حجبت فاجعة زلزال الحوز كل السجالات المتصلة بقضايا وطنية ومجتمعية كانت قد احتلت واجهة النقاش العمومي في الشهور الماضية، وكان طبيعيا أن يلتف المغاربة جميعهم حول آثار المأساة ويهبوا للمساهمة في الإغاثة والمساعدة والدعم وإعادة الإعمار. وفي غمرة الانشغال ببرامج البناء والإعمار ومواكبة الساكنة المتضررة في مناطق الزلزال، يجدر كذلك اليوم استعادة الاهتمام بباقي قضايا البلاد وانتظارات الشعب المغربي. المعطى الواضح اليوم في ساحتنا الوطنية يبقى هو ضعف النقاش العمومي والحوار السياسي الرصين والشجاع، وبقدر ما تتحمل أطراف عديدة مسؤولية هذا التدني، فإن الأمر يهدد بنوع من الانحباس في السياسة، وفي التفكير العام، وفي مؤسسات الديمقراطية التمثيلية، ومن ثم التأثير السلبي على المكتسبات الديمقراطية ببلادنا، وعلى مناخنا السياسي الوطني العام. لقد تأكد اليوم، ومنذ تشكيل التحالف الحكومي الحالي، أن امتلاك أغلبية واسعة جدا، وطنيا وجهويا ومحليا، لم ينفع البلاد في شيء، ولم يمنح لحياتنا الديمقراطية والمؤسساتية أي قيمة مضافة، وبالتالي وجب التفكير اليوم بجرأة في نفس ديمقراطي جديد، وضخه في مشهدنا السياسي والمؤسساتي والمجتمعي، ومساعدة بلادنا للخروج من دوائر القلق والانحباس والتردد. شعبنا، من جهة ثانية، لا يزال يعاني من تنامي موجات الغلاء في أسعار المحروقات والمواد الاستهلاكية الأساسية وخدمات أخرى، والحكومة، من جهتها، تستمر في الصمت واللامبالاة تجاه تدني القدرة الشرائية للمغاربة وتدهور ظروفهم المعيشية. وحتى تقارير مجلس المنافسة المتعلقة بأسعار المحروقات بقيت في الرفوف ولم يكن لها أثر على حياة الناس، ولم يتم حسم ملف مصفاة سامير... واستغلت الحكومة اهتمام الجميع بفاجعة الحوز وانخراط المغاربة في التطوع وإغاثة المتضررين، لتسكت أيضا عن معاناة الأسر المغربية مع تكاليف الدخول المدرسي، وقبل ذلك مع متطلبات العطلة الصيفية وغلاء خدمات النقل، والتي انضافت إلى المعاناة الماضية جراء غلاء أضاحي العيد، وكل هذا يكرس ملف الغلاء والوضع المعيشي للمغاربة وتدهور القدرة الشرائية كأولوية يجب الانكباب عليها في مغرب اليوم. وهناك أيضا الوضع المائي الصعب بمختلف جهات البلاد واختلالات قطاع الفلاحة وبؤس الواقع اليومي للبوادي المغربية وساكنة الأرياف والمناطق الجبلية والنائية... وعندما نضع هذا الواقع إلى جانب تداعيات سنوات الجفاف المتعاقبة واستنزاف الثروة المائية وانعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية على سلاسل الصادرات الغذائية، وخصوصا الحبوب، وعلى العلاقات الدولية المعاصرة، فكل هذا يضع بلادنا أمام تحدي واقع فلاحتها، وأمام حاجيات أمنها الغذائي وسيادتها المائية واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي. وغطت الفاجعة كذلك على النقاشات المرتبطة بتفعيل الورش الملكي الخاص بالحماية الاجتماعية، والذي يتطلب الإصرار على تنفيذه، وفق ما نصت عليه منذ البداية التوجيهات الملكية، والحرص على إنجاحه وتوفير الموارد والخطط اللازمة له. كما أن المغاربة تابعوا، قبيل وقوع مأساة الزلزال، قرارات تتصل بمحاربة الفساد وإهدار المال العام، وحدثت متابعات وتوقيفات، وهو ما يجب تقويته اليوم لتطوير منظومة النزاهة ببلادنا، وتخليق الحياة العامة، وإعمال مبدأي المسؤولية والمحاسبة. ولابد كذلك من مواصلة العمل وتعزيزه بشأن النقاش المؤسساتي والعمومي الذي انطلق حول إصلاح مدونة الأسرة، وحول مشروع القانون الجنائي، وحول تطوير قطاع التعليم، وحول تأهيل قطاع الصحة، وأيضا حول واقع الصحافة والإعلام ومؤسسة التنظيم الذاتي، وحول تقوية الجهوية وتطوير التنمية المحلية الشاملة والمستدامة. زلزال الحوز، وقبل ذلك جائحة كورونا، عرضا أمامنا جميعا أهمية إنماء الوعي الثقافي والفكري وسط شعبنا، وضرورة تطوير التربية على الإعلام ومحاربة الشائعات والتضليل، وأفكار الدجل والخرافة والشعوذة. كما أن الهجوم الإعلامي الاستعلائي الفرنسي الأخير ضد بلادنا يجبرنا اليوم على التفكير في امتلاك إعلام وطني مهني متقدم وذي مصداقية للدفاع عن صورة المملكة ومصالحها المشروعة، وهو ما يتطلب اليوم حوارا رصينا وهادئا بين العارفين، والتخطيط الجماعي الجاد للمستقبل. واضح إذن أن بلادنا تطرح عليها العديد من التحديات والأولويات التي لا تقبل التأجيل أو التماطل، وبقدر ما يجب الاستنفار لإنجاح مسلسلات البناء والإعمار بمناطق الزلزال، بقدر ما يجب، أيضا، الانكباب، وفي أقرب وقت، على كل هذه القضايا ذات الأولوية المشار إليها أعلاه. يجب أن يكون الدخول السياسي والاجتماعي الحالي مناسبة لبدء إعمال مداخل الولوج لكل هذه الانشغالات الوطنية، والشروع في صياغة مقاربات وخطط إجرائية للتفاعل معها، ولمنح شعبنا الاطمئنان على مستقبله، وتمتين ثقته في بلاده، ولتتعزز في بلادنا المصداقية. محتات الرقاص