ثم لا شيء يذكر يا صديقي "كيف أمحو أيامًا لها في عُمق روحي أثر؟" كنتُ أثق بنفسي، ثم الأقدار، وأنني دوماً أنتصر لا حزن يهزمني، كنتُ أحب خِفّتي في تدرّج شعوري، فلا ليل يُبعثِر حنيني ويُبكيني، لطالَما كنت أُسرِع بخلق شعور معاكِس لما بداخلي، لكنني كنت أشعُر بالذنب اتجاه نفسي، اتجاه كل ما هربت منه، كل ما تركتهُ ناقصاً ولم أعِشهُ، حزني، غضبي، إنهزامي، والكلمات التي تركتها عمداً كي لا تُضعفني. اليوم قررت بدل أن أبكي رسم حلم الأمس على خد الشمس ، بعثت رسائل اعتذار للأيام الراحلة على بؤسي المبالغ به ، ركضت بلا إلتفاف للماضي نحو الغد و وزعت ابتسامات مرصعة بالتحدي على فقراء الأمل. ثمّ ماذا؟؟ أشعر بالأسف الشديد اتجاه نفسي، أريد أن أعتذر لها، ولكن هل يستطيع الاعتذار أن يُصلح الخراب الهائل الذي ملأَ روحي؟ اعتذاري هو مهزلة وضربة على خد الشعور ربما يا صديقي، أبدو هادئة ولكنك لا تعلم ما الذي يحترق بداخلي، كل الأشياء التي انتظرتها في حياتي تأخّرت، غابت، اختفت، ولن أنتظر شيئا بعد الآن، أعرف صعوبة ذلك، لكن سأتوقف عن هدر عُمري المتبقي..فأنا لم أشعُر يوماً أنني كنتُ من أولوِيّات الأشياء.. كنت دائماً في نهاية القائمة، گكِتابٍ منسي على الرف گعجوز تنتظر إبنها المُسافر، گسَجين لا يأتي أحد لزيارته گميت لا أحد يتذكره، گجنازةٍ مؤجلة گشخصٍ ليس لهُ وجود في هذه الحياة ويصرخ الصمت و يمخر صوته عباب الوجد مارداً متقمصاً ثوب حياء صوتي قلب له أنين ووجدٍ من غياب و سبات عميق تعشه روحي تختال به رنة عازفة ناي. تختال وتتأرجح في صمت الوجد وليالٍ تؤرق عيون الليل تقرح بها أهداب الحنينِ ولا تُبقي للحياة جمال. وذاك الباب الذي ينبض، يخفق، يهفو يدندن للقاءٍ تعسرَ وباتَ في هوة الفقد والتيه مسربلا بقيودٍ لا فكاك منها لأنها مني ولي أقيدُ العمرَ بها وعمري وسنواته يقض مضاجع الحنين والضياع هيهات يا صديقي قلبي أوجعته الأحزان سكنته في سرابيل مقنعة و تمردت على وجود الفرح داخله بلا آهة بلا ندم ولا جواب يشفي غليل قلبي الذي تاهت معالمه وتاهت الحياة بدواخله فغاب في متاهات الفقد السرمدي بلا وجود بلا أثر مهما تأوهت الأحزان وأظنه في سباته العظيم أشعر فعلا أني أنطفئ، يموت جزء مني كل يوم، عيناي فقدت لمعة الشغف وملامحي شاخت فجأة تكدست فوقها ترهلات الزمن، سرقت الأيام ملاح طفلة يافعة متوهجة بالطموح، ثقبت جيوب الأمل بداخلي وساحت الذاكرة المليئة بالأحداث نحو بحر النسيان سلام علينا نحن من تساقطت أحلامنا في جب الإهمال، أطعمتنا الأيام من موائد الخيبة، سرق الدهر منا بهجة الأفراح، تعثرنا ولم يفكر أحد بجمعنا … نحن أبناء الألم. أرهقتنا مواسم التعب، استوطن الحزن دواخلنا وزعزعت الحياة ثباتنا، نفذت فرص الاستمرار ولم تعتذر بعد لنا الأحلام. تمر الأيام وتعاتبني الذكريات، ل ترتطم بالأحلام الغائبة، وكلي معلقة على بوابة النسيان، تداعبها نجوم سطعت، وأفل نجمها، وبات الحزن يشتد لذكراها العابرة. تمر الأيام والأعوام بوشاح الزمن، لتمضي بين أجفاني، فتعذب الروح والقلب. هلا أصبحت الأيام سترا خلف أسوار البعد، والهجر، فأختار القلب الطريق الصعب. فقل بربك، كيف نمضي، وكيف نسير، والاضطراب في العقل يخنقه الصوت، وبلا رحمة نتابع المسير مع الفكر المخنوق، داخل أسوار الشك و اللارحمة ؟؟ يبقى السؤال يسكن الروح لأطرق باب الهجر والسفر الموعود، ليرحل كل وفاء لحياة لا غدر فيها، بعد أن سكن الغدر في جذور أعماقي، تتغذى ذواتنا من عمق الحقيقة، لترويها بلا عودة و بلا خارطة أمان، ولا وجهة تعينني في درب اللاعودة، وليت هناك ضوء يساعد في فك حصار الضغط، والشتات عن الحياة. جدا أفكاري متضاربة، ما عادت تتحمل ضجيج العقل، تنغرز بي في متاهات الصمت المميت، أحزاني فاقت الوصف، أرددها بخفقان القلب، تأخذني إلى شجونٍ تجدرت في أعماقي، ليزيد ضعفي، ويزيد أفكاري اضطرابا، وكلما حاولت الخروج منها، تختفي معها نجوم دربي، لتتصارع الليالي مع ليالي الشتاء القاتمة. لكم تحملت وانتظرت نجوما تنير دربي، تنسيني أوجاع عمر مضى، فضاع قمري، ونجومي، واختفت في ذهول، وما بي تمزقه الصرخات، خاب ظني وبقيت الآهات تتغلغل في الصدر، وتنغرز به، كسكين لا يشبع من دم. أواه أيها الدرب، ما أطول ليالي الاضطراب، والفقد، وصعوبة الظن ، وللرحيل وجه آخر، وأنا الغريبة القابعة في صومعة الصمت، فكيف لعابرة مثلي أن تمتطي الأمان، وقد سرجت بروحها منذ عقود قوافل الرحيل، وكيف للبنفسج أن يغفو على غصن سنديانة، وعمر الورود بعمرها عليل، وكيف لي أن استلف ليلاً، وأرتق أسمال عمرٍ، والبوح يزمله بحياتي ألف عويل؟؟ أطلق عنان البوح، وروض السابحات في المقل، كنص أجوف خال من المعنى، كظل هارب من الحقيقة، خذلتني الحياة والأحلام وكل الأشياء التي استندت عليها يوما ، ذبل الزهر على شرفات قلبي، وجفت الأحلام من سماء أحلامي، احترق موطن الأمل بداخلي وغطى رماد الخيبة ملامح بهجتي، سرق الدهر مني عمرا، انطفأت شموع الفرح في زوايا الذاكرة، ومزق الزمن أوراق الأمنيات المعلقة، فوق شبابيك الامتنان، متعبة أنا كشيء ثابت في مكانه، تسلب منه الحياة ولا يحرك ساكنا، كمحارب خسر الحرب مهزوم، منكسر، مخذول يتأمل الأرض التي ستأكل من جسده بمرارة الخسارة . أنا اليوم إنسانة بلا تاريخ، بلا ماض، بلا ذكريات دافئة وبمشاعر باردة حد الموت، شيء يجهله المفهوم و لا يتقبله الوجود. جئت اليوم أمتطي أيل الأرق، استلف ظلال ستائر الهزيمة، وعلى عاتق قهوتي رميت همومي، فمرت ببابي هذا الصباح ظبية بين عينيها يغفو النسيان، وفوق عِطف مآقيها يختال الغزل؛ أهدتني مكاتيب تغفو تحت أهدابها الأحزان يفوح منها عبق الذكرى، وتشتعل بين سطورها مواقد، توثق بالقرب من الحرف قوافي حزينة، وتخاف ثم تخاف، إذا عسعس الليل أن تستيقظ في القلب العلل. جدا عمر كئيب، وأصداء التعب تتردد في أروقة شراييني، ونار الوجد تذيب روحي ولهيب من الذكريات تهب على قلبي الحزين. أنه يئن متألما يبكي بلا صوت، ممزق قلبي و ليتني أستطيع دفن حنيني، وكم أتمنى أن أصرخ صرخة تشق عباب السماء ليرجع صداها إلى ذاتي فتسألني .. ألا يصلك أنيني وصدى حنيني؟؟ بقلم: هند بومديان