فور الإعلان عن الرسالة الملكية السامية الموجهة الى رئيس الحكومة بشأن إعادة النظر في مدونة الأسرة، خرجت الجهات النكوصية المعروفة للهجوم على المرأة وفرملة كل إصلاح يرفع عنها التمييز، وسعت إلى افتعال مناخ مجتمعي معاد للإصلاح بني على الإشاعات والتضليل أحيانا، وعلى التأويلات المتزمتة والمتحجرة للنص الديني، تماما كما اعتادت على ذلك منذ سنين. لحد الآن لم يتم الكشف عن توجهات الإصلاح ومحاوره، ولم تنطلق المشاورات الرسمية، ورغم ذلك عجت مواقع التواصل الاجتماعي وفيديوهات الأوساط الرجعية بالكثير من اللغط والترهيب، والإصرار على إغلاق كل نقاش حول الإصلاح ووأده. منهجية جلالة الملك، لما وجه الرسالة إلى رئيس الحكومة، ولما حدد المؤسسات الموكول لها الإشراف على مراجعة مدونة الأسرة أو تلك التي طلب التشاور معها والاستماع إليها، تكشف على وضع الأمر ضمن الإصلاحات الجوهرية المطلوبة للقوانين المدنية الوضعية، ومن ثم فتح الباب أمام إصلاح فعلي لقانون الأسرة. يعرف الجميع أن هذه المنهجية مختلفة عن تلك التي اعتمدت خلال الإصلاح السابق الذي كانت تشكلت له لجنة خاصة، وجرت المناقشات ضمن سياق مجتمعي ميزه التوتر، كما يسجل الكثيرون أنه حينها بقيت مشكلات وقضايا لم يشملها الإصلاح، كما ظهرت أثناء الممارسة العديد من الثغرات والنقائص، وحتى التناقضات، ومن ثم كان من اللازم الإنكباب على إصلاح النص، وهو ما عبر عنه اليوم القرار الملكي. في الإطار نفسه، مجتمعنا الحالي يعيش تحولات مذهلة، ويتطور بشكل سريع جدا، وهو ليس نفس المجتمع الذي كان قبل عشرين سنة مثلا، لمًا شرع في تطبيق مدونة الأسرة الحالية، وهذا يفرض اليوم الاجتهاد لإيجاد حلول ملائمة لعصرنا وواقعنا، ولمغاربة اليوم ومغرب اليوم. هناك مشكلات حقيقية لابد من النظر اليها بواقعية وعقلانية والتفكير في حلول لها ضمن اشتراطات عصر اليوم... ما معنى استمرار مشكلة تحديد النسب وصعوبة العمل بالخبرة الطبية مثلا؟ أليس من العار استمرار زواج القاصرات في هذا العصر؟ ألا يجب أن ننظر ونفكر في المآسي التي تنجم عن تطبيق»التعصيب»ونبدع حلولا لها انطلاقا من واقع اليوم؟ كيف نحل المشاكل المترتبة عن زواج مغربية بأجنبي؟ وتلك المشاكل التي تتسبب فيها السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي في تزويج القاصرات؟ وما ينجم عن اختلالات الولاية على الأطفال؟ وكيف نعطي الأولوية للمصلحة الفضلى للطفل؟ وكيف نحل المآسي التي تتصل بصعوبة اقتسام الأموال المكتسبة أثناء الزواج لما يقع الطلاق؟ وكيف نحمي حقوق النساء على هذا المستوى ونصون كرامتهن؟ مثل هذه المشكلات تنجم عنها مآسي اجتماعية حقيقية يتداول الكثيرون اليوم نماذج وحالات عنها، وأعمى من يصر على إنكارها، ولهذا، فالمدخل الى الحل هو السعي إلى صياغة قانون مدني ينتصر للمساواة، ويرفع عن النساء الظلم والتمييز في الإرث ثم في الولاية على الأطفال وفي تحديد النسب وفي اقتسام الأموال المشتركة لما يحدث الطلاق. المغرب اليوم، ومثل باقي بلدان العالم المعاصر، لا يعيش لوحده في كوكب مستقل، ولهذا هو لديه التزامات وتعهدات مثله مثل دول أخرى، ومن المشروع والواجب أن يسعى لتطوير مؤشرات التنمية البشرية لديه، وأيضا تحسين ترتيبه بين الدول، وهنا صارت أوضاع النساء وضعف المساواة في القوانين من ضمن القضايا التي تحرج الدولة في العالم، ومن الواجب تجاوز سلبيات ذلك، والانخراط في مسار تقوية المساواة بين الذكور والإناث والحد من التمييز في حق المرأة المغربية. من المؤكد أن جلالة الملك، بصفته أمير المؤمنين، يحرص على احترام كل التوازنات المطلوبة في المجتمع، وعلى مراعاة مختلف وجهات النظر بالدقة وبعد النظر اللازمين، ولكن إصلاح جوهري وأساسي مثل مدونة الأسرة يتطلب اليوم وعي الأوساط الدينية والجهات المحافظة، وانخراطها ضمن الإرادة الإصلاحية الملكية. النص الديني القطعي يقتضي الاجتهاد إلى جانبه لإبداع بدائل موازية لحل مشكلات الواقع، وقد عملت بذلك بلدان أخرى، والرأي الفقهي يتطلب تطويره وفق اشتراطات زمن اليوم وقضايا اليوم، ولهذا يجب أن يكون علماء الدين اليوم ضمن صف الدفاع عن الاجتهاد والإصلاح والتحديث، وأن يمتلكوا بعد النظر والارتباط بالواقع المغربي الحالي ويجتهدوا في حلول ملائمة لمشكلاته. المساواة بين الجنسين في بلادنا تطرح اليوم ثغرات لم يعد لها مبرر وجود، وذلك على غرار مشكلات: الإرث والتعصيب، زواج القاصرات، اقتسام الأموال المشتركة، تحديد النسب، الولاية على الأطفال، تعدد الزوجات...، وبالتالي بناء المغرب الحديث اليوم تعتبر المساواة فيه محورا مركزيا، وهي قضية حقوقية وديموقراطية جوهرية، كما أنها تعتبر تحديا رئيسيا لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية والتقدم لشعبنا ومجتمعنا. المطلوب اليوم هو تفعيل حوار مجتمعي ومؤسساتي هادئ بنفس اجتهادي متحرر يفكر في واقع المغاربة ومستقبل المغرب قبل أي تحجر أو تزمت أو إسقاط ماضوي غير مبرر. العديد من القوانين في بلادنا في حاجة اليوم الى المراجعة والتطوير، وبعضها يوجد اليوم ضمن محاور النقاش في البلاد: القانون الجنائي، القانون المدني، وأيضا قانون الكفالة، قانون الحالة المدنية، قانون الجنسية...، لكن المستغرب له أنه لما يتعلق الأمر ولو ببداية الحديث عن أي إصلاح يمس مدونة الأسرة تخرج الأصوات المحافظة والظلامية شاهرة معاولها وتهديداتها وشعبويتها لترغد وتزبد وترعب وتخوف. إن المجتمع المغربي يتبدل بسرعة، وما كان صالحا لتنظيم العلاقات قبل قرون لم يعد كذلك اليوم، وللمغاربة مشكلات استجدت فقط في السنوات أو العقود الأخيرة، وهي تفرض اليوم ايجاد حلول لها تناسب حاجيات اليوم وعقلية اليوم. لا يمكن أن ندير ظهورنا ونغمض عيوننا ونغلق عقولنا عن كل هذا، ونتمسك بما عمل به آخرون قبل أزيد من عشرة قرون ونصر على تطبيقه اليوم تماما كما طبق من قبل. كلمة السر إذن هي: الاجتهاد، ويعني ذلك أن نفتح كلنا عقولنا، وأن ننتصر أولا لشعبنا وبلادنا هنا والآن. محتات الرقاص