في 16/6/2021 نشرت القناة 12 الإسرائيلية نبأ أفادت فيه أن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي انتهيا من تشكيل وفود ستكون معنية بالمباحثات لأجل إعادة النظر لتطبيقات اتفاق أسلو، تمهيداً لاستئناف المفاوضات حول قضايا الحل الدائم. في اليوم نفسه عقبت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين على هذا النبأ، ودعت السلطة الفلسطينية إلى عدم الانجرار وراء سراب المباحثات أو المفاوضات الثنائية، لأنها ستبنى على الوهم بإمكانية أن التفاوض سيقنع دولة الاحتلال بالكف أو التراجع عن سياسة الاستعمار الاستيطاني التوسعي، فضلاً عن أن الذهاب إلى هذه المفاوضات سيشكل انتهاكاً لقرارات المجلس الوطني في دوراته الأخيرة التي دعت إلى إعادة النظر بدولة الاحتلال، باعتبارها دولة عدوان، ما يتطلب تعليق الاعتراف بها، ووقف التنسيق الأمني معها، ومقاطعتها اقتصادياً. في اليوم التالي أصدر أحد أعضاء اللجنة التنفيذية بياناً نفى فيه صحة الأنباء الواردة في الفضائية الإسرائيلية، وانتقد ضمناً بيان الجبهة الديمقراطية، ودعا إلى عدم تصديق ما ينشره الإعلام الإسرائيلي من أكاذيب. بعد ذلك نشرت صحيفة الشرق الأوسط السعودية خبراً يؤكد صحة ما جاء في الفضائية الإسرائيلية، ويكشف عن جانب من جدول أعمال المباحثات الثنائية لما تقترحه السلطة الفلسطينية. لكن دون أي تعليق من جانب السلطة الفلسطينية هذه المرة. في 30/6/2021 كشفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية النقاب عما أسمته مذكرة من السلطة الفلسطينية إلى الخارجية الأمريكية تحمل 30 بنداً تقترحها السلطة الفلسطينية جدولاً للمفاوضات الثنائية مع دولة الاحتلال، وقد التقت معلومات "هآرتس" مع جانب كبير مما نشرته "الشرق الأوسط". ومرة أخرى دون أي تعليق من جانب السلطة الفلسطينية. في الاجتماع الأخير للجنة التنفيذية برئاسة الرئيس محمود عباس، تحدث رئيس حكومة السلطة الفلسطينية محمد اشتيه عن الوضع فقال إنه يعاني من فراغ سياسي، وأن استئناف المفاوضات مع إسرائيل من شأنه أن يملأ هذا الفراغ. وفي عودة إلى الوراء قليلاً، يمكن لنا أن نلحظ ما يلي: في 9/2/2021 أدلى وزير خارجية حكومة السلطة الفلسطينية بتصريح أكد فيه استعداد الجانب الفلسطيني وإلحاحه على ضرورة استئناف المفاوضات مع إسرائيل برعاية الرباعية الدولية. في 29/5/2021 أكد وزير خارجية مصر حرص بلاده واهتمامها لمتابعة الاتصالات للتعجيل في استئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية ودوماً برعاية الرباعية الدولية. في ذروة الحرب العدوانية على قطاع غزة، وانتقال هبة الضفة الفلسطينية في الضفة المحتلة، تحدث الرئيس محمود عباس إلى البرلمانيين العرب مجدداً التمسك بما يسمى استراتيجية الرئيس عباس، من ثلاث نقاط: حكومة وفاق وطني فلسطينية مقبولة دولياً، أي تلتزم الشروط الثلاثة للرباعية الدولية ومفاوضات ثنائية مع إسرائيل تحت إشراف الرباعية الدولية ورعايتها، وحل لقضية اللاجئين متفق عليه مع إسرائيل. ثم بعد وقف إطلاق النار على غزة، وفي زيارته إلى رام الله، دعا وزير خارجية الولاياتالمتحدة أنتوني بلينكن إلى تشكيل حكومة فلسطينية جديدة خالية من الفساد، ورشح لذلك رئيس الحكومة الأسبق سلام فياض، وأوضح أن الولاياتالمتحدة ليست جاهزة لرعاية المفاوضات سريعاً، بل ربما تأخر الأمر أكثر من 7 أشهر، وبعض الدوائر تحدثت عن عام أو أكثر. وأخيراً وليس أخيراً، عين الرئيس عباس، حسين الشيخ، وزير الشؤون المدنية في حكومة السلطة، مديراً لدائرة المفاوضات وعضواً مراقباً في اللجنة التنفيذية. في خطوة ذات دلالات لا تحتاج إلى عناء لتفسيرها، بحيث يمتلك، في صفتيه المذكورتين صلاحيات المباحثات مع إسرائيل في إطار أسلو، وصلاحيات المفاوضات الثنائية بإشراف الرباعية الدولية حول قضايا الحل الدائم. ماذا يمكن للمراقب أن يستخلص من هذا كله: إن الخيار السياسي الاستراتيجي لقيادة السلطة الفلسطينية، مازال على ما هو عليه، كما أعلن عنه الرئيس عباس منذ توليه رئاسة السلطة: المفاوضات السلمية مع إسرائيل، ورفض كل أشكال (العنف). وعدم الذهاب إلى خطوات منفردة، الإعلان من جانب واحد عن بسط السيادة الفلسطينية على أراضي الدولة الفلسطينية وعدم مقاومة قوات