في رواية «أنا أيضا» تخمينات مهملة« للكاتب المغربي شعيب حليفي مزيج من السرد و»الإعداد» المسرحي والشعر، وفيها متعة دون شك وتكثيف واستعادات لحالات وأفكار وأجواء. وشعيب حليفي يدخل لعبة روائية صارت مألوفة في هذه الأيام في الرواية وفي بعض الأعمال السينمائية، تتلخص في أن حدثا ما يمكن أن ينظر إليه من عدة احتمالات، فإما أن يحدث في شكل ما أو في أشكال مختلفة، أو أنه قدر لا يحدث أبدا. فهل تتغير الحياة بتغير حدث من أحداثها أم أنها تسير وفقا لنهايات لا تتأثر ببعض التفاصيل؟ ومن ذلك أيضاً لعبة الذاكرة والمخيلة، أو هل يتكرر حدث كما كان جرى -أو نقل- قبلا وهل يروى حدث ما بطريقة واحدة فقط أم بالعديد من الطرق؟ ويعود أحيانا إلى لعبة أخرى معروفة في عالم الأعمال الروائية وهي لعبة الشخصية والكاتب ولعبة تحول الشخصية إلى كائن حي يسعى إلى استقلاله بل إلى كائن متمرد على من أبدعه ويسعى إلى الاشتراك في عملية الخلق مصححا أو مطورا. إنها لعبة خيالية طريفة يخترعها الكاتب أحيانا منطلقا من أن الشخصيات قد تتحول إلى كائنات مستقلة تحاكم الكاتب. جاءت الرواية في 104 صفحات متوسطة القطع وصدرت عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» في بيروت و »دار الأمان« في الرباط. قسَّم شعيب حليفي روايته إلى «روايات» ثلاث أسماها «ارتياب المطمئن» و»هتاف الغروب» و»آثار العتمة». ووردت تحت كل «رواية» منها عناوين عديدة يفترض أنها ستتكامل لتنتج الرواية الكبرى. لكننا أحيانا نسأل عن هذا التكامل إذ يبدو مفقودا. لكن ربما كان المقصود هنا هو «إكمال» لصورة سابقة إما بصورة تصحيح أو نقض أو إيراد ما كان خفيا قبلا بشرط عدم التكرار أو الاعادات المتماثلة. في الرواية الأولى وتحت عنوان فرعي هو «لست أنا» يدخل الكاتب في لعبة تفصح عن نفسها. ما طبيعة وأهمية بل جدوى الكتابة أو ما يسمى إبداعا فنيا؟ وهل نحن ما كنا قبلا أم لا. يقول «وأنا أقلب في ملفات تضم أوراقا لي متنوعة ضمن ربائد تقطعت وتغيرت ألوانها أحسست بالإضافة إلى الضجر يتملكني من الإرهاق بشيء آخر أشعر بمذاقاته الغريبة وهو الارتياب. فأنا أيضاً أعي بأنني أبيع الأوهام وأساهم في صنعها محاولا إلى جانب غيري إيهام الآخرين بأننا نؤسس لأفكار جديدة وللمستقبل، وكل ما نشتغل فيه كتابة وقولا هو بناء منطقي متصل عموديا وأفقيا بكل ما سبق، حتى نضمن للأنا وضعها الاعتباري ونبرر وجودنا كما يبرره المحاربون». أضاف: «ما وقع لي (ولست بالضرورة المؤلف وإنما هي ترتيبات تقنية من إغراء نهر التخيل الجارف. بل لست أنا بالتأكيد) أن هذه الملفات التي رابتني كانت ولسنوات مشروع رواية لم تبدأ ولم تكتمل وإنما نمت في حوافها ومن تراتيل أفكارها، فقررت إمعانا في إهمال المهمل تجميع كل شيء كما يعن لي ضمن تخمين أكبر يسمى حاليا رواية وذلك بعرض كل شيء من تلك الأوراق. وما حفزني على هذا هو الثأر من الكتابة عموما ومن هذا النص وأفكاره وشخصياته والدفع بالأوهام العامرة والخاوية الحية إلى مأزق حقيقي من النوع الأدبي وأفق التلقي». ويخلق شعيب حليفي من التفاصيل وإعدادها شأنا روائيا. وهو يعد كل ذلك إعدادا مسرحيا فيخلق المسرح الكبير مع ما فيه من متحرك وجامد. فتحت عنوان «المسودة الأولى (تخطيطات أولى)» يقول بطريقة مؤلف - مخرج »في الساعة العاشرة وإحدى عشرة دقيقة... سجلت خطاطة أولى للرواية وضعت لها عنوانا: «رائحة الملائكة» ثم سجلت ما يلي: «سمير الزعفراني: مستخدم بالمحافظة العقارية. البشير سيف الحق: باحث أركيولوجي... بالإضافة إلى عشرات الشخصيات التي دونتها في الصفحة الموالية. رسمت خريطة موسعة للفضاء الذي ستجري فيه الأحداث بمدينة سطات وبالتحديد في فَندق وهو فضاء واسع بمدخل يؤوي بعض الباعة والبهائم، كما يضم بيوتا قصديرية صغيرة ينام فيها بمقابل زهيد بعض الباعة أو الزوار». وتحت عنوان «من أرشيف وجدان متحرق» يقدم لنا حوارا عميقا بين الكاتب والبطل أو شخصية رئيسية من شخصياته. يقول له هذا البطل «أنا لا أحدد معنى الحياة التي أحياها». «ولكنك تضطر إلى تحديد وجودك فيها.. لا فرق». فيرد على الكاتب قائلا له: -»أنت الذي تروي عني من زاوية نظرك. تستعمل لغتك لتخون المعاني التي جاهدت كي أرسمها... وسأكشف أنك لم تكتب عني وإنما عن نفسك». -»أكتبُ عنك لأهرب من ذاتي ومن السأم والضجر (أجبته بشيء من الصمت الراقي الذي نادرا ما يصيبنا)». وشعيب حليفي يفيض أحيانا سخرية هي نقد حاد لكثير مما يجري في الحياة خاصة ما فيها من نفاق. ففي الحوار الذي يبدو لنا أحيانا أنه بين الذاكرة ونفسها يقول: «لعلك الآن لا تنساها وتتذكر في لحظات الغفوة المراكشية.. الحب الماراثوني... حين علمت أو سمعت أو تخيلت أنها جنت ودخلت المصحات النفسية الخاصة والعامة.. حملوها إلى بويا عمر فأعاد لها الفقهاء هناك حيويتها بالليل إلى أن انتفخ بطنها. وذات صباح قيل إنها انتحرت.». وبين قسم وآخر، يعود الكاتب فيقدم لنا صورة أخرى مختلفة إلى حد ما، صورة محتملة عن أحداث أو حتى أسماء وعن صفات إنسانية تغيرت «هنا» عما كانت عليه «هناك». إنها الذاكرة أو الزاوية التي ننظر منها أو «نصور» من خلالها -على حد تعبير المصورين- وربما نسبة النور والضوء هنا أو هناك، النور أو الضوء في هذا المجال هو الذاكرة وعمل الزمن وتغير الأهواء والرغبات والنفس والجسد. ومثل ذلك تتغير «الحكاية» نوعا ما. يصور الناس وعاداتهم ومثالبهم وفضائلهم ويسلط نقدا حادا على حياتنا عامة من خلال الكلام عن المغاربة. نقرأ عنده جزءا من حوار يقول فيه «أريد أن أحدثك عن شيء لكن التعبير يخونني. أفكر في وطني ولكن ليس كما تفكر أنت. أطرد شعورا يتزاحم في أعماقي بأنكم لا تعيشون وإنما تنتظرون دائما.. حتى تموتوا. كل مغربي ينتظر شيئا لن يطوله..». «هذه الاستثنائية التي تربط مصائركم بأوهام وتواريخ وابتداع مفردات وقرارات وكل ما يجعل النقاش بعيدا بمئات السنوات -ربما- عن الفعل الحقيقي لأسئلة حول جوهر إنسانيتنا..». «أنت مثلا ما زلت تعتقد في الماضي وحينما تفكر في الحاضر والمستقبل فإنك لا تفكر إلا بالنظر في مرآة تعكس الماضي». بعض الكلمات والمصطلحات يبدو مغرقا في المحلية فقد يحار القارئ خاصة العربي المشرقي في معناها. من ذلك مثلا «المزابي»!