سنتنا الميلادية المنصرمة، ولكن تواصل قبله، وطيلة العام، عنوان آخر لا يخلو من مخاطر، ويجسده الارتباك والتكلس الواضحان في أداء الحكومة الحالية، وفي تدبيرها لعدد من الملفات الأساسية، ذات الصلة بالواقع الاقتصادي للبلاد والمستوى المعيشي لشعبنا. لقد عانى المغاربة كثيرا من الغلاء في المواد الغذائية وفي المحروقات، ولا زال ذلك مستمرا إلى اليوم، ولم تنجح الحكومة في إعمال الحلول، سواء في ملف الحد من التضخم، أو في ملف الغلاء، أو في ملف المحروقات، أو في ملف تفشي البطالة وتنامي الفقر وانهيار القدرة الشرائية لفئات واسعة من المغاربة. برغم أنين المغاربة واحتجاجاتهم استمرت الحكومة تكرر إخفاقاتها التدبيرية والتواصلية، ثم توجت ذلك، طيلة الشهور الأخيرة، بفشل واضح وفاضح في تدبير ملف إضرابات التعليم، وبقيت تتفرج على حرمان ملايين التلاميذ المغاربة من الدراسة، وعلى توقف المدارس العمومية، وتمسكت بعنادها وارتباكها، وبرغم الاتفاقات الأخيرة، تتواصل المخاطر والتحديات على صعيد التعليم العمومي، والذي يبقى تحديا جوهريا وكبيرا أمام بلادنا. وإضافة إلى التعليم وغلاء المعيشة، تواجه البلاد أيضا تحدي إصلاح وتأهيل قطاع الصحة العمومية، وملف الشغل والحد من البطالة، ثم أزمة الماء وتأكد معالم سنة جفاف جديدة، وصعوبات الموسم الفلاحي، وأزمات أخرى. في نفس الوقت، لا يمكن إنكار بعض الجهد المالي المبذول في بعض القطاعات والمجالات، وأيضا دينامية المشاريع التي انطلقت برعاية جلالة الملك، والإصلاحات المعلنة، ولكن التخوف يكمن في ضعف تدبير الحكومة، وافتقارها للرؤية السياسية الواضحة. اليوم، وعلاوة على ما سبق، تحيط ببلادنا سياقات إقليمية وعالمية صعبة ومتوترة على مستوى التداعيات الاقتصادية بالخصوص، وهو ما يجعل الأزمات مركبة ومتداخلة، ويفرض يقظة دائمة من طرف الحكومة للحد من آثار كل هذا على الاقتصاد الوطني والتماسك الاجتماعي والأوضاع المعيشية. أمامنا اليوم تحدي استكمال منظومة الحماية الاجتماعية على أرض الواقع وتأمين استدامتها كما قررها جلالة الملك، وعلى الحكومة اليوم الاستفادة من التدبير الكارثي لأزمة إضرابات التعليم، والسعي لإنجاح الحوار الاجتماعي في القطاعات الأخرى، على غرار الصحة مثلا، وكذلك في المجالات الأخرى، بما يؤدي إلى السلم الاجتماعي، كما عليها أن تنكب على باقي الأوراش الإصلاحية الهيكلية المطروحة (الإصلاح الجبائي، إصلاح أنظمة التقاعد، إصلاح مدونة الشغل وما يرتبط بها...)، ودون إغفال إصلاحات مهمة أخرى مطروحة اليوم (مدونة الأسرة، القانون الجنائي، قانون المسطرة المدنية...)، أي ضرورة الحرص على تقوية وتوطيد أسس ومقومات منظومة الدولة الاجتماعية، وتفعيل مختلف الإصلاحات الهيكلية، وإعمال برامج وسياسات التصدي لتأثيرات الأزمات الخارجية والطارئة، وتأهيل التعليم والصحة العموميين، وتمتين مقتضيات دولة القانون في المجالين السياسي والاقتصادي، والحد من الفساد، وتعزيز النفس الديمقراطي العام في البلاد. نختم هذا الاستعراض المختصر بالتذكير بما أبداه المغاربة جميعهم من تضامن وتطوع أثناء مأساة الزلزال، وما حققته البلاد، بشكل عام، من نجاح في تدبير هذه الكارثة ومعالجة تداعياتها، وإطلاق برامج الإعمار المتواصلة إلى اليوم، وهذه المحطة كشفت للكل طيبوبة شعبنا وقدرته على رفع التحديات، وأكدت أيضا أهمية تقوية الجبهة الوطنية الداخلية وصيانتها للتصدي للكوارث الطبيعية وضرورات التضامن الاجتماعي، وكذلك لمواجهة المعارك الوطنية الكبرى. السنة المنتهية شهدت ضعفا واضحا في التدبير الحكومي العام، وفي الحضور السياسي الميداني والتواصلي لتحالف الأغلبية، كما تراجعت السياسة، ثم أغلق العام شهره الأخير بمحاكمة (إيسكوبار الصحراء) مع ما ستكشفه مستقبلا من تداعيات، ولكن السنة تميزت أيضا برفع المغاربة تحدي التضامن الوطني أثناء فترة الزلزال، وإعلان جلالة الملك عن عديد مشاريع مهيكلة وإصلاحات أساسية، وهو ما يتطلع شعبنا إلى ربحه في العام الجديد، ولن يكون ذلك ممكنا بدون تغيير خارطة الطريق وتقوية محاربة الفساد وتعزيز حضور الحكومة وانسجامها وكفاءتها. كل عام وشعبنا وبلدنا بألف خير... محتات الرقاص