الاحتلال والتمسك بآليات أوسلو، خاصة التنسيق الأمني والاندماج الاقتصادي. إن ما اتخذه المجلس الوطني الفلسطيني في دوراته الأخيرة (2018)، وما اتخذته دورات المجلس المركزي (2018) تم تحت ضغط الأحداث المتلاحقة، بما فيها قرار إدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده لها. إن ما اتخذه الاجتماع القيادي في 19/5/2020 من قرارات تتعلق بالتحلل من اتفاق أوسلو والتفاهمات مع الولاياتالمتحدة، كان تحت ضغط الأحداث أيضاً: إطلاق صفقة القرن التي تقوم على مبدأ الضم، وتشكيل حكومة إسرائيلية خطتها تطبيق خطة الضم وتكريس قانون القومية اليهودية. ويومها خلصت الجبهة الديمقراطية إلى أن هذه القرارات ما هي إلا خطوات تكتيكية لا تندرج في إطار استراتيجية سياسية جديدة. لتطبيق قرارات المجلس الوطني. إن ما اتخذه اجتماع الأمناء العامين بين رام الله وبيروت في 13/9/2020 برئاسة الرئيس عباس، كان يندرج هو الآخر في إطار الخطوات التكتيكية جاء رداً تكتيكياً على خطوات التطبيع (خاصة خطوة دولة الإمارات المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع محمد دحلان). أكد ذلك لاحقاً تعطيل قرار تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، وتعطيل تشكيل لجنة لإنجاز استراتيجية وطنية جديدة للمجابهة واختصار كل هذا في حوار ثنائي بين حركتي الانقسام فتح وحماس، أحلا فيه الانتخابات محل قرارات 13/9/2020 إن الدعوة للانتخابات لم تندرج في إطار سياسي للإصلاح الشامل للنظام السياسي الفلسطيني، بما ينسجم مع استراتيجية المواجهة بل عادت نزولاً عند نصائح وضغوط أمريكية وأوروبية لتجديد الشرعية تمهيداً لانعقاد المفاوضات مع إسرائيل. وقد ساد الجو العام إحساس مسبق بإمكانية إلغاء الانتخابات إذا كانت قيادة السلطة الفلسطينية لا تضمن فوزها بالأغلبية واستعادة زمام الحكم. وبات مؤكداً أن مسألة الانتخابات في القدس شكلت مجرد ذريعة لإلغاء الانتخابات، بعد أن تبين بالملموس، ووفق العديد من المعطيات، أن موقع فتح سيكون مرة أخرى في خطر. إن القرار الوحيد الذي يعبر بصدق عن استراتيجية قيادة السلطة الفلسطينية ويترجم مشروعها القائم على الالتزام باتفاق أوسلو، هو قرارها المنفرد، في 17/11/2020 والذي انقلبت فيه على مواقف الإجماع الوطني، وأعلنت فيه العودة إلى الالتزام باتفاق أوسلو، بشقيه الأمني (التنسيق الأمني) والسياسي (العودة إلى المفاوضات خياراً وحيداً). ولإدراك السلطة أن قرارها المنفرد هذا، بالعودة البائسة إلى أوسلو، يتناقض مع قرارات الإجماع الوطني، ومع الرأي العام للشعب الفلسطيني، الذي أدرك بالملموس إفلاس أوسلو، حاولت السلطة أن تتذاكى بالادعاء أن العودة إلى أوسلو شكلت انتصاراً لها على حكومة نتنياهو، وسياسة تهميش الاتفاق. ولعلها تناست أنه في الوقت الذي يلجأ فيه النظام السياسي إلى تصوير الهزيمة على أنها انتصار، ويحاول أن يتغابى الراي العام، يكون هذا النظام إلى أرذل العمر في مسيرته، يفقد مصداقيته أمام الرأي العام، ويفقد هيبته، ويفقد كثيراً من شرعيته السياسية ما يدعوه عندئذٍ إلى كل أشكال القمع، أداة شبه وحيدة لفرض رأيه على الرأي العام، وإسكات الأصوات المعارضة ولو أدى ذلك إلى القتل، وتحميل المسؤولية لأفراد في الأمن، مع أن القتل عند ذلك لا يشكل مجرد جريمة فردية يرتكبها هذا الشرطي أو ذاك، بل جريمة سياسية يرتكبها النظام السياسي، تحت غطاء منه ترتكب الجرائم ضد الأفراد. كخلاصة، يمكن القول إن الانقسام السياسي لم يعد بين فتح وحماس فقط، بل بات ذلك بين مشروعين. مشروع الانزلاق مع اتفاق أوسلو، نحو نهاياته المدمرة في نفق مظلم لا تبدو في نهايته أية إشارة لضوء ما، ولو كان شديد الخفوت، بل ظلام يتلوه ظلام؛ وبين المشروع الوطني، الذي يجري التعبير عنه في التحركات اليومية في أنحاء المناطق المحتلة، والذي وصل إلى ذروته في الأيام المجيدة لانتفاضة الضفة وثورة الغضب في ال 48، ومعركة سيف القدس، والنهوض الصارم لمناطق اللجوء والشتات، والتي أفلحت بتراكم شبه يومي في أحداث الانعطافة الكبرى في الرأي العام العالمي لصالح القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية. بقلم: معتصم حمادة *عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين