يوم 23 أكتوبر سيكون مشهوداً في تونس، ففيه سيتم انتخاب المجلس التأسيسي المكلف بصياغة الدستور الجديد، وباقي القوانين. وعلى قاعدة نتائج هذا الانتخاب، سوف يتقرر مصير تونس ومستقبلها، كما مصير الثورة فيها. يصعب عليك وأنت تزور تونس هذه الأيام، أن تلاحظ ما يمكن أن يدل على أن البلاد قد صنعت ثورتها، وأنها تخلصت من رئيسها السابق وكبار معاونيه. إلا إذا مررت قرب البناية الزجاجية الزرقاء، التي كانت فيما مضى مقراً لقيادة حزب التجمع الدستوري الحاكم. والتي تحطمت بعض مداخلها، وانتزع عنوان الحزب عن أحد جدرانها، وكتب على سورها شعارات معادية لبن علي وحزبه، من بينها «تونس جميلة بلا تجمع دستوري». وربما تحتاج إلى شيء من التدقيق لتلاحظ بعض آليات الجيش مركونة في إحدى الزوايا، لحماية المبنى من المتطفلين إلى حين أن تبت المحاكم بمصيره، ومصير باقي أملاك الحزب، بعد أن خلعته الثورة عن منصبه، كما خلعت رئيسه بن علي. كذلك يمكن أن تلاحظ بعض التغييرات في شارع بورقيبة، حيث كانت التظاهرات والاعتصامات الكبرى، قبل رحيل بن علي وبعده. التغيير الأبرز هو زرع المنطقة المحيطة بمبنى وزارة الداخلية بالأسلاك الشائكة، وإغلاق الطريق المارة بجانبه، وتحويل حركة السير إلى الأزقة الجانبية مما يتسبب بزحمة لا توصف، خاصة قبل ساعات من الإفطار، حيث يبدأ المواطنون بالعودة إلى منازلهم. ما عدا ذلك فكل شيء يبدو في ظاهره طبيعيا. الحرارة المرتفعة في مثل هذه الأيام من السنة في تونس هي نفسها أو الرطوبة اللزجة هي أيضاً نفسها، والمقاهي تزدحم بروادها بعد الإفطار، والليبيون يتجمهرون أمام سفارة بلادهم في شارع محمد الخامس، يحتفلون مبتهجين بدخول الثوار إلى مدينة طرابلس. ولعل العلامة الفارقة والتي لا يمكن أن يلاحظها إلا من زار تونس أكثر من مرة، أنك بت تشهد بين ساعة وأخرى بعض شاحنات الجيش التونسي وسياراته العسكرية في الشوارع، كما يمكنك أن تلاحظ أن جميع سيارات الشرطة قد غطت نوافذها الزجاجية بشبك معدني، حتى لا تنكسر إذا ما تعرضت لحجارة المحتجين، والذين يمكن أن ينزلوا إلى الشارع في أية لحظة، ولأي سبب يرونه مقنعاً لهم. لكنك وأنت تغادر شارع بورقيبة، وتمر عند الساعة الكبرى التي تتوسط الساحة الواسعة عند أحد أطرافه تلاحظ أن البلدية انتزعت تلك اليافطة التي كانت تشير إلى أن الساحة تحمل اسم «ساحة 7 أكتوبر»، في إشارة إلى تاريخ انتزاع بن علي الحكم من بورقيبة، وأصبحت تدعى الآن ساحة الثورة. كثيرمن التوانسة ما زال حتى الآن غير مصدق بما فيه الكفاية أن بن علي هرب وغادر البلاد، وأن الثورة قد انتصرت في مرحلتها الأولى. ولعل بعضهم، كما عبر لنا، يرى فيما حدث لعبة من ألاعيب الكاميرا الخفية، التي انتشرت في الفضائيات، ولا يستبعد أن ينهض يوما ما ليقال له انتهت لعبة الكاميرا الخفية، وعدنا إلى الحقيقة، وها هو بن علي عاد إلى البلاد واستعاد الحكم، وها هو التجمع الدستوري يعود الحزب الحاكم، وها هو كل شيء يعود إلى ما كان عليه قبل 2011/1/14. هذا الإحساس بعدم اليقين بحصول ثورة، وعدم التصديق بأن الثورة نجحت في خطوة إسقاط بن علي، سببه أمران، يفسرهما لنا أحد المحللين السياسيين في تونس فيقول: السبب الأول: أن بن علي ونظامه البوليسي كانا يشكلان للمواطن حالة رعب لا توصف فالقبضة الأمنية في البلاد كانت ثقيلة، وكانت السلطة تعد على المواطنين أنفاسهم، وكثيرون كانوا يستبعدون حصول تغيير في البلاد، بل أن بعض من تجاوزوا الستين من العمر، كانوا يعتقدون أن التغيير لن يحصل إلا في زمن أبنائهم أو أحفادهم. أحمد نجيب الشابي، أحد المرشحين للرئاسة في الأيام القادمة قال لنا إنه ما زال يعيش في ما يشبه الحلم. لم يكن يتوقع أن يعيش يوما، في تونس، يفكر فيه كما يشاء، ويقول فيه ما يشاء، ويكتب في العمق ما يريد دون خوف من نظام أو جهاز أمني، أو اعتقال على يد رجال المباحث. يقول المواطن التونسي إن كمية الحرية التي هبطت عليه فجأة، أو دفعة واحدة، كانت أكثر مما يستطيع أن يستوعبها بالسرعة المطلوبة، لذلك تراه يمارس حريته، متخوفا أن يكون مجرد حلم ليس إلا. غير أن الأيام، وتتالي الأحداث، وتداعيات نجاح الثورة في استبعاد بن علي، بدأت كلها تضع المواطن التونسي أمام وقائع جديدة تؤكد له أنه حصلت ثورة، فعلاً، وأن الثورة استحقاقات وأن عليه أن يستجيب لهذه الاستحقاقات. السبب الثاني: أن فرار بن علي ما زال لغزا محيرا. فالعديد من المؤشرات كان ينبئ أن بن علي، حين غادر قصره إلى المطار في ذلك اليوم، كان ينوي نقل زوجته وبناته ليسافرن، وليعود بعدها إلى قصره. فقد وجد في القصر العديد من الإشارات التي كانت تؤكد أن بن علي لم يكن ينوي مغادرة البلاد. إذ بقيت في خزائنه في القصر مبالغ ضخمة تقدر ب 43 مليون يورو، كان بإمكانه أن ينقلها معه. كما وجدت أوراقه الخاصة ومفكرته التي يدون عليها ملاحظاته، من بينها ملاحظة تؤكد أنه دفع لبعض قادة الأحزاب في ذلك اليوم مبالغ ضخمة في خدمة تحركات مؤيدة له طلب إليهم تنظيمها. وقد أحال النائب العام هؤلاء إلى القضاء لاستعادة الأموال ومحاكمتهم بتهمة التواطؤ مع الطاغية ضد الشعب، ومشاركته في نهب المال العام. كذلك وجدت ملابسه كاملة، وعلامات أخرى تؤكد أنه «أرغم» على ركوب الطائرة مع عائلته ومغادرة البلاد. ويضيف مراقبون أن رئيس الوزراء محمد الغنوشي هو من تولى سلطات الرئيس بعد مغادرة بن علي في إشارة إلى أنه سيعود خلال أيام. غير أن الجهة التي أرغمته على المغادرة -يقول المراقبون- هي التي دفعت رئيس مجلس النواب المبزع إلى التقدم إلى الأمام لتولي صلاحيات الرئيس، في إعلان مباشر أن بن علي غادر إلى الأبد، وأنه لن يعود مرة أخرى إلى تونس رئيسا لها. هذا اللغز، المحير، والمثير للأسئلة، مازال حتى الآن موضع نقاش، ومحل تقديرات في تفسيره من قبل المواطنين. في سياق سؤال: هل يا ترى يستطيع من أبعد بن علي، أن يعيده مرة أخرى؟. الأيام أجابت على هذا السؤال بالنفي طبعا، فالثورة أصبحت واقعا ولا عودة إلى الوراء. إذا ما خرجنا من أجواء أحاديث المقاهي والمطاعم والتعليقات السريعة وتداول الحكايات والأسرار -والتي ليست بأسرار- ودخلنا عالم السياسة الجديدة في تونس، نلاحظ أن الاهتمام، لدى النخب ينصب الآن على التحضير لانتخاب المجلس التأسيسي للبلاد. فتونس، هي الآن، بدون دستور. أي أنها تخلت عن تعريفها السابق، وهي تبحث الآن لنفسها عن تعريف جديد. وعلى قاعدة نتائج انتخاب المجلس التأسيسي، سوف يتقرر مصير تونس ومستقبلها. فإذا ما حققت القوى اليسارية والديمقراطية والتقدمية والوطنية الأغلبية في هذا المجلس، استطاعت أن تعيد صياغة دستور جديد، يحقق، في صياغته أهداف الثورة. وعلى قاعدة هذا الدستور تبنى باقي القوانين. وخلافا لذلك معناه أن قوى الردة، بتلاوينها المختلفة، هي التي سوف تفوز، بحيث تستعيد قوى الفساد والرشوة والاستبداد (كما يسمونها هنا) سيطرتها على المؤسسة، متحالفة بذلك مع قوى ماضوية، لا تخفي رغبتها، على الإطلاق، في شد تونس إلى الخلف مرة أخرى. وبالتالي يمكن اعتبار، بل يجب اعتبار معركة المجلس التأسيسي معركة مصيرية، يتوجب على القوى الديمقراطية كافة أن تجند لها ما تستطيع من طاقات، كما يتوجب على هذه القوى أن تبحث لنفسها عن الأساليب والآليات التي تمكنها من التحالف والتآزر فيما بينها. المعضلة هنا، أن قوى الردة معروفة بشخصياتها، وأسماء أحزابها أما القوى الديمقراطية فقد تناسلت سلسلة واسعة من الأحزاب وما يسمى ب «المبادرات» الشبابية وغيرها. وهي كلها تدور حول برامج متشابهة إلى حد التطابق تقريبا. المعضلة في هذا التناسل، أن هذه القوى، والتي ولدت على ضفاف الأحزاب الديمقراطية والتقدمية المعروفة، إما أنها لم تتوفر لها الفرصة لتعرف عن نفسها، أو أنها لا تملك المال الكافي -وهو عصب التحرك السياسي- لتتحرك وتتقدم من الشارع ببرامجها ووثائقها الضرورية. علما أن أحد الأصدقاء قال لنا إن قوى الردة -بتلاوينها المختلفة- تتمتع بقدرات مالية مذهلة، لا ندري مصادرها. وهي تستغل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، لتسخر المال السياسي في خدمة المعركة الانتخابية. (يجري الحديث في تونس عن أن تدهور الوضع الاقتصادي، بفعل تعطل قطاع السياحة على سبيل المثال، رفع عدد العاطلين عن العمل من نصف مليون إلى حوالي 750 ألفا. مما يدفع بالبعض للقول إن هذا ما فعلته الثورة لنا(!)). إذن، يوم 23 تشرين الأول (أكتوبر) سيكون اليوم الموعود لتونس، وحتى ذلك اليوم، الذي ستجري فيها انتخابات المجلس التأسيسي، سوف تبقى تونس تتداول، في مقاهيها، ومطاعمها، وفي دواوينها السياسية، الأخبار والروايات، وسوف تبقى القاعات والمجمعات الرياضية تشهد مهرجانات ومؤتمرات شعبية، تتحشد فيها القوى السياسية لتعرف عن نفسها، وبرامجها، ولتتفحص مدى جماهيريتها. كلنا بانتظار ذلك اليوم الموعود. فكلنا حريصون على تونس ومستقبلها. ولسنا قلقين